للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أمالي دينية
(الدرس السادس عشر)

م (٤٦) طول العمر:
هذه المسألة من فروع عقيدة القضاء والقدر والنظر فيها من حيث الأسباب
واتصال المسببات بها لا إشكال فيه؛ لأنه مبني على الظواهر , وللإنسان عمر
طبيعي هو مستعد لأن يبلغه إذا لم تعارضه أسباب أخرى تحول دون ذلك كالقتل
والغرق وكالأمراض التي تفضي إلى سرعة الانحلال وانطفاء سراج الحياة أو
ينقطع عنه مدد النموّ الذي تقوم به الحياة حتى تبلغ الأجل المستعدة لبلوغه في أصل
نظام الفطرة. ومثل الإنسان في هذا سائر الأجسام الحية حتى النبات فإن القطن
مثلاً له أجل محدود في الطبيعة ولكنه لا يبلغه إذا حالت دون ذلك الأسباب العارضة
كأن يقلع بعد نباته بشهر أو شهرين , أو يمنع عنه السقي الذي يغذيه ويمده حتى
يبلغ أجله. فإذا عَدَا عادٍ على حرث قوم فاقتلع بعض هذا القطن , يصح أن نقول:
إنه لو لم يقلعه لبقي حيًّا إلى أن يثمر , كما يصح أن نقول: إن ذلك الشاب لو لم
يغرق لعاش مدة طويلة لأن بنيته مستعدة لذلك , وكذلك لو لم يتعرض للمرض
الفلاني الذي أصابه بالعدوى؛ لكان جديرًا بأن يطول عمره ويعيش عيشة راضية.
كل هذا يصح أن يقال بالاعتبار الذي ذكرناه وهو ما ثبت عقلاً ووجودًا وشرعًا
بالوجه العام المثبت لارتباط الأسباب بالمسببات.
ثم إنهم يطلقون لفظ (الأجل) ولفظ (العمر) على المدة التي يعيشها الإنسان
وغيره بالواقع، ونفس الأمر لا على المدة التي هو مستعد لبلوغها عند انتفاء
الموانع , والأجل بهذا المعنى لا يعرف إلا بالوقوع فمتى مات المرء يعلم أن هذه
المدة التي قضاها هي أجله في الواقع ونفس الأمر , ولما كان الله وحده هو الذي
يعلم ما سيعرض على الأحياء من الفواجع الفجائية. والتهاون بالتدابير الصحية.
فيقطع آجالهم الطبيعية الاستعدادية. أطلق الأجل على علم الله تعالى بالعمر , وبهذا
المعنى قالوا: إن العمر لا يزيد ولا ينقص وهو صحيح إذ لو وقع في الوجود
خلاف ما يعلم الله تعالى أنه سيقع لكان العلم جهلاً وقد فرضناه علمًا وبرهنا عليه.
الدين دين الفطرة والشريعة حنيفية سمحة ليلها كنهارها لا شبهة فيها ولا حيرة
ولكن انتشار الجهالة في المسلمين بعد السلف قذفهم في تيهور الحير وطوّح بهم في
مهاوي المشكلات. وأعظم بلاء حل بهم من قبل دينهم عدم فهم القضاء والقدر على
وجهه المعقول الذي شرحناه حيث خرجوا به إلى الجبر وإنكار أثر الأسباب في
المسببات حتى صار من يطلب الشيء من سببه ويرى أنه يوجد بوجوده وينتفي
بانتفائه يعد من فاسدي الاعتقاد كأن الإنسان عندهم لا يكون مسلمًا صحيح الاعتقاد
حتى يمتلخ عقله وينتزع وجدانه ويكابر حسه وينكر الوجود نفسه , وكأن المسلم
خلق لأن يجهل كل شيء ويترك كل سعي وكسب ويبسط يديه إلى القضاء والقدر
لتفيض عليه الأرزاق والبركات والخيرات بإبطال نظام الكون وتبديل سنن الخليقة
ونواميس الطبيعة التي لا تتبدل ولا تتحول. إذا قال الطبيب: إن مداراة الصحة
على الوجه الفلاني سبب في طول العمر أو يطيل العمر؛ يقول الجاهلون: قد كفر
وإذا صدقه المؤرخ الإحصائي فذكر عدة بلاد وممالك قلت فيها الوفيات منذ
انتشرت فيها المعارف الطبية , وصار تعليم فن حفظ الصحة (الهيجين) عامًّا في
ذكرانها وإناثها؛ يقولون: قد كذب واختلق. أفلا يرون كيف يفتك الطاعون في
الهند كما كان يفتك بأوربا في العصور الغابرة وكذلك الهيضة المعروفة بالهواء
الأصفر سالمت الغرب ولم تزل عدوة فتاكة في الشرق. إذا أوردت مثل هذا؛
يعترضك المتحذلقون الشاكون المشككون بذكر شواذ لا يعرفون أن لشذوذها أسبابًا
وقف عليها الطبيب ونحوه , وإذا لم يقف على بعضها يتلمسه حتى يجده كما وقع
للأطباء وغيرهم من علماء الكون في مسائل لا تحصى.
إذا قال الطبيب: إن كذا يطيل في العمر أو يقصر فهو لا يعني بالعمر ما قدر
الله في سابق علمه لأن وظيفته ليس من موضوعها انكشاف المعلومات لله تعالى أو
عدم انكشافها - على فرض جواز ذلك , وإنما موضوعه بدن الإنسان من حيث
يمرض ويصح وما يكون من أثر ذلك في طول البقاء وعدمه واستمداده من التجارب
التي تنكشف بها سنن الله في الخلق وتعرف بها الأسباب التي أناط الله تعالى بها
الحوادث وجودًا وعدمًا فهو بهذا أعلم منهم بقضاء الله وتقديره لوقوفه على سننه في
هذا التقدير.
كيف ينكر مسلم أن شيئًا من الأشياء. يكون سببًا في بسطة الأجل وطول
البقاء. وهو أمر ثابت في الفطرة , ودينه دين الفطرة وثابت في العقل ودينه مبني
على العقل وثابت بالنقل أيضًا. روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه
وينسأ له في أثره (أي يؤخر له في أجله) فليصل رحمه) وروى ابن ماجه من
حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد
القدر إلا الدعاء , ولا يزيد في العمر إلا البر , وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب
يصيبه) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة , والبحث في زيادة الرزق كالبحث في
طول العمر سواء لأن لكل منهما أسبابًا , وعلماء الكون إنما يتكلمون باعتبار
الأسباب , وأما بالنسبة لما في علم الله تعالى فليس من موضوعهم ولا غيرهم لأن
ما في علم الله إنما يعرفه الناس بوقوعه إلا ما له سنن مطردة لا تنازعها سنن
أخرى كسير الكواكب فإننا نعلم أن الشمس تغرب بعد كذا ساعة وتكسف في يوم كذا
ومتى يبتدىء الكسوف ومتى ينتهي. ولما تصدى المسلمون لإدخال الدين في كل
بحث , وخلطوا الكلام في الأسباب الظاهرة بالكلام في العقائد جعلوا لهذه المسألة
مخرجًا سموه (القضاء المعلق) يعنون أن المسببات معلقة في علم الله تعالى
بأسبابها فإذا وقعت الأسباب؛ وقعت معها المسببات لا محالة وإلا فلا , وهو قول
صحيح ولا فرق فيه بين السبب الذي علم بالاختبار والوجود والسبب الذي علم
بالشرع , بل الأول أقوى لأن الثاني يحتمل التأويل فيما إذا لم يكن نصًّا قطعيًّا والله
أعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))