وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن تصوير الشبه بين المختلفين في الجنس مما يحرك قوي الاستحسان، ويثير الكامن من الاستظراف، فإن التمثيل أخص شيء بهذا الشان، وأسبق جار في هذا الرهان، وهذا الصنيع صناعته التي هو الإمام فيها، والبادئ لها والهادي إلى كيفيتها، وأمره في ذلك أنك إذا قصدت ذكر ظرائفه وعد محاسنه في هذا المعنى، والبدع التي يخترعها بحذقه، والتأليفات التي يصل إليها برفقه، ازدحمت عليك، وغمرت جانبيك، فلم تدر أيها تذكر، ولا عن أيها تعبر، كما قال: إذا أتاها طالب يستامها ... تكاثرت في عينه كرامها وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق [١] ، وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبهًا في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، وينطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين، كما يقال في الممدوح: هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهة ماءً ومن أخرى نارًا كما قال: أنا نار في مرتقى نظر الحا ... سد ماء جارٍ مع الإخوان وكما يجعل الشيء حلوًا مرًّا، وصابًا عسلاً، وقبيحًا حسنًا، كما قال: حسن في عيون أعدائه أقـ ... ـبح من ضيفه رأته السوام [٢] ويجعل الشيء أسود أبيض في حال كنحو قوله: له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع [٣] ويجعل الشيء كالمقلوب إلى حقيقة ضده كما قال: غرة بهمة ألا إنما كنـ ... ت أغرًّا أيام كنت بهيمًا [٤] ويجعل الشيء قريبًا بعيدًا معًا كقوله: دانٍ على أيدي العفاة وشاسع وحاضرًا وغائبًا كما قال: أيا غائبًا حاضرًا في الفؤاد ... سلام على الحاضر الغائب ومشرقًا مغربًا كقوله: له إليكم نفس مشرقة ... إن غاب عنكم مغربًا بدنه وسائرًا مقيمًا كما يجيء في وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة، وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي أبو الحسن: وجوابة الأفق موقوفة ... تسير ولم تبرح الحضرة وهل يخفى تقريبه المتباعدين، وتوفيقه بين المختلفين، وأنت تجد إصابة الرجل في الحجة وحسن تخليصه للكلام، وقد مُثلت تارة بالهناء ومعالجة الإبل الجربى به [٥] , وأخرى بحز القصاب اللحم، وإعماله السكين في تقطيعه وتفريقه في قولهم: (يضع الهناء مواضع النُقب (وهو الجرب) ، ويطبق المفصل) [٦] ، فانظر هل ترى مزيدًا في التناكر والتنافر على ما بين طلاء القطران، وجنس القول والبيان، ثم كرر النظر، وتأمل كيف حصل الائتلاف، وكيف جاء من جمع أحدهما إلى الآخر ما يأنس إليه العقل ويحمده الطبع، حتى إنك لربما وجدت لهذا المثل إذا أورد عليك [٧] في أثناء الفصول، وحين تبين الفاضل في البيان من المفضول، قبولاً، ولا ما تجد عند فوح المسك ونشر الغالية [٨] ، وقد وقع ذكر الحز والتطبيق منك موقع ما ينفي الحزازات عن القلب، ويزيل أطباق الوحشة عن النفس، وتكلف القول في أن للتمثيل في هذا المعنى المدى الذي لا يجارى إليه، والباع الذي لا يطاول فيه، كالاحتجاج للضرورات، وكفى دليلاً على تصرفه فيه باليد الصناع، وإيفائه على غايات الابتداع، أنه يريك العدم وجودًا والوجود عدمًا، والميت حيًّا والحي ميتًا، أعني: جعلهم الرجل إذا بقي له ذكر جميل وثناء حسن بعد موته كأنه لم يمت، وجعل الذكر حياة له كما قال: (ذكرة [٩] الفتى عمره الثاني) ، وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنيء بالموت، وتصييرهم إياه - حين لم يكن ما يؤثر عنه، ويعرف به - كأنه خارج عن الوجود إلى العدم، أو كأنه لم يدخل في الوجود. ولطيفة أخرى له في هذا المعنى هي - إذا نظرت - أعجب، والتعجب بها أحق ومنها أوجب، وذلك جعل الموت نفسه حياة مستأنفة، حتى يقال: إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم: (فلان عاش حين مات) يراد: الرجل تحمله النفس الأبية وكرم النفس والأنفة من العار على أن يسخو بنفسه في الجود والبأس، ففعل ما فعل كعب بن مامة [١٠] في الإتيان على نفسه، أو ما يفعله الشجاع المذكور من القتال دون حريمه، والصبر في مواطن الإباء، والتصميم في قتال الأعداء، حتى يكون له يوم لا يزال يذكر، وحديث يعاد على مر الدهور ويُشهر، كما قال ابن نباتة: بأبي وأمي كل ذي ... نفس تعاف الضيم حرهْ يرضى بأن يرد الردى ... فيميتها ويعيش ذكره وإنه ليأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدة، ويشتق من الأصل الواحد أغصانًا في كل غصن ثمر على حدة، نحو أن الزند بإيرائه [١١] يعطيك شبه الجواد، والذكي الفطن وشبه النجح في الأمور والظفر بالمراد وبإصلاده [١٢] شبه البخيل الذي لا يعطيك شيئًا، والبليد الذي لا يكون له خاطر ينتج فائدة ويخرج معنى، وشبه من يخيب سعيه ونحو ذلك. ويعطيك [١٣] من القمر الشهرة في الرجل والنباهة والعز والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان والنقصان بعد الكمال، كقولهم: (هلال نما فعاد بدرًا) يراد بلوغ النجل الكريم المبلغ الذي يشبه أصله من الفضل والعقل وسائر معاني الشرف كما قال أبو تمام: لهفي على تلك الشواهد منهما ... لو أمهلت حتى تصير شمائلا لغدا سكونهما حجًى وصباهما ... كرمًا وتلك الأريحية نائلا [١٤] إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدرًا كاملا وعلى هذا المثل بعينه يضرب مثلاً في ارتفاع الرجل في الشرف والعز من طبقة إلى أعلى منها كما قال البحتري: شرف تزيَّد بالعراق إلى الذي ... عهدوه بالبيضاء أو ببلنجرا [١٥] مثل الهلال بدا فلم يبرح به ... صوغ الليالي فيه حتى أقمرا ويعطيك شبه الإنسان في نشأته ونمائه إلى أن يبلغ حد التمام، ثم تراجعه إذا انقضت مدة الشباب، كما قال: المرء مثل هلال حين تبصره ... يبدو ضئيلاً ضعيفًا ثم يتسق [١٦] يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ... كر الجديدين نقصًا ثم ينمحق وكذلك يتفرع من حالتي تمامه ونقصانه فروع لطيفة، فمن ذلك قول ابن بابك: وأعرت شطر الملك شطر كماله ... والبدر في شطر المسافة يكمل [١٧] قاله في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره فخر الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا العباس الضبي، وخلع عليهما [١٨] . وقول أبي بكر الخوارزمي: أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ... مقيمًا وإن عسرت زرت لماما [١٩] فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه ... أغب وإن زاد الضياء أقاما المعنى لطيف، وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه الذي يحب، فإن الإغباب أن يتخلل وقتي الحضور وقت يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره لم يوالِ الطلوع كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي ويمتنع من الظهور في بعض، وليس الأمر كذلك؛ لأنه على نقصانه يظهر كل ليلة حتى يكون السرار. وقال ابن بابك في نحوه: كذا البدر يسفر في تمه ... فإن خاف نقص المحاق انتقب وهكذا ينظر إلى مقابلته الشمس واستمداده من نورها، وإلى كون ذلك سبب زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاف، وحصوله في المحاق، وتفاوت حاله في ذلك، فيصاغ منه أمثال ويبين أشباه ومقاييس، فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة: قد سمعنا بالغر من آل ساسا ... ن ويونان في العصور الخوالي والملوك الأولى إذا ضاع ذكر ... وُجدوا في سوائر الأمثال مكرمات إذا البليغ تعاطى ... وصفها لم يجده في الأقوال وإذا نحن لم نضفها إلى مد ... حك كانت نهاية في الكمال إن جمعناهما أضر بها الجمـ ... ـع وضاعت فيه ضياع المحال فهو [١٩] كالشمس بُعدها يملأ البـ ... ـدر وفي قربها محاق الهلال
وغير ذلك من أحواله كنحو ما خرج من الشبه من بعده وارتفاعه [٢٠] ، وقرب ضوئه وشعاعه، في نحو ما مضى من قول البحتري: (دان على أيدي العفاة) البيتين. ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع كقوله: كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نورًا ساطعا في أمثال كذلك تكثر، ولم أعرض لما يشبه به من حيث المنظر، وما تدركه العين نحو تشبيه الشيء بتقويس الهلال ودقته، والوجه بنوره وبهجته، فأنا في ذكر ما كان تمثيلاً، وكان الشبه فيه منويًّا. *** فصل آخر وإن كان مما مضى إلا أن الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثلاً فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له والهمة في طلبه، وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه أشد. ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ كما قال: وهن ينبذن [٢١] من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به، فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية، وتعمد ما يكسب المعنى غموضًا مشرفًا له وزائدًا في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك، أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب: إني لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في قوله: فإن المسك بعض دم الغزال ... وقوله: وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال وقوله: رأيتك في الذين أرى ملوكًا ... كأنك مستقيم في محال وقول النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقوله: [٢٢] فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وقول البحتري: ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم ... وللسيف حد حين يسطو ورونق وقول امرئ القيس: بمنجرد قيد الأوابد هيكل [٢٣] ... وقوله: ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الأقدام [٢٤] فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه؛ ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة، كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له وكان: من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا [٢٥] أو كما قال: تفتح أبواب الملوك لوجهه ... بغير حجاب دونه أو تملق وأما التعقيد فإنما كان مذمومًا؛ لأجل أن اللفظ لم يرتب الترتيب الذي بمثله تحصل الدلالة على الغرض، حتى احتاج السامع أن يطلب المعنى بالحيلة، ويسعى إليه من غير الطريق كقوله: وكذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل وإنما ذم هذا الجنس؛ لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله [٢٦] وكدك بسوء الدلالة، وأودع المعنى لك في قالب غير مستو ولا مملس، بل خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه منك عسر عليك، وإذا خرج خرج مشوه الصورة ناقص الحسن. هذا , وإنما يزيد الطلب فرحًا بالمعنى وأنسًا به وسرورًا بالوقوف عليه إذا كان لذلك أهلاً، فأما إذا كنت معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالضد مما بدأت به؛ ولذلك كان أحق أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك ثم لا يجدي عليك، ويؤرقك ثم لا يروق لك، وما سبيله إلا سبيل البخيل الذي يدعوه لؤم في نفسه، وفساد في حسه، إلى أن لا يرضى بضعته في بخله، وحرمان فضله، حتى يأبى التواضع ولين القول؛ فيتيه ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرض له بابًا ثانيًا من الاحتمال تناهيًا في سخفه، أو كالذي لا يؤيسك من خيره في أول الأمر فتستريح إلى اليأس، ولكنه يطمعك ويسحب على المواعيد الكاذبة، حتى إذا طال العناء، وكثر الجهد تكشف عن غير طائل، وحصلت منه على ندم لتعبك في غير حاصل، وذلك مثل ما تجده لأبي تمام من تعسفه في اللفظ، وذهابه به في نحو من التركيب لا يهتدي النحو إلى إصلاحه، وإغراب في الترتيب يعمى الإعراب في طريقه، ويضل في تعريفه. كقوله: ثانيه في كبد السماء ولم يكن ... لاثنين ثانٍ إذ هما في الغار [٢٧] وقوله: يدي لمن شاء رهن من يذق جرعًا ... من راحتيك درى ما الصاب والعسل [٢٨] ولو كان الجنس الذي يوصف من المعاني باللطافة، ويعد في وسائط العقود [٢٩] لا يحوجك إلى الفكر، ولا يحرك من حرصك على طلبه بمنع جانبه، وببعض الإدلال عليك، وإعطائك الوصل بعد الصد، والقرب بعد البعد، لكان (باقلَّى حارّ) ، وبيت معنى هو عين القلادة وواسطة العقد، واحدًا [٣٠] ، ولسقط تفاضل السامعين في الفهم والتصور والتبيين، وكان كل من روى الشعر عالمًا به، وكل من حفظه - إذا كان يعرف اللغة على الجملة - ناقدًا في تمييز جيده من رديئه، وكان قول من قال: زوامل للأشعار لا علم عندهم ... يجيدها إلا كعلم الأباعر وكقول ابن الرومي: قلت لمن قال لي عرضت على الأخـ ... ـفش ما قلته فما حمده [٣١] قصرت بالشعر حين تعرضه ... على مبين العمى إذا انتقده ما قال شعرًا ولا رواه فلا ... ثعلبه كان لا ولا أسده فإن يقل إنني رويت فكالدفـ ... ـتر جهلاً بكل ما اعتقده
وما أشبه ذلك دعوى [٣٢] غير مسموعة ولا مؤهلة للقبول، فإنما أراد بقولهم: (ما كان معناه إلى قلبك، أسبق من لفظه إلى سمعك) أن يجتهد المتكلم في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخل بالدلالة، وعاق دون الإبانة، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان غفلاً مثل ما يتراجعه الصبيان، ويتكلم به العامة في السوق. هذا , وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفًا، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لا بد فيها من بناء ثانٍ على أول، ورد تالٍ إلى سابق. أفلست تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله: (كالبدر أفرط في العلو) إلى أن تعرف البيت الأول، فتتصور حقيقة المراد منه ووجه المجاز في كونه دانيًا شاسعًا، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وترد البصر من هذه إلى تلك، وتنظر إليه كيف شرط في العلو الإفراط؛ ليشاكل قوله: (شاسع) ؛ لأن الشسوع هو الشديد من البعد، ثم قابله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب، فقال: (جد قريب) . فهذا هو الذي أردت بالحاجة إلى الفكر، وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه واجتهاد في نيله. هذا , وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله، فهل تشك في أن الشاعر الذي أداه إليك، ونشر بزه لديك، قد تحمل فيه المشقة الشديدة، وقطع إليه الشقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دره حتى غاص، وأنه لم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص؟ ومعلوم أن الشيء إذا علم أنه لم ينل في أصله إلا بعد التعب، ولم يدرك إلا باحتمال النصب، كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه، وأخذ الناس بتفخيمه، ما يكون لمباشرة الجهد فيه، وملاقاة الكرب دونه، وإذا عثرت بالهوينا على كنز من الذهب لم تخرجك سهولة وجوده إلى أن تنسى جملة أنه الذي كد الطالب، وحمل المتاعب، حتى إن لم تكن فيك طبيعة من الجود تتحكم عليك، ومحبة للثناء تستخرج النفيس من يديك، كان من أقوى حجج الضن الذي يخامر الإنسان أن تقول: (إن لم يكدني فقد كد غيري) ، كما يقول الوارث للمال المجموع عفوًا إذا ليم على بخله به، وفرط شحه عليه: إن لم يكن كسبي وكدي، فهو كسب والدي وجدي، ولئن لم ألق فيه عناء لقد عانى سلفي فيه الشدائد، ولقوا في جمعه الأمرين [٣٣] أفأضيع ما ثمروه، وأفرق ما جمعوه، وأكون كالهادم لما أنفقت الأعمار في بنائه، والمبيد لما قصرت الهمم على إنمائه. وإنك لا تكاد تجد شاعرًا يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب، ورد البعيد الغريب إلى المألوف القريب - ما يعطي البحتري ويبلغ في هذا مبلغه. فإنه ليروض لك المهر الأرن رياضة الماهر [٣٤] حتى يعنق من تحتك إعناق القارح المذلل [٣٥] ، وينزع من شماس الصعب الجامح، حتى يلين لك لين المنقاد المطيع، ثم لا يمكن ادعاء أن جميع شعره في قلة الحاجة إلى الفكر، والغنى عن فضل النظر، كقوله: فؤادي منك ملآن ... وسري فيك إعلان وقوله: عن أي ثغر تبتسم ... وهل ثقل على المتوكل قصائده الجياد حتى قل نشاطه لها واعتناؤه بها؛ إلا لأنه لم يفهم معانيها كما فهم معاني النوع النازل الذي انحط له إليه؟ أتراك تستجيز أن تقول: إن قوله: منى النفس في أسماء لو تستطيعها [٣٦] من جنس المعقد الذي لا يحمد، وإن هذه الضعيفة الأسر [٣٧] الواصلة إلى القلوب من غير فكر، أولى بالحمد وأحق بالفضل. هذا، والمعقد من الشعر والكلام لم يذم؛ لأنه مما تقع حاجة فيه إلى الفكر على الجملة، بل لأن صاحبه يعثر فكرك في متصرفه [٣٨] ، ويشيك طريقك إلى المعنى [٣٩] ، ويوعر مذهبك نحوه، بل ربما قسم فكرك، وشعب ظنك [٤٠] حتى لا تدري من أين تتوصل وكيف تطلب. وأما الملخص فيفتح لفكرتك الطريق المستوي ويمهده، وإن كان فيه تعاطف أقام عليه المنار، وأوقد فيه الأنوار، حتى تسلكه سلوك المتبين لوجهته، وتقطعه قطع الواثق بالنجح في طيته [٤١] ، فترد الشريعة [٤٢] زرقاء، والروضة غناء [٤٣] فتنال الري، وتقطف الزهر الجني، [٤٤] وهل شيء أحلى من الفكرة إذا استمرت وصادفت نهجًا مستقيمًا، ومذهبًا قويًّا، وطريقة تنقاد، وتبينت لها الغاية [٤٥] فيما ترتاد، فقد قيل: قرة العين وسعة الصدر، وروح القلب وطيب النفس، من أربعة أمور: الاستبانة للحجة، والأنس بالأحبة، والثقة بالعدة، والمعاينة للغاية. وقال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر والنظر من الفضيلة: (وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة [٤٦] ، ولذة السبع بلطع الدم [٤٧] ، وأكل اللحم؛ من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبعد فإذا أعدت الحلبات [٤٨] ؛ لجري الجياد، ونصبت الأهداف ليعرف فضل الرماة في الأبعاد والسداد، فرهان العقول التي تستبق، ونضالها الذي تمتحن قواها في تعاطيه هو الفكر والروية والقياس والاستنباط) . ولن يبعد المدى في ذلك، ولا يدق المرمى إلا بما تقدم من تقرير الشبه بين الأشياء المختلفة، فإن الأشياء المشتركة في الجنس، المتفقة في النوع، تستغني بثبوت الشبه بينها، وقيام الاتفاق فيها عن تعمل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبيته فيها، وإنها لصنعة تستدعي، جودة القريحة والحذق، الذي يلطف ويدق، في أن يجمع أعناق المتنافرات المتباينات في ربقة [٤٩] ، ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة [٥٠] ، وما شرفت صنعة ولا ذكر بالفضيلة عمل إلا لأنهما يحتاجان من دقة الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على من زاولهما والطالب لهما في هذا المعنى [٥١] ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك إلا من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات، وذلك بين لك فيما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التي تنسب إلى الدقة، فإنك تجد الصورة المعمولة فيها كلما كانت أجزاؤها أشد اختلافًا في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك أتم، والائتلاف أبين، كان شأنها أعجب، والحذق لمصورها أوجب. (للبحث بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))