للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى
الدين والإسلام والشرك والتصوف

في مكة المكرمة يوم السبت العشرين من ذي القعدة سنة ١٣١٦.
انتظم عِقْد الجمعية في هذا اليوم صباحًا وقرئ الضبط السابق حسب العادة
وأذن الأستاذ الرئيس بالشروع في البحث.
فقال العالم النجدي: إني أطلب السماح من السادة الإخوان عن إملالهم
بمقدمات وتعريفات هم أعلم مني بها، بل هي عندهم في رتبة البدهيات ولكن لا بد
منها للباحث رعاية لقاعدة التسلسل الفكري والترتيب القياسي فأقول:
إن النوع الإنساني مفطور على الشعور بوجود قوة غالبة عاقلة لا تتكيف
تتصرف في الكائنات بنواميس منتظمة، فالعامة يعبرون عن هذه القوة بلفظ الطبيعة
والراشدون من الناس مهتدون إلى أن لهذه القوة من هو قائم بها يعبرون عنه بلفظ
(الله) ثم إن هذا الشعور يختلف قوة وضعفًا حسب ضعف النفس وقوتها ويختلف
الناس في تصور ووصف ماهية هذه القوة حسب مراتب الإدراك فيهم أو حسبما
يصادفهم من التلقي عن غيرهم وذلك هو الضلال والهداية.
على أن الضلال غالب؛ لأن موازين العقول البشرية مهما كانت واسعة قوية لا
تسع وتتحمل وزن جبال الأزلية والأبدية واللامثال واللامكان ونحو ذلك ما يسمى
العلم به لصعوبته على ما وراء العقل، ولهذا لا يقال في الضالين إنهم منحطون عقلاً
عن المهتدين بل كثير منهم في الماضين والحاضرين أسمى عقلاً بمراتب كثيرة من
المهتدين ولكن صعوبة التطور والحكم أوقعتهم في بحار من الأهام وظلمات من
الضلال.
على أن البارئ تعالى قدر اللطف ببعض عباده وأراد إقامة الحجة على الآخرين
فأوجد بعض أفراد من البشر تميزوا في تطور ووصف ماهية هذه القوة تميزًا كبيرًا
فصاروا هداة للناس وهم (الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام.
وقد قام بعض هؤلاء الأنبياء الكرام فيمن حولهم من الناس مقام المشرعين
وأثبتوا ببراهين خرق العادات على يدهم عند التحدي أي عند طلب ذلك منهم [١] أن
مخاطبيهم مكلفون باتباعهم هم (المرسلون) فآمن بهم من آمن أي شهدوا لهم بالرسالة
واتبعوهم في هديهم مستسلمين فأخرجوهم من بحار الأوهام إلى ساحل الحكمة ومن
ظلمات الضلال إلى نور الهداية وهؤلاء هم (المؤمنون) فهذه مقدمة أولى. (مرحى)
ومن المؤمنين نحن معاشر (المسلمين) علمنا مما علمنا أن محمد بن عبد الله
الهاشمي القرشي العربي أجلّ البشر حكمة وفضيلة وصدقناه بأنه رسول الله إلى
العالمين كافة مصححًا ملة إبراهيم داعيًا لعبادة الله وحده هاديًا إلى ما يكلف الله به
عباده من أمر ونهي كافلين لكل خير من الحياة وبعد الممات.
ومن أمهات قواعد الدين عندنا أن نعتقد أن محمدًا بلَّغ رسالة ربه لم يترك ولم
يكتم منها شيئًا وأنه أتم وظيفته بما جاء به من كتاب الله وبما قاله أو فعله أو أقره
على سبيل التشريع إكمالاً لدين الله.
ومن أهم قواعد ديننا أنه محظور علينا أن نزيد على ما بلغنا إياه رسول الله
أو ننقص منه أو نتصرف فيه بعقولنا، بل يتحتم علينا أن نتبع ما جاء به الصريح
المحكم من القرآن الواضح الثابت مما قاله الرسول أو فعله أو أقره وما أجمع عليه
الصحابة إن أدركنا حكمة ذلك التشريع أو لم نقدر على إدراكها وأن نترك ما يتشابه
علينا من القرآن (يريد نفوض فيه) فنقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل
عمران: ٧) ، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران: ٧) .
ومن قواعد ديننا كذلك أن نكون مختارين في باقي شئوننا الحيوية نتصرف
فيها كما نشاء مع رعاية القواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها الرسول
وتقتضيها الحكمة أو الفضيلة كعدم الإضرار بالنفس أو الغير والرأفة بالضعيف
والسعي وراء العلم النافع والكسب بتبادل الأعمال والاعتدال في الأمور والإنصاف
في المعاملات والعدل في الحكم والوفاء بالعهد إلى غير ذلك من القواعد الشريفة
العامة. وهذه مقدمة ثانية ويتفرع عن هاتين المقدمتين مسائل مهمة ينبغي إفرادها
بالبحث تباعًا وإشباعًا.
ومنها أن أصل الإيمان بوجود الصانع أمر فطري في البشر كما تقدم فلا
يحتاجون فيه إلى الرسل وإنما حاجتهم إليهم في الاهتداء إلى كيفية الإيمان بالله كما
يجب من التوحيد والتنزيه. هؤلاء قوم نوح وقوم إبراهيم وجاهلية العرب واليهود
والنصارى ومجوس فارس ووثنيو الهند والصين ومتوحشو أفريقيا وأمريكا
وسائر البشر كلهم كانوا ولا يزالون أهل فطرة دينية يعرفون الله وليس فيهم من
ينكر كليًا كما قال عز من قائل: {َ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء:
٤٤) بل يغلب على البشر الإشراك بالله فيخصصونه تعالى شأنه بتدبير الأمور
الكلية والشئون العظام كالخالقية وتقسيم الأرزاق والآجال كأنهم بجلونه عن تدبير
الأمور الجزئية ويتوهمون أن تحت أمره مقربين وأعوانًا ووسطاء من ملائكة وجن
وأرواح وبشر وحيوانات وحجر وأنه جعل لهم وللنواميس الكونية من أفلاك وطبائع
وللحالات النفسية من سحر وتوجه فكر دخلاً وتأثيرًا في تيسر الأمور الجزئية إيقاعًا
أو منعًا وأعطاهم شيئًا من القوة القدسية وعلم الغيب.
وتوهمهم هذا ناشئ عن قياسهم ملكوت ذي الجبروت على إدارة الملوك في
اختصاصهم بتدبير مهمات الأمور وتفويضهم ما دون ذلك إلى العمال الأعوان
واستعانتهم بالبطانة والحاشية وربطهم مجرى الأعمال بالقوانين والنظامات
(مرحى) .
ومن تتبع تواريخ الأمم الغابرة وأفكار الأمم الحاضرة لا يرتاب فيما قررناه
من أن آفة البشر الشرك الذي أوضحناه فقط وكفى بالقرآن برهانًا فقد قال الله تعالى:
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: ٢٥) وقال
تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} (الأنعام: ٤١) وقال تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ
اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: ١٨) وقال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: ٢٥٥) إلى غير ذلك من الآيات البينات المثبتة أن زيغ البشر هو
الإشراك من بعض الوجوه فقط الإنكار ولا الإشراك المطلق؛ لأن العقل البشري
مهما تَسَّفَل لا ينزل إلى درجة الشرك المطلق.
بناء عليه جرت عادة الله - جلت حكمته - أن يبعث الرسل ينقذون الناس من
ضلالة الشرك وينتاشونهم من وهدة شره في الحياة الدنيا والآخرة ويهدونهم إلى
رأس الحكمة أي (معرفة الله) حق معرفته لكي يعبدوه وحده بذلك تتم حجته عليهم
ويملكون حريتهم التي تحميهم من أن يكونوا أرقاء أذلاء لألف شيء من أرواح
وأجسام وأوهام. فثمرة الإيمان بأن (لا إله إلا الله) عتق العقول من الأسر وثمرة
الإذعان بأن (محمد رسول الله) اتباعه حقًا في شريعته التي تحول بين المسلم
وبين نزوعه إلى الشرك وتنيله سعادة الدارين.
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: ١٧) أو قَبُحَ ما أَجْهَلَهُ. لا يهتدي إلى
التوحيد إلا بجهد عظيم ويندفع أو ينقاد بشعرة إلى الشرك فيتلبس به على مراتب
ودرجات في اعتقاد وجود قوة قدسية ترجى وتتقى في غير الله أو تبعًا لله ذاهلاً عن
أنه لو كان في الأرض والسماء آلهة غير الله أي أصحاب تصرف في شيء ولو في
تحريك ذرة رمل - لفسدتا.
فالناس سريعو الإعراض عن ذكر الله إلى ذكر من يتوهمون فيهم أنهم شركاء
وأنداد لله فيعبدونهم أي يعظمونهم ويخضعون لهم ويدعونهم ويستمدون منهم
ويرفعون حاجاتهم إليهم ويرجون عند ذكر أسمائهم الخير ويتوقعون من سخطهم
الشر، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (طه: ١٢٤) والله صادق الوعد نافذ الحكم. وفي الواقع - وبالضرورة والطبع -
لا معيشة أشد ضنكًا من معيشة المشركين الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم
لأنفسهم ظالمون فقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: ١٣) وقال: {وَلاَ
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: ٤٩) ، وهذا زيد بن عمرو بن نفيل الحكيم الجاهلي
ضجر من الشرك فقال من أبيان له:
أربًّا واحدًا أم ألف ربٍّ ... أدين إذا تقسّمت الأمور
تركت اللات والعُزَّى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل الخبير
ومثل الحياة الأدبية في الموحدين والمشركين كبلد سلطانه حكيم قاهر بابه
مفتوح لكل مراجع وينفذ قانونًا واحدًا ولا يصغي لساعٍ ولا شفيع ولا يشاركه في
حكمه أحد. وبلد آخر سلطانه جبان مغلوب على أمره نال منه مقربوه المتعاكسون
وأعوانه المتشاكسون من حوائج خير لذويهم أو دفع شر عن أتباعهم فهل يستوي
أهل البلدين؟ كلا لا تستوي السعادة والشقاء ولله المثل الأعلى فإنه جلّت عظمته لا
يرضى أن يشاركه في ملكه أحد كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء:
١١٦) ولا شك أن الشرك من أكبر الفجور وعمل السوء وقد قال تعالى: {وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: ١٤) وقال تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: ١٢٣) وما الجحيم والمجازاة خاصين بالآخرة بل يشملان الحياة الدنيا
والآخرة.
ثم أقول: إذا أراد المسلم أن يعلم ما هو الشرك المشئوم عند الله بمقتضى ما
عرفه إياه في كتابه المبين يلزم أن يعرف ما هو مدلول ألفاظ (إيمان وإسلام وعبادة
وتوحيد وشرك) في اللغة العربية التي هي لغة القرآن إذا قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً
عَرَبِياًّ} (الزخرف: ٣) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} (إبراهيم: ٤) فإذا علم المسلم
معنى هذه الألفاظ وأراد أن يمتثل أمر به بأن لا يتعدى حدود الله يتعين حينئذ عنده
ما هو مراد الله بالشرك الذي لا يرضاه والذي أشفق وخاف علينا نبينا عليه الصلاة
والسلام من الوقوع فيه فقال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك) [٢] .
ومن يبحث عما ذكر من الألفاظ يجد أن أهل اللغة مجمعون على أن المدلول
للفظ (الإيمان) الطاعة والتسليم بدون اعتراض [٣] وللفظ (العبادة) التذلل
والخضوع [٣] وللفظ (التوحيد) العلم بأن الشيء واحد، وإذا أضيف إلى الله فيراد به
نفي الأنداد والأشباه عنه. ومن هذه المادة الواحد والأحد صفتان لله تعالى معناهما
المنفرد الذي لا نظير له أو ليس معه غيره. وأصل معنى مادة الشرك لغة الخلط
واستعمالاً الإشراك بالله وفي اصطلاح المؤمنين الإشراك بالله في ذاته أو ملكه أو
صفاته.
ثم إذا وزعنا اعتقادات من وصفهم الله بالشرك في كتابه العزيز على هذه
الأنواع الثلاثة نجد مظنة (الإشراك في الذات) قائمة في اعتقاد الحلول وهو أنه
تعالى شأنه عما يصفون أفنى أو يفني بعض الأشخاص في ذاته كقول النصارى في
عيسى ومريم عليهما السلام، وقول غلاتنا في وحدة الوجود. وهذا النوع من
الشرك عسر التصور والتعريف حتى عند أساطين أهله ولذلك يسميه النصارى
حقيقة سرية ويسميه غلاتنا حقيقة ذوقية، (مرحى) .
أما مظنات (الإشراك في المُلْك) فيدخل تحتها اعتقاد اختصاص بعض
المخلوقين بتدبير بعض الشئون الكونية كاعتقاد اليهود في ملك الموت وكاعتقاد
بعض الناس تصرُّفَ غير الله في شيء من شئون الكون كقول من يقول: (فلان
عليه دَرَك البر أو البحر. أو الشام أو مصر)
وأما مظنات (الإشراك في الصفات) فهي الاعتقاد في مخلوق أنه متصف
بشيء من صفات الكمال من المرتبة العليا التي لا تنبغي إلا لواجب الوجود جلت
شئونه، وهذا النوع أكثر شيوعًا من النوعين الأولين لثلاثة أسباب:
(الأول) كون غير الأَحَدية والخالقية ونحوهما من الصفات الخاصة بالله
تعالى صفات مشتركة يعسرعلى غير العلماء الراشدين تميز الحد الفارق بين مراتبها
في المخلوقين وبين مراتبها المختصة به تعالى.
(الثاني) ما نطقت به الشرائع من تفويض الله تعالى بعض الأمور إلى
الملائكة واستجابة دعاء المقربين وإكرامه تعالى بعضَ عباده الصالحين ووعده
بقبول شفاعة من يأذن لهم بها يوم القيامة فالتبس على الجهلاء التفريق بين هذه
وبين التصرف.
(الثالث) هو كون التعظيم مدرجة طبيعة للإغراق والتغالي ومطية سريعة
السير لا يلتوي عنانها عن تجاوز الحدود إلا برغم الطبع وتوفيق الله. ولذلك قاسى
الرسل أولو العزم الشدائد في كبح جماح الناس عن إشراك معظميهم مع الله تعالى
في مرتبة بعض صفاته العليا وركبوا متون المصاعب والعزائم في إرجاع الناس
إلي حد الاعتدال وشددوا النكير على إطراء الناس إياهم وحذروا وأنذروا من مقاربة
مظانّ الشرك حتى الخفي الذي يدب دبيب النمل.
ومن المعلوم عندنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام لبث عشرة أعوام يقاسي
الأهوال في دعوته الناس إلى التوحيد فقط وسمى أمته الموحدين وأنزل الله القرآن
ربعه في التوحيد وتأسيس دين الله على كلمة (لا إله إلا الله) وجعلت أفضل الذكر
لحكمة أن المسلم مهما رسخ في الإيمان يبقى محتاجًا إلى نفي الشرك على فكره
احتياجًا مستمرًا وذلك من شدة ميل الإنسان إلى الشرك ولشدة التباسه عليه ولشدة
قربه منه طبعًا فنسأل الله تعالى الحماية (مرحى) . وما هذا خاص بالمسلمين بل
مضت الأمم كلها لم يكد يفارقها رسلها الكرام إلا وقعت في الشرك كقوم موسى عليه
السلام فارقهم أربعين ليلة فاتخذوا العجل (مرحى) .
(للاجتماع بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))