للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد البشير ظافر الأزهري


المفتي والإفتاء في الشرع

ختم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتابه (أعلام الموقعين) بفوائد كثيرة
مطولة تتعلق بالفتوى، فرأينا أن نلخص منها ما يأتي؛ تنويرًا لبحثنا السابق، وليعلم
قليل الاطلاع أن مفتي الديار المصرية جرى في فتواه للترنسفالي على سنة السلف
الصالح، واقتدى فيها بأئمة الدين، لا بأوضاع جهلة المقلين:
الفائدة الأولى: من تلك الفوائد في أنواع الأسئلة التي تعرض على المفتي.
والثانية: في بيان أنه يجوز للمفتي أن يعدل في جواب المستفتي عمّا سأل عنه
إلى ما هو أنفع منه واستدل على ذلك بالكتاب والسنة.
والثالثة: في بيان أنه يجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه،
واستدل على ذلك بالسنة (وفي صحيح البخاري باب معقود لهذا) .
والرابعة: في بيان أن من فقه المفتي ونصحه أن يدل المستفتي على ما هو خير
مما منعه منه بالفتوى فيما سأل عنه واستدل عليه بالسنة.
والخامسة: في أنه ينبغي للمفتي أن يحذر السائل مما يذهب إليه الوهم من
خلاف الصواب في الفتوى واستدل عليه بأسلوب الكتاب والسنة.
قال: (الفائدة السادسة) ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه
ذلك ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه وقلة
بضاعته من العلم.
ومن تأمل من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم - وقد أوردها المصنف في
آخر الفوائد، الذي قوله حجة بنفسه - رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم
ونظيره، ووجه مشروعيته؛ وهذا كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينقص
الرطب إذا جف؟) قالوا: نعم. فزجر عنه، ومن المعلوم أنه كان يعلم نقصانه
بالجفاف؛ ولكن نبههم على علة التحريم وسببه. ومن هذا قوله لعمر وقد سأله عن
قبلة امرأته وهو صائم فقال: (أرأيت لو تمضمضت ثم مججته، أكان
يضر شيئًا؟ قال: لا. فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة؛ فإن
غاية القبلة أنها مقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته كما أن وضع الماء
في الفم مقدمة شربه وليست المقدمة محرمة. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
(لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)
فذكر لهم الحكم ونبههم على علة التحريم. ومن ذلك قوله لأبي النعمان بن بشير -
وقد خصّ بعض ولده بغلام نحله إياه - فقال: (أتحب أن يكونوا لك في البر
سواء) ؟ قال: نعم قال (فاتقو الله واعدلوا بين أولادكم) . وفي لفظ: (إن هذا لا
يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) ، وفي لفظ (أشهدْ على هذا غيري)
تهديدًا لا إذنًا؛ فإنه لا يأذن في الجور قطعًا. وفي لفظ: (رده) والمقصود أنه
نبهه على علة الحكم ... إلخ الشواهد.
(الفائدة التاسعة) ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه؛ فإنه
يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام؛ فهو حكم مضمون له الصواب متضمن للدليل
على أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك. وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة
الذين سلكوا على منهاجهم يتحرّون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف
رغبوا عن النصوص، واشتقوا لأنفسهم ألفاظًا غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك
هجر النصوص؛ ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم
والدليل وحسن البيان؛ فتولد من هجر النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة
وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فألفاظ النصوص
عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب.
ولما كانت هي عصمة عمدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت
علومهم أصح من علوم مَن بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم.
ثم إن التابعين بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، وهلم جرّا. ولمّا استحكم هجران
النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية
الفساد والاضطراب والتناقض.
وقد كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا سئلوا عن مسألة
يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا أو فعل كذا، ولا
يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاءً لما في
الصدور، فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين
أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه: قال الله وقال رسول الله، أما أصول دينهم
فصرّحوا في كتبهم أن قول الله، وقول رسول الله لا يفيد اليقين في مسائل أصول
الدين؛ وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة. وأما
فروعهم فقنعوا فيها بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص
عن الله ولا عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم
قلدوه دينهم؛ بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به، وينقلون به الحقوق ويبيحون به
الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنف، وأجلهم عند نفسه، وزعيمهم عند
بني جنسه، من يستحضر لفظ الكتاب ويقول: هكذا قال وهكذا لفظه، والحلال ما
أحله ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله،
والصحيح ما صححه، هذا وأنَّى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان، فقد دفعنا إلى أمر
تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجها، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها
عجيجها، يبدل فيه الأحكام، ويقلب الحلال بالحرام، ويجعل المعروف فيه أعلى
مراتب المنكرات، والمنكر الذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات، الحق
فيه غريب وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه وينصح به نفسه
والناس، قد فلق له فالق الإصباح صبحه عن غياهب الظلمات، وأبان له طريقه
المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات؛ وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع ما عليه أكثر الخلق من البدع المضرات، رفع له
علم الهداية فشمر إليه، ووضح له الصراط المستقيم فقام واستقام عليه، وطوبى له
من وحيدٍ على كثرة السكان، غريبٍ على كثرة الجيران؛ بين أقوام رؤيتهم قذى
العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، وحميّ الأرواح، وغم الصدور،
ومرض القلوب، إن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف، وإن طلبته منهم فأين
الثريا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني
وابتلوا بالحظوظ وحصلوا على الحرمان؛ وخاضوا بحار العلم ولكن بالدعاوي
الباطلة وشقاشق الهذيان، ولا والله ما ابتلت من وشله أقدامهم، ولا زكت به عقولهم
وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى
والحق منه ربوة الدفاتر إذ بلت به أقلامهم، أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس،
وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول، فحُرموا الوصول؛
وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مهامة الحيرة وبيداء الضلالة والمقصود أن
العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير، ومن رام
إدراك الهدى ودين الحق من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير) اهـ.

(المنار)
إن ما ذكره هذا الإمام الجليل من وجوب إسناد الفتاوى إلى نصوص الكتاب
والسنة هو الذي جرى عليه جميع أئمة المسلمين؛ ولكن الذين ذكرهم خرجوا عن
هدي السنة وطريقة الأئمة فحتموا إسناد الفتوى إلى قول مؤلف من المقلدين الميتين
ولم ينقل عن عالم من علماء الإسلام جواز تقليد المقلد، ولم يكتفوا بهذا حتى صاروا
يعيبون من يفتي بالكتاب والسنة، ويزعمون أنهم بهذا ينصرون الإسلام، وما الإسلام
إلا الكتاب والسنة اللذين تركوهما وعادوهما.
وما ذكره من أوصاف العالم الذي يفتي بالنصوص ويراه الناس غريبًا ينطبق
في زمنه على شيخي الإسلام (رحمهما الله تعالى) وفي هذا الزمن على الأستاذ
الإمام (حفظه الله) فإنه لما استند في الفتوى بحل ذبائح أهل الكتاب على إطلاقها
بإطلاق نص القرآن في حلها - قام بعض الجاهلين يعيب ذلك زاعمًا أن الإفتاء بنص
القرآن غير جائز للمفتي، وإنما يجب عليه أن يذكر نص مؤلف من المؤلفين الميتين
الذي ينتسبون إلى أبي حنيفة خاصة. ويا ليت هذا العيب والأفكار كان ممن يدعون
الاشتغال بكتب الأحكام التي يسمونها فقهًا، كلا إنه صادر من أجهل أرباب الجرائد
الأخبارية بالدين وأشدهم إيغالاً في الفسق وإسرافًا في الأمر، فلو كان ابن القيم في هذا
الزمان فماذا عساه يقول ويكتب في هؤلاء؟
(الفائدة الحادية عشرة) : إذا نزلت بالحاكم أو المفتي النازلة فإما أن يكون
عالمًا بالحق فيها أو غالبًا على ظنه، بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أولاً
فإن لم يكن عالمًا بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بما لا
يعلم، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله ودخل تحت قوله تعالى: {قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) ؛
فجعل القول عليه بلا علم أعظم المحرمات الأربع التي لا تباح بحال؛ ولهذا
حصر التحريم فيها بصيغة الحصر. ودخل تحت قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ١٦٨-١٦٩) ، ودخل في قول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: (من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه) ، وكان أحد القضاة
الثلاثة الذين ثلثاهم في النار. وإن كان قد عرف الحق في المسألة علمًا أو ظنًا غالبًا
لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بغيره بالإجماع المعلوم بالضرورة من دين
الإسلام، وهو أحد القضاة الثلاثة والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة، وإذا كان من
أفتى أو حكم أو شهد بغير علم مرتكبًا لأعظم الكبائر فكيف من أفتى أو حكم أو شهد
بما يعلم خلافه!
فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم مخبر عن حكم الله. فالحاكم مخبر منفذ،
والمفتي مخبر غير منفذ والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم
الديني الأمري فمن أخبر منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدًا: {وَيَوْمَ
القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} (الزمر: ٦٠) ، ولا أظلم
ممن كذب على الله وعلى دينه. وإن أخبروا بما لم يعلموا فقد كذبوا على الله جهلاً،
وإن أصابوا في الباطن وأخبروا بما لم يأذن الله لهم في الإخبار به وهم أسوأ حالاً
من القاذف إذا رأى الفاحشة وحده فأخبر بها فإنه كاذب عند الله، وإن أخبر بالواقع
فإن الله لم يأذن له في الإخبار بها إلا إذا كان رابع أربعة فإن كان كاذبًا عند الله في
خبر مطابق لمخبره حيث لم يأذن له في الإخبار به فكيف من أخبر عن حكمه بما لم
يعلم أن الله حكم به ولم يأذن له في الإخبار به قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: ١١٦-١١٧) ، وقال
تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} (الزمر: ٣٢) .
والكذب على الله يستلزم التكذيب بالحق والصدق. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: ١٨) ، وهؤلاء الآيات وإن
كانت في حق المشركين والكفار فإنها متناولة لمن كذب على الله في توحيده ودينه
وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا تتناول المخطئ المأجور إذا بذل جهده، واستفرغ
وسعه في إصابة حكم الله وشرعه؛ فإن هذا هو الذي فرضه الله عليه فلا يتناول
المطيع لله وإن أخطأ، وبالله التوفيق.
(الفائدة الثانية عشرة) حكم الله ورسوله يظهر على أربعة ألسنة:
لسان الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم، ولسان الشاهد. فالراوي يظهر
على لسانه لفظ حكم الله ورسوله. والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبطه
من لفظه. والحاكم يظهر على لسانه الإخبار بحكم الله وتنفيذه. والشاهد يظهر
على لسانه الإخبار بالسبب الذي يثبت حكم الشارع. والواجب على هؤلاء الأربعة
أن يخبروا بالصدق المستند إلى العلم فيكونون عالمين بما يخبرون به صادقين
في الإخبار به، وآفة أحدهم الكذب والكتمان فمتى كتم الحق أو كذب فيه فقد حادَّ
الله تعالى في شرعه ودينه، وقد أجرى الله سنته أن يمحق عليه بركة علمه
ودينه ودنياه إذا فعل ذلك، كما أجرى عادته سبحانه في المتبايعين إذا كتما وكذبا
أن يمحق بركة بيعهما. ومن التزم الصدق والبيان في مرتبته بورك له في علمه
ووقته ودينه ودنياه، وكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن
أولئك رفيقًا، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليمًا.
فبالكتمان يعزل الحق عن سلطانه، وبالكذب يقلبه عن وجهه، والجزاء من
جنس العمل؛ فجزاء أحدهم أن يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة
والتعظيم الذي يلبسه أهل الصدق والبيان، ويلبسه ثوب الهوان والمقت والخزي بين
عباده، فإذا كان يوم القيامة جازى الله سبحانه من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس
الوجوه وردها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه جزاءً وافقًا،
{وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: ٤٦) .
(الفائدة الخامسة عشرة) ليحذر المفتي الذي خاف مقامه بين يدي الله
سبحانه أن يفتي السائل بمذهب الذي يقلده، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك
المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلاً، فتحمله الرياسة على أن يتقَّحم الفتوى بما
يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه؛ فيكون خائنًا لله ورسوله وللسائل، وغاشًّا
له، والله لا يهدي كيد الخائنين وحرم الجنة على من لقيه، وهو غاش للإسلام وأهله،
والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق، والباطل للحق،
وكثيرًا ما نرى المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي فيها بخلاف ما
نعتقده، فنحكي المذهب ثم نحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول: هذا هو الصواب
وهو أولى أن يؤخذ به. وبالله التوفيق اهـ.
(المنار)
ليعتبر بهذا الجهلاء الذي يزعمون أن المفتي يجب عليه أن يفتي كل سائل
بالمذهب الذي عليه الحاكم الذي قلده منصب الإفتاء، وإن خالف اعتقاده، كأن
المنصب يجيز للمسلم أن يترك اعتقاده فيحلل ما يعتقده حرامًا، ويحرم ما يعتقده
حلالاً، وفي هذا الزعم من الجناية على الدين ونصر أهواء الحكام عليه ما لا يفوق
إفساده إفساد، ونحن نعلم أن أكثر السلاطين والأمراء المتأخرين لا يعلمون من
المذاهب - التي ينتسبون إليها - شيئًا من الأحكام القضائية ولا من أحكام الحلال
والحرام إلا المشهور الذي يعرفه العوام، فإذا ولوا مفتيًا ليفتي محاكمهم ورعاياهم فمن
أي كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس نوجب على هذا المفتي أن يترك علمه واعتقاده
في كل مسألة تخالف مذهب السلطان، ويفتي الناس بالمذهب الذي ينتسب إليه
السلطان بالقول وهو في الحقيقة من العوام الذين مذهبهم مفتيهم؟
نعم، إن لإفتاء المفتي بمذهب السلطان في المسائل القضائية التي تنظر فيها
المحاكم وجهًا، إذا كان السلطان لا ينفذ إلا ما يقضي به القاضي على مذهب؛ وذلك
لأن الإفتاء والقضاء بخلاف ذلك يكون لغوًا. أما إذا كان السلطان يطلب الحق في
المسائل القضائية، ومتى ظهر له بإفتاء أو غيره وحكم به حاكم ينفذه فلا وجه
لالتزام مذهبه مطلقًا. وأما المسائل الدينية التي لا تتعلق بالمحاكم ولا تحتاج إلى
تنفيذ السلطان؛ كمسائل الحلال والحرام والعبادات، فمن أكبر الجهل بالدين أن يقال:
إنه يجب على المفتي أن يفتي فيها بمذهب السلطان ويترك اعتقاده الذي ينجيه عند
الله تعالى لأجل منصبه الذي بني على الاجتهاد في كل مذهب ويريد المقلدون أن
يقصروه على التقليد.
ثم قال ابن القيم:
(الفائدة العشرون) لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه،
وليس على بصيرة فيه سوى أنه قول من قلده دينه، هذا إجماع من السلف كلهم
وصرّح به الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما وغيرهما. قال أبو عمرو بن
الصلاح: قطع أبو عبد الله الحليمي إمام الشافعيين بما وراء النهر والقاضي أبو
المحاسن الروياني صاحب بحر المذاهب وغيرهما: بأنه لا يجوز للمقلد أن يفتي بما
هو مقلد فيه، وقال: وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في شرحه لرسالة الشافعي
عن شيخه أبي بكر القفال المروزي أنه لا يجوز لمن حفظ كلام صاحب مذهب
ونصوصه أن يفتي به؛ وإن كان متبحرًا فيه جاز أن يفتي.
قال أبو عمرو: ومن قال: لا يجوز له أن يفتي بذلك. معناه: لا يذكره في
صورة ما يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى غيره ويحكيه عن إمامه الذي قلده. فعلى
هذا من عددناه في أصناف المفتين المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين؛ ولكنهم
قاموا مقام المفتين وادعوا عنهم فعُدوا منهم، وسبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلاً:
مذهب الشافعي كذا وكذا ومقتضى مذهبه كذا وكذا وما أشبه ذلك، ومن ترك منهم
إضافة ذلك إلى إمامه فإن كان ذلك اكتفاءً منه بالمعلوم عن الصريح، فلا بأس.
قلت: ما ذكره أبو عمرو حسن، إلا أن صاحب هذه المرتبة يحرم عليه أن
يقول مذهب الشافعي لما لا يعلم أنه نصه الذي أفتى به أو يكون شهرته بين أهل
المذهب شهرة لا يحتاج معها إلى الوقوف على نصه كشهرة مذهبه في الجهر
بالبسملة والقنوت في الفجر ووجوب تبييت النيّة للفرض من الليل ونحو ذلك؛ فأما
مجرد ما يجد في كتب من انتسب إلى مذهبه من الفروع فلا يسعه أن يضيفها إلى
نصه ومذهبه بمجرد وجودها في كتبهم فكم فيها من مسألة له لا نص فيها ألبتة
ولا ما يدل عليه! وكم فيها من مسألة نصه على خلافها! وكم فيها من مسألة اختلف
المنتسبون إليه في إضافتها إلى مقتضى نصه ومذهبه! فهذا يضيف إلى
مذهبه إثباتها، وهذا يضيف إليه نفيها.
فلا ندري كيف يسع المفتي عند الله أن يقول: هذا مذهب الشافعي وهذا مذهب
مالك وأحمد وأبي حنيفة. وأما قول الشيخ أبي عمرو: إن هذا المفتي يقول: هذا
مقتضى مذهب الشافعي. فلعمر الله لا يقبل ذلك من كل مَن نصب نفسه للفُتيا حتى
يكون عالمًا بمأخذ صاحب المذهب ومداركه وقواعده جمعًا وفرقًا، ويعلم أن ذلك
الحكم مطابق لأصوله وقواعده بعد استفراغ وسعه في معرفة ذلك فيها حتى إذا أخبر
أن هذا مقتضى مذهبه كان له حكم أمثاله ممن قال بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفسًا إلا
وسعها.
وبالجملة: فالمفتي مخبر عن الحكم الشرعي؛ وهو إما مخبر عما فهمه عن الله
ورسوله، وإما مخبر عما فهمه من كتاب أو نصوص من قلده دينه، وهذا لون، وهذا
لون، فكما لا يسع الأول أن يخبر عن الله ورسوله إلا بما علمه فكذا لا يسع الثاني أن
يخبر عن إمامه الذي قلده دينه إلا بما يعلمه وبالله التوفيق.
(الفائدة الثانية والعشرون) إذا عرف العامي حكم حادثة بدليلها فهل له أن
يفتي به ويسوغ لغيره تقليده فيه؟ ففيه ثلاثة أوجه للشافعية وغيرهم:
أحدها: الجواز؛ لأنه قد حصل له العلم بحكم تلك الحادثة عن دليلها كما حصل
للعالم؛ وإن تميز العالم عنه بقوة يتمكن بها من تقرير الدليل، ودفع المعارض له
فهذا قدر زائد على معرفة الحق بدليله.
والثاني: لا يجوز ذلك مطلقًا، لعدم أهليته للاستدلال وعدم علمه بشروطه وما
يعارضه ولعله يظن دليلاً ما ليس بدليل.
والثالث: إن كان الدليل كتابًا أو سنة جاز له الإفتاء وإن كان غيرهما لم يجز؛
لأن القرآن والسنة خطاب لجميع المكلفين، فيجب على المكلف أن يعمل بما وصل
إليه من كتاب ربه تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ويجوز له أن يرشد
غيره إليه، ويدله عليه اهـ.

(المنار)
علم مما قاله هذا الإمام الجليل أن سلف الأمة وأئمتها مجمعون على أنه يجب
على المفتي أن يفتي بعلمه في المسألة، وإنما أجاز بعض فقهاء القرون المتوسطة أن
ينقل المفتي قول بعض الأئمة المجتهدين أو رأيه على أنه خبر ورواية، وذلك لا
يسمى فتيا وناقله لا يسمى مفتيًا، وإنما أجازوه للضرورة. وكلام هذا الإمام الحنبلي
موافق لما نقلناه في الجزء الماضي عن أئمة الحنفية والشافعية ومثلهم في ذلك
المالكية؛ لأن المسألة إجماعية.
وعلم من قوله أيضًا مما تقدم مثله من قبل، وهو أن العالم إذا كان لا يقدر على
الفتوى في جميع المسائل بالاجتهاد، وكان واقفًا على أدلة بعضها فما عرف دليله
وجب عليه أن يفتي به دون غيره، وقد تقدم في الأجزاء السابقة أن هذه المسألة
مبنية على قول أهل الأصول بتجزؤ الاجتهاد. فإذا فرضنا أن مفتي الديار المصرية
لم يستوفِ الشروط التي وضعوها للمجتهد المطلق؛ فهل يبعد على مثله وعلى من
هو دونه بمراحل أن يعرف بعض المسائل بدليلها من الكتاب والسنة؟ وما أظن أن
أحدًا من حاسديه يباهت نفسه بإنكار أهليته لذلك؛ كيف وقد أجازوها للعامي؟ !
وعلى هذا يكون وافق أئمة الأصول والفقه في فتواه للترنسفالي بالدليل من غير
صاحة إلى بناء الفتوى على دعوى الاجتهاد المطلق.
وهذا الكلام إنما هو لبيان صحة أسلوب كتابة الفتوى، أما صحة الحكم وحقية
ما أفتى به فهي مؤيَّدة بالإجماع في الواقعة كما تقدم شرحه.