للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
(٦) من هيلانة إلي أراسم في يناير سنة -١٨٥
قد تلقيت مكتوبك أيها الحبيب من يد البريد السري، فكان له عليّ أحسن أثر
وأنفعه، فإني كنت في حاجة عظمى إلى شيء يسليني ويسرّي عني بعض الألم،
فلشدّ ما قاسيته منه مدة شهر، قد ضعفت صحتي وانحطت قوتي، وللطبيب الذي
يداويني في غيبتك ويوجه إليّ كثيرًا من الأسئلة فكرة في سبب هذا المرض أراها
تَشِف عن جنونه فإنه يزعم أني... كلا، إنني لموقنة بخطئه في ذلك.
مهما كان الأمر أريد أن أراك، فإن هذا الفراق العاجل بعد الزواج الذي لم
يمض عليه أكثر من سنة خَطْب هائل لا يطاق، ولا يمكنني أن أعيش معه، وإني
مسافرة مساء هذه الليلة من باريس ومعي إجازة موقع عليها من ناظر الحقانية بالإذن
لي بزيارتك، فلا بد أن يُسمح لي بدخول السجن، ولا يمكن أن ما عقدته رابطة
الحب يحله استبداد المستبدين.
لا تخش من شيء في هذه المقابلة، فأنا لم أقصد بها الرغبة إليك في أن
تستَميح الحكومة عفوًا عنك، فإني وإن كنت أتألم لغيبتك كثيرًا إلا أني أحترم
وجدانك وهواجس نفسك، وإن لم أفهمها حق الفهم، اعلم أن فيّ ما في بقية النساء
من مواضع الضعف ومظان العجز إلا أني منزهة من دناءة الخدين وخيانتها
لصاحبها، فإن شرفك داخل فيما أحبه منك، وإنك على احتباسك عني وبعدك عن
ناظري بما فيك من عزة النفس والشهامة وإباء الضيم لأجَلُّ في نفسي منك وأنت
بين يدي أرى مبادئك ومعتقداتك التي جريت على سننها طول حياتك، إني لما
تزوجتك تزوجت شيئًا آخر معك ألا وهو ضميرك ووجدانك، فإن بقيت على ولائه
متبعًا ما يرشدك إليه أقسمت لك أني أكون في الإخلاص لك كما تكون في الإخلاص
له مدة حياتي، أودعك الآن لأراك قريبًا إن شاء الله، وأكاشفك محبة قلبي إياك
وامتلاءه بالإشفاق عليك.
(٧) من هيلانة إلي أراسم في ٢٠ يناير سنة - ١٨٥
إني لم يتيسر لي أن أحدثك بشيء مما أردت محادثتك به عند اللقاء مع أن
حديثي ذو شجون، من أجل ذلك أردت أن أعتاض عما فاتني منه بالمكاتبة
فسطرت لك هذه الكلمات.
كان مجيئي إلى السجن بالأمس واستفتاحي بابه في الساعة الثانية بعد الظهر
وبعد أن تحادثت مع مديره برهة أقبل نحوي أحد خزنته يهدج في مشيته وأنا أسمع
خفق نعليه بشدة على البلاط، وأخذني إلى الغرفة التي كنت أنتظرك فيها، كان قلبي
قد وعدني قبل دخولي السجن ورؤيتي ما فيه أن يستجمع كل ما لديه من الجراءة
والثبات؛ ليدفع بذلك عني بوادر الجزع وخواطر الهلع، فلم يلبث بعد دخولي هذه
الغرفة أن نقض ميثاقه وحل وثاقه، وأعوزتني رباطة الجأش وثبات الجنان لما
رأيتني وحيدة لا أنيس لي، وجمد الدم في عروقي لما استولى عليّ من الدهشة
والوحشة مع انقطاع الصوت في قباب السجن إلا ما يكون من صرير الأبواب
وصلصلة أغلاقها من بعيد أثناء فتحها وإقفالها، فلما بدا محياك لناظري فقدت بقية
رشادي وغبت عن وجودي، فإن فرحي برؤيتك بعد احتجابك عني وحزني لوجودك
في مثل هذا المكان قد أثارا عليّ جميع ضروب الانفعال ففدحتني وصرعتني، ولم
تبق لي من القوة سوى ما أسكب به العبرات، وأردد الزفرات، فألقيت نفسي عليك،
وكنت كما تعلم بين يديك، إنني رأيتك وقت التلاقي شاحب اللون متمقعه، فهل
كنت مريضًا؟ وليس من العجيب أني نسيت أن أسألك عن ذلك، فإنني إذ ذاك كنت
فانية فيك، فما كنت أفتكر ولا أرى ولا أحس ولا أقول شيئًا.
أتعلم ماذا كان يقلقني من الأفكار فوق ذلك؟ إنه كان يخيل لي أن لتلك
الجدران - جدران السجن - المخيفة أبصارًا وأسماعًا وإدراكًا، وأنها تحس بي لو
صافحتك، وتراني لو أشرت إليك إشارة ما، وتسمعني لو أفضيت إليك بسر فتذيعه.
لما عاد إلينا خازن السجن ونَبَّهنا إلى أن وقت التلاقي الممنوح لنا قد انقضى
من بضع دقائق قفّ شعري واقشعرّ جسمي وطار لُبّي، ولو أقسمت له عن سلامة
صدر بأنه لم يمض على دخولي السجن شيء من الزمن وأن في الساعة خللاً أدّى إلى
هذا الخطأ - لما كنت في اعتقادي حانثة، ووددت لو بعت حياتي وجميع ما أملكه
من حطام الدنيا - وإن قلّ - بساعة أخرى أقضيها معك.
لم تكن لي مندوحة من فراقك على غصتي بمرارته، ففارقتك مملوءة الفؤاد
من الحزن، مستفرغة الدموع من العينين، معتقلة اللسان من الوجوم على شرفٍ من
فقد الإدراك والشعور، واجتزت مكان الأسلحة يتقدمني دليل يحمل مصباحًا، فإن
الليل كان قد جنَّ على ما ظهر لي، لم يكن ابتعادي عن حضرتك حائلاً بيني وبينك،
ولا شاغلاً قلبي عن الاستغراق في شهودك، كلا إنني كنت أخالني في كل خطوة
أخطوها أسمعك تناديني مسترجعًا إياي، ولقد التفتُّ مرة لأتبين هذا النداء الوهمي
فلم يقع نظري إلا على وجه من الحجر، ذلك هو أحد البابين العظيمين
الحافظين لمدخل القرية.
سار بي ذلك الدليل الخرّيت الواسع الخبرة بشاطئ المحيط ومواقعه على حافة
الساحل متجهًا نحو قرية... حيث يجب أن أقضي ليلتي هناك في ناموس [١]
الصيادين، هذا الطريق وعثٌ، وقد أمضني فيه الحزن والنصب حتى لقد حدثتني
نفسي غير مرة بأن أجلس فيه وأقضي ليلتي على تلك الرمال، وإني أستميحك العفو
عن ذلك، فإني كنت أعلل النفس بقولي: إنني بجلوسي هاهنا أنام بالقرب من سجنه
على الأقل، وإذا اغتالتني الأمواج فحسبي أنني قضيت نحبي وأنا على مقربة منه،
كنت في سبيل توطين نفسي على الصبر وتشجيعها على احتمال المكروه أردد
النظرإلى جهة... وكان الليل ساكنًا إلا أنه كان حالك الظلام مخيفه، فلا كوكب يبدو
فيه ولا قمر، وكان يزيد في كثافة حجب الظلام ذلك السحاب المركوم وما يجود به
من الرذاذ البارد، أما البحر فكنت أسمع له من بعيد زمجرة وهديرًا، وأرى فوقه
أبخرة سنجابية اللون قد تنوّرت - على ما وصفت لك من شدة الظلمة - ضوءًا
ضعيفًا كان يظهر بصيصه من نافذة في جهة الجبل، وتعذر عليّ أن أحكم إن كان
هذا الضوء المتذبذب منبعثًا من السجن أو من أحد مساكن القرية، وكنت مع هذا الشك
الذي كان يخامرني في مصدره أنظر إليه نظر المحب إلى أثر حبيبه، وكنت أفتكر أنه
إن انطفأ ينطفئ معه نبراس حياتي.
قد وصلنا بفضل همة الدليل وخبرته بعد الجد في السير إلى نقطة تقابل... فلم
يبق بيننا وبينها سوى جدول يُجتاز على المركب، جلست في المركب على مقعد من
الخشب أرشدني إليه الجدافون لما أضنتني الأفكار ونهكت قواي الخواطر، فكانت
هذه الراحة والسكون المستتب حولي سببًا في توجيه أفكاري إلى فكرة جديدة، فبينا
أنا أفكر فيما كنت أفضيت به إليك من حالة صحتي وما استنتجه العلم منها إذ شعرت
على الفور بحركة شيء حي تحت منطقتي - الله اكبر - إن الطبيب كان مصيبًا،
فسأكون عمّا قليل أمًّا، لا أحسبك نسيت أن أعظم أمنية كانت لنا في أيام الهناء
الماضية هي أن يرزقني الله ولدًا منك، وإنني لترتعد فرائصي عند التفكر في ذلك.
ومهما كان من الأمر فلا أُخفي عليك نتيجة شعوري بالحمل، وهي أني بعد أن
تكدرت برهة أحسست بأن شعاعًا من الفرح والعزة يضيء في جوانب ظلمات حزني
وأني في رجوعي من عندك لم أكن فريدة محرومة من الرفيق، وخِلتُ أني قد
وجدتك بعد فقدك، نعم أدركت مع الزهو والإعجاب أن ذلك الذي يجنه حشاي
وتنضم عليه جوانحي هو أنت أيها الحبيب، وهل هو إلا مثالك الحي وبضعة من
لحمك ودمك؟ ثم خُيل لي بعد ذلك بلحظة أن الأمواج المضطربة تُحَييني بلسانك
تحية الزوجة والأم، وقلت في نفسي: إنني الآن في وسعي أن أقتحم ظلمات الليل
والرمال الوعثة، ولا أبالي بالسجن ولا بأوامره الشديدة وحرَّاسه وسجانيه، وصحت
بأن هؤلاء ليس في قدرتهم أن يأخذوه مني، وأنه هو في الجملة أبوه، أو على الأقل
بضعة منه يمكنني أن أخفيها في مستقري فأجعلها حرة بعيدة عن عدوان المعتدين،
كما تخفي اللبؤة الجريحة شبلها في عرينها.
أقول هذا ولكنني أرى أمرًا يروعني ويبلبل فكري وهو طريقة تربية هذا الولد
فإني طالما سمعتك تتكلم فيما يجب على الوالدين لأولادهم بعبارات هي من سمو
البلاغة، وقوة التأتير بحيث إن قلبي كان يخفق لسماعها أملاً في أنه سيكون المقصود
بها، واليوم قد اقترب تحقق هذا الأمل، وأنا مِن تَحَقُّقِهِ في إشفاق ورعب.
مَن ذا الذي يقوم بتلك الفروض التي أنت تعلمها أكمل العلم، فقد كنت تقول
لي: لو رزقني الله ولدًا لوقفت حياتي على تعليمه وتربيته، وكنت تجاهر كل
المجاهرة بإنكار الطرق السائدة في تربية الناشئين واستهجانها شديد الاستهجان، كل
ذلك لا يزال منقوشًا في ذاكرتي، لكني بقدر ما كنت أعجب بأفكارك ومقاصدك
تعتريني الآن رعدة خوف أمام هذا التكليف الذي سيقع ثقله عليَّ وحدي، فقد فرَّق
بيننا قانون الإنسان بهوّة حفرها لتكون حاجزًا يحول بيني وبين الوصول إليك في
وقت أكون فيه أشدّ حاجة إلى الاسترشاد بنصائحك والاستضاءة بنور معارفك
والاعتماد على معونتك الأدبية، ليت شعري ما سيكون من أمر هذا الولد إذا كبر
وهو محروم من رعاية والده وعنايته؟ وما عسى أن أفعله له وأنا كالقصبة الضئيلة
قد رزحت بضعفي وضعضعني سقمي؟
قد وجدت قوبيدون الزنجي البارّ الذي أحضرته معك من أمريكا في انتظاري
هو وزوجته على الشاطئ الآخر للجدول، فلما رأياني أرادا تقبيل يدي رغمًا عني
قائلين: إن هاتين اليدين صافحتا يديك، وإن لك الفضل عليهما في الحصول على
حريتهما، ما وصلت إلى الشاطئ إلا وأنا في قفقفة من البرد قد وصل أثرها إلى
أعماق نفسي، وكانت ثيابي مبللة، فوجدتهما والحمد الله قد أعدا لي فراشًا في أحد
نواميس الصيادين التي على ضفة الجدول، وأذكيا لي بها نارًا من قضبان أشجار
يابسة، فأخذ البرد يزول عني تدريجًا بتوقد اللهب في المستوقد، وارتحت لما كان
يبديه لي كل من هذين الشخصين من إخلاصه في الحب والولاء، ما أشد عدوى بِر
الإنسان وأعظم أثر إحسانه، فإني قد نِمت هذه الليلة أحسن من نومي في سوابقها
بعد ذلك النهار- نهار التعب الجسماني والنفساني- الذي كدت فيه أن أسخط على
الحياة وأسأمها، وأنا أكتب إليك الآن في ناموس الصيادين بعد استيقاظي من النوم
صباحًا.
تجد مكتوبي كما اتفقنا بالأمس مخبأ فيما أرسله لك من الملابس التي توليتُ
طيها وإصلاحها بنفسي، ورق هذا المكتوب وإن كان رقيقًا إلا أنه متين، وقد
طويته طية جعلته فيها على شكل زر، فليت شِعري هل يتيسر لك قراءة خطي الذي
هو كأرجل الذباب؟ !
سأعود بعد غد إلي السجن، فقد وُعدت بأن يؤذن لي في الدخول من الساعة
الأولى مساء، وعسى أن أتجلد في هذه المرة فأستجمع شتات فكري، أُقَبِّلك الآن
قُبلة الوداع بكل ما في نفسي من قوة الشوق، والملتقى قريب إن شاء الله. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))