للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مأتم عاشوراء واقتحام الشيعةالنار فيه

س١ من صاحب الإمضاء في زنجبار إلى حضرة جناب الأفخم العلامة
الأستاذ السيد محمد رشيد رضا المحترم دام إقباله.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي بِطَيِّ الأحرف ورقة قطعناها من
الجريدة الرسمية بزنجبار أحببنا أن نطلعكم عليها، مضمونها أن الشيعة الإمامية الاثنا
عشرية يوقدون في ليلة العاشرة من المحرم في حفرة طويلة عريضة نارًا قوية
ويمرون فوقها ولا تحرقهم، وكنا قبل نسمع بهذا العمل أنه في الهند، وهذه السنة
شاهدنا بأعيننا هذا العمل بطرفنا.
ويزعمون أنها معجزة من معجزات أهل البيت، وكذلك يزعمون أن شجرة
في الهند يخرج منها دم في كل شهر محرم، وقد كثر من إخواننا الشيعة بطرفنا مثل
هذه الأشياء، ولولا أن بين أيدينا كتب العلامة ابن تيمية قدس الله روحه لكان أكثر
الناس تشيعوا، وقد عرفناكم بذلك لأجل أن تبينوا لنا الحقيقة على صفحات المنار
حتى ينجلي ما التبس علينا، ولكم من الله الأجر، ومن خلقه الشكر، والسلام.
من صغيركم صلاح الدين بن ناجي بن علي الكسادي
من زنجبار في ٢٣ المحرم سنة ١٣٣٩.
ترجمة
ما نشر في جريدة زنجبار الرسمية الإنكليزية
أرسل إلينا الوصف الآتي للأعياد المحلية لعاشر المحرم ولعله يلذ القراء:
من المعلوم الذي لا شك فيه أن تذكار استشهاد الحسين هو من أهم الأعياد
الإسلامية؛ لأن أول صدع عظيم حدث في الإسلام كان بناءً على هذا الحادث، أعني
مسألة الحق بالخلافة.
تحتفل فرقة الشيعة في زنجبار كل سنة باستشهاد الحسين بشعور انفعالي
عظيم ذي تأثير شديد، ففي ليلة العاشر من المحرم يضرب المخلصون صدورهم
ورؤوسهم، ويخوضون في النار وهم ينادون باسم محمد والحسين بنغمة مؤثرة
تبكي الناظرين، بل تحزن صدر السنيين، وغيرهم من المتفرجين، ولا يصاب
أحد من المخلصين بضرر، ثم ذكرت الجريدة الرسمية أن عاشوراء هذه السنة
كانت أول فرصة حدث فيها الاحتفال باقتحام النار في جزيرة زنجبار اهـ.
(ج) إن اقتحام بعض أفراد الشيعة الإمامية النار في الاحتفال بذكرى
استشهاد الإمام الحسين السبط - عليه السلام - في عاشوراء له نظير عند بعض
المنتمين إلى الطريقة الرفاعية وغيرها من طرق المتصوفة، ومنهم من يحمي
حديدة في النار حتى تحمر ثم يلحسها بلسانه حتى تبرد ويزول احمرارها، وكثير
من الناس المنتمين إلى أديان ومذاهب ونحل مختلفة في أقطار كثيرة يأتون بأعمال
غريبة في نظر جماهير الناس.
وهذه الأعمال الغريبة التي تتناقل جميع الأمم أخبارها ثلاثة أنواع:
(أحدها) صناعة الشعوذة التي يحذقها بالتعلم والتمرن وخفة الحركة أناس
كثيرون، فيأتون من الأعمال ما يعجز عنه غيرهم، وقد تخيل إلى الناظر الشيء
على غير صورته أو حقيقته، كأن ترى لسان أحدهم يصيب النار وهو لا يمسها بل
يقرب منها ويلقي لعابه عليها، وأسهل من ذلك اقتحام نار موقدة بسرعة لا تكفي
لعلوق النار بالمقتحم، وقد رأينا بعض الصبيان في بعض قرى سورية يتبارون في
اقتحام نار يوقدونها، وقلما تعلق بثوب أحد منهم.
(النوع الثاني) غرائب حقيقية يستعان عليها بالعلم بخواص الأشياء كعلم
الكيمياء والكهرباء وغيرهما، وإنما تكون غرائب عند الجاهل بأسبابها، وكذلك
النوع الأول، إنما يراه غريبًا من يجهل تلك الصناعة وما فيها من الحيل والتخيل.
(النوع الثالث) غرائب مصدرها تأثير النفس الإنسانية بقوة إرادتها وغيرها
من الخواص الروحانية كاستعدادها للعلم ببعض الأمور الواقعة أو المستقبلة من غير
طريقي الحس والفكر، وهذا النوع يتفاوت أهله فيه تفاوتًا عظيمًا بالاستعداد الفطري
وبالرياضة الروحية.
والمتكلمون يطلقون على كل ما جاء على خلاف المعروف المعهود مما لا
يعرف له سبب كلمة (خوارق العادات) ، ويعدون منها الآيات التي يؤيد الله تعالى
بها رسله - عليهم السلام - ويسمونها المعجزات، والخوارق الحقيقية لا تتكرر
كثيرًا؛ لأن ما يتكرر هو عادي؛ لأنه يعود كما بدأ، وكل ما كان من علم أو
صناعة أو قوة نفسية تستخدمها الإرادة البشرية فهو من جنس المعتاد ويتكرر؛ لأن
صاحبه يفعله بإرادته واختياره، وانحصاره في أفراد وفئات من الناس هو
كانحصار سائر الصناعات والعلوم في متعلميها ومزاوليها وقوة الاستعداد الجسدي
في أهلها.
وأما آيات الرسل التي أيدهم الله تعالى بها للدلالة على صدقهم في دعوى
الرسالة عنه فليست مما تتعلق به قدرتهم وإرادتهم بحيث يأتونها متى شاؤوا كسائر
أفعالهم الاختيارية ولا مما يتلقى بالتعليم، ولذلك أمر الله تعالى خاتم رسله الذي
أكمل دينه به أن يجيب من اقترحوا عليه الآيات بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} (العنكبوت: ٥٠) بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: ٩٣) ولكنها من شؤونه تعالى يجريها على أيديهم متى شاء، إما بغير
كسب منهم ألبتة كإعجاز القرآن وعصا موسى، وإما مقارنة لكسب ما منهم يأتونه
بإذنه ليس له من التأثير في خرق العادة إلا الصورة؛ كرمي نبينا - صلى الله عليه
وسلم - المشركين بقبضة من الرمل على البعد منهم أصابت أعينهم على كثرتهم
وبعدهم عنه واختلاف أوضاعهم وحالاتهم عند الرمي، وذلك قوله تعالى له: {وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: ١٧) ومن هذا القبيل إبراء الأكمه
والأبرص وإحياة الموتى لعيسى - عليه السلام - وإن جاز أن تكون قوة روحانيته
الوهبية هي المؤثرة بإذن الله تعالى فيه، وكرامات الأولياء أكثر ما تكون من النوع
الثالث للغرائب.
وأما السحر فليس من خوارق العادات في شيء، وإنما هو صناعة تؤخذ بالتعلم
والتمرن وتدخل فيما ذكرنا من أنواع الغرائب المعتادة التي يقصد بها الكيد والمكر
والخداع، ولذلك اتهم فرعون السحرة بأن ما فعلوه مع موسى مكر مكروه في المدينة
متواطئين عليه، وقال تعالى لموسى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ
حَيْثُ أَتَى} (طه: ٦٩) وقال في تأثير كيدهم وشعوذتهم فيه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: ٦٦) وذكر أن هاروت وماروت كانا يعلمان
الناس السحر ببابل، وخوارق العادات لا تكون بالتعلم كما تقدم؛ وفاقًا لما قاله الشيخ
محيي الدين بن العربي.
إذا تدبر السائل ما تقدم علم أن ما ذكره من اقتحام بعض الشيعة للنار هو مما
ذكرنا من العادات المكررة، والشجرة التي زعموا أنها تقطر دمًا في شهر المحرم لا
وجود لها، فأنا لم أسمع بها قبل ورود هذا السؤال، لا في بلاد الهند أيام كنت فيها
ولا في غيرها، ولما جاء هذا السؤال سألت بعض أفاضل الشيعة الذين يعرفون
الهند وإيران والعراق، فقال: لم نسمع بذكر هذه الشجرة في الهند ولا في إيران
ولا في العراق. وهذه الأقطار الثلاثة هي مواطن الشيعة الإمامية ومأوى الملايين
منهم، وفيها معاهدهم الدينية الكبرى، فكيف يجهل فيها أمر هذه الشجرة ويعرف في
زنجبار وحدها؟ ‍‍!
وهب أن ما ذكر من اقتحام النار لا دخل فيه لصنعة ولا خفة وأنه كرامة لأهل
بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأي دخل في ذلك لمذهب الإمامية
ومقتض لترك غيره إليه؟ وهل هو إلا مذهب موافق لسائر مذاهب المسلمين
المعروفة في أكثر مسائل العبادات والمعاملات، ومخالف لها في مسائل قليلة كما
يخالف بعضها بعضًا، وجميع أصحاب المذاهب الإسلامية يجلون آل بيت رسول
الله - عليه الصلاة والسلام - ويحبونهم ويوالونهم ويرون أنهم أهل لكل كرامة من
الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا ما شذ فيه بعض الخوارج الذين يتبرؤون من أمير
المؤمنين علي المرتضى - كرم الله تعالى وجهه - ومن أفراد آخرين من الصحابة
وأئمة الدين. وأس الإسلام ما أجمع عليه المسلمون ولا سيما في الصدر الأول،
وكل ما وقع فيه الخلاف بين أئمة العلم والفقه فهو من المسائل غير القطعية في
الدين التي يختلف فيها الاجتهاد، ولا ينحصر الصواب فيها بفرد من الأفراد، وفي
كل من المنتمين إلى المذاهب المنتشرة صالحون وطالحون، وأبرار وفجار، فإن
أوتي أحد الصالحين من أهل مذهب منها كرامة فلا وجه لجعلها حجة في ترجيح
مذهبه على سائر المذاهب في جميع المسائل الخلافية ولا في بعضها، ولو كان
حجة لاستغنى به عن الاجتهاد والاستدلال.
***
استطراد في تفرق المسلمين
والعبرة بمأتم عاشوراء
سبق لنا البحث في أمثال هذه المسائل مرارًا، وإنه ليحزننا أننا لا نزال في
أشد الحاجة إلى تكرير تذكير عامة إخواننا المسلمين من جميع المذاهب في جميع
الأقطار بأنه قد آن لهم أن يتركوا هذا التغاير والتناظر في المذاهب الذي أضعف
الدين، وفرق كلمة المسلمين، فإن المصائب العامة المشتركة أفصح معلم، وأحكم
مؤدب، وقد توالت عليهم نذرها، ووضحت لهم عبرها، ولا سيما في هذه السنين،
{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: ١٢٦) بلى قد رأى الأكثرون ما لم يكونوا يرون، ولكنهم لا يزالون
يعمهون، وقد أضاعوا معظم الفرص، ولا يزال لديهم مجال للعمل، فإن أضاعوا
بقية الفرصة فهم هالكون.
قد كانت ذكرى قتل الحسين وإقامة المآتم له مما يقصد به غلاة الساسيين من
الباطنية وأتباعهم زيادة التفريق بين المسلمين، وتأريث الضغائن والأحقاد بينهم،
استرسالاً مع تلك الدسائس المجوسية التي دست في الصدر الأول الكيد للمسلمين
الذين أزالوا ملك المجوس وسلطانهم الديني وملكهم الكسروي، وكان جميع
الصادقين في الإسلام من شيعة آل البيت النبوي وغيرهم غافلين عن ذلك جاهلين
به، وظل بعض المتعصبين يقصد بمثله في بعض الأوقات تقوية العصبية والتذكير
بأخذ الثأر من المعتدين الظالمين، ولكن من هم اليوم؟ وإعادة الحق إلى الأئمة
الوارثين، وأين هم اليوم؟ فعل العباسيون ببني أمية فعلتهم، وفعل العبيديون
بالعباسيين فعلتهم، وصار المسلمون دولاً كثيرة أحاط بها الخطر منذ قرنين أو أكثر،
فأي استعداد اتخذ لذلك في مجموع الأمة الإسلامية، أو في أي مملكة من ممالكها؟
أين هم من العمل بما صح مِن أن مَنْ مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة
جاهلية؟ لقد مزقوا نسيج الوحدة، ولم يبق من الجامعة الدينية في أي جماعة منهم
إلا أسباب الفرقة، ولقد صار هذا المأتم كسائر ما أحدث المسلمون المختلفو المذاهب
من الاحتفالات باسم الدين، عادات تقليدية تشبه الملاهي التي يجتمع الناس لسماع
القصص التاريخية والخيالية، بل هي أقل فائدة وأكبر ضررًا من تمثيل القصص
المذكورة في الأمم الحية.
لو كان المسلمون يعيشون عيشة الجد لجعلوا الاجتماع في عاشوراء لذكرى
مولد الإمام الحسين - عليه رضوان الله وسلامه - وسيلة سياسية لإحياء المقصد
العظيم الذي بذل هذا السبط الشهيد السعيد حياته العالية الغالية في سبيله، لا حدثًا
دينيًّا يزيد تفريق الكلمة، ولا لعبًا بالسلاح والنار وندبًا بالخطب والأشعار لا يبعث
على إقامة حق، ولا تجديد ملك، بل هو إما أن يضر وإما أن لا ينفع، ذلك المقصد
الذي لم ترتق أمة من الأمم الراقية في هذا العصر إلا على أيدي رجال من أهله
يصح أن يسموا حسينيين بما كان من استهانتهم بالحياة الدنيا في سبيل دك سلطان
الظلمة المستبدين بأمتهم، وإقامة سلطة عادلة مقيدة برأي الأمة مكانها، ذلك هو
الإمام الأعظم لمن تسميهم الأمم العزيزة اليوم بالفدائيين المنقذين لها، فهل يوجد أحد
من زعماء مأتم عاشوراء في قطر من الأقطار بث هذه الفكرة فيه، أو فكر فيها؟
***
شاهد تاريخي في مأتم عاشوراء
كان الباطنية من زنادقة المجوس وغيرهم ممن قبل دعوتهم قد اتخذوا شيعة
آل البيت ذريعة إلى مقصدهم السياسي الذي ذكرناه آنفًا، وسبق لنا بيانه من قبل،
وكان جل كيدهم موجهًا إلى جعل ملك الإسلام في قبضتهم ليمكنوا من قتله بسيفه،
وقد نجحوا بتأسيس الدولة العبيدية الفاطمية بمصر، ولكن هذه الدولة زالت قبل أن
يتمكنوا من إزالة الإسلام بها، وهذه الدولة هي التي أحدثت مأتم عاشوراء في مصر
للمقصد الذي قامت به، وإننا نورد من تاريخ المقريزي الشهير صفة مأتم عاشوراء
عندهم وهو:
***
ما كان يعمل في يوم عاشوراء
قال ابن ذولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله: في يوم عاشوراء من سنة ثلاث
وستين وثلثمائة انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين: قبر كلثوم
ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين -
عليه السلام - وكسروا أواني السقائين في الأسواق، وشققوا الروايا، وسبوا من
ينفق في هذا اليوم، ونزلوا حتى بلغوا مسجد الربح، وثارت عليهم جماعة من
الرعية أسفل، فخرج أبو محمد الحسين بن عمار وكان يسكن هناك في دار محمد
بن أبي بكر، وأغلق الدرب ومنع الفريقين ورجع الجميع فحسن موقع ذلك عند
المعز، ولولا ذلك لعظمت الفتنة؛ لأن الناس قد أغلقوا الدكاكين وأبواب الدور
وعطلوا الأسواق، وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز بمصر، وقد كانت مصر
لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية والكافورية في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر
نفيسة، وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة، وتتعلق السودان في
الطرقات بالناس ويقولون للرجل: من خالك؟ فإن قال: معاوية. أكرموه، وإن
سكت لقي المكروه، وأخذت ثيابه وما معه حتى كان كافور قد وكّل بالصحراء ومنع
الناس من الخروج.
وقال المسبحي: وفي يوم عاشوراء - يعني من سنة ست وتسعين وثلثمائة
جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى
جامع القاهرة، ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد، ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي
القضاة عبد العزيز بن النعمان سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال
لهم: لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم ولا تؤذوهم، ولا
تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء. ثم اجتمع بعد ذلك طائفة
منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة وأنشدوا وخرجوا على الشارع
بجمعهم، وسبوا السلف، فقبضوا على رجل ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة
وزوجها - صلى الله عليه وسلم - وقدم الرجل بعد النداء وضرب عنقه.
وقال ابن المأمون: وفي يوم عاشوراء - يعني من سنة خمس عشرة
وخمسمائة - عبي السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر التي كان يسكنها
الأفضل ابن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو يعبى في غير
المكان الجاري به العادة في الأعياد، ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم،
والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس، وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخللات،
وجميع الخبز من شعير، وخرج الأفضل من باب فرد الكم، وجلس على بساط
صوف من غير مشورة، واستفتح المقرئون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم،
وحمل السماط لهم، وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر
السماط عدس أسود، ثم بعده عدس مصفى إلى آخر السماط، ثم رفع وقدمت صحون
جميعها عسل نحل، ولما كان يوم عاشوراء من سنة ست عشرة وخمسمائة جلس
الخليفة الآمر بأحكام الله على باب الباذهنج - يعني من القصر - بعد قتل الأفضل،
وعود الأسمطة إلى القصر على كرسي جريد بغير مخدة متلثمًا هو وجميع حاشيته،
فسلم عليه الوزير المأمون وجميع الأمراء الكبار والصغار بالقراميز، وأذن للقاضي
والداعي والأشراف والأمراء بالسلام عليه، وهم بغير مناديل ملثمون حفاة، وعبي
السماط في غير موضعه المعتاد، وجميع ما عليه خبز الشعير والحواضر على ما كان
في الأيام الأفضلية، وتقدم إلى والي مصر والقاهرة، بأن لا يمكنا أحدًا من جمع ولا
قراءة مصرع الحسين، وخرج الرسم المطلق للمتصدرين والقراء الخاص والوعاظ
والشعراء وغيرهم على ما جرت به عادتهم، قال: وفي ليلة عاشوراء من سنة سبع
عشرة وخمسمائة اعتمد الأجل الوزير المأمون على السنة الأفضلية من المضي فيها
إلى التربة الجيوشية، وحضور جميع المتصدرين والوعاظ وقراء القرآن إلى آخر
الليل وعوده إلى داره، واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك، وجلس الخليفة
على الأرض متلثمًا يرى به الحزن، وحضر من شرف بالسلام عليه، والجلوس على
السماط بما جرت به العادة.
قال ابن الطوير: إذا كان اليوم العاشر من المحرم احتجب الخليفة عن الناس،
فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود، وقد غيروا زيهم فيكونون كما هم
اليوم، ثم صاروا إلى المشهد الحسيني، وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر،
فإذا جلسوا فيه ومن معهم من قراء الحضرة والمتصدرين في الجوامع جاء الوزير
فجلس صدرًا، والقاضي والداعي من جانبيه والقراء، يقرؤون نوبة بنوبة، وينشد
قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرًا يرثون به أهل البيت - عليهم السلام - فإن
كان الوزير رافضيًّا تغالوا، وإن كان سُنيًّا اقتصدوا، ولا يزالون كذلك إلى أن تمضي
ثلاث ساعات فيستدعون إلى القصر بنقباء الرسائل، فيركب الوزير وهو بمنديل
صغير إلى داره ويدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما إلى باب الذهب،فيجدون
الدهاليز قد فرشت سماطها بالحصر بدل البسط، وينصب في الأماكن الخالية من
المصاطب دكك لتحلق بالمصاطب لتفرش، ويجدون صاحب الباب جالسًا هناك،
فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القراء
وينشد المنشدون أيضًا، ثم يفرش عليها سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس
والملوحات والمخللات والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النحل، والفطير والخبز
المغير لونه بالقصد، فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة وأدخل
الناس للأكل منه، فيدخل القاضي والداعي ويجلس صاحب الباب نيابة عن الوزير،
والمذكوران إلى جانبه، وفي الناس من لا يدخل ولا يلزم أحد بذلك، فإذا فرغ القوم
انفصلوا إلى أماكنهم ركبانًا بذلك الزي الذي ظهروا فيه، وطاف النواح بالقاهرة ذلك
اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر فيفتح الناس بعد ذلك وينصرفون
اهـ ما جاء في تاريخ المقريزي عقب الكلام على المشهد الحسيني وذكر خلاصة مقتل
الإمام الحسين، ثم قال في باب بيان أعياد الفاطميين ومواسمهم ما نصه:
(يوم عاشوراء) كانوا يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق ويعمل فيه
السماط العظيم المسمى سماط الحزن، وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسيني فانظره،
وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير، فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب
يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم
ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون، ويدخلون الحمام جريًا
على عادة أهل الشأم التي سنها لهم الحجاج في أيام عيد عبد الملك بن مروان
ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - الذين يتخذون يوم
عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي؛ لأنه قتل فيه، وقد أدركنا بقايا
مما عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط، وكل الفعلين غير
جيد، والصواب ترك ذلك والاقتداء بفعل السلف فقط، وما أحسن قول أبي الحسين
الجزار الشاعر يخاطب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، وكتب بها إليه ليلة
عاشوراء عندما أخر عنه ما كان من جاريه في الأهراء:
قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي ... والسيد بن السيد بن السيد
أقسم بالفرد العلي الصمد ... إن لم يبادر لنجاز موعدي
لأحضرن للهناء في غد ... مكحل العينين مخضوب اليد

يعرض للشريف بما يُرْمَى به الأشراف من التشيع، وأنه إذا جاءه بهيئة
السرور في يوم عاشوراء غاظه ذلك؛ لأنه من أفعال الغضب، وهو من أحسن ما
سمعته في التعريض، فلله دره.