وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر، فخرج أبو داود وأحمد وغيرهما عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) زاد ابن ماجه: (يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير) وخرجه البخاري عن أبي عامر وأبى مالك الأشعري قال فيه: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز [١] والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحة لهم. يأتيهم رجل لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) وفي سنن أبي داود: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير، وقال في آخره: يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) . والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير وغيره. وقوله في الحديث: (لينزلن أقوام) يعني - والله أعلم - من هؤلاء المستحلين، والمعنى أن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم - وهو الجبل - فيواعدهم إلى الغد، فيبيتهم الله - وهو أخذ العذاب ليلاً - ويمسخ منهم آخرين، كما في حديث أبي داود كما في الحديث قبل: يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير. وكأن الخسف هاهنا هو التبييت المذكور في الآخر. وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر، وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره، وإنما الخمر عصير العنب النيء، وهذا رأي طائفة من الكوفيين، وقد ثبت أن كل مسكر خمر. قال بعضهم: وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته. قال: وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحذ بما أوقعوها به يوم السبت في الشِبَاك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا: ليس هذا بصيد، ولا عمل يوم السبت، وليس هذا باستباحة الشح [٢] . بل الذي يستحل الخمر زاعمًا (أنه ليس خمرًا مع علمه بأن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصود الخمر، أفسد تأويلاً، من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسًا، فلئن كان من القياس ما هو حق، فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل، وهو من القياس الجلي؛ إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم. فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالاً لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيئ، فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير (للنساء) مطلقًا وللرجال في بعض الأحوال فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحوه، وأبيح منه الحداء وغيره، وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر؛ فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون، إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء. وقد خرَّج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع) قال بعضهم: يعني العينة. وروي في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض يستحل فيه الحِر والخز) يريد استحلال الفروج الحرام، والحِر (بكسر الحاء المهملة والراء المخففة) الفرج، قالوا: ويشبه - والله أعلم - أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك بما يوجب استحلال الفروج المحرمة؛ فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل، فإن هذا لم يزل معمولاً في الناس؛ ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً، والواقع كذلك؛ فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين، في تلك الأزمان صار في أولي الأمر مَن يفتي بنكاح المحلل ونحوه، ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلاً. ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل له. وروى أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله) فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا ومرفوعًا قال: (يأتي على الناس زمان يُستحل فيه خمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالريبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع) ، فإن الزيادة المذكورة أولاً قد سنت، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضًا، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة. قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال: (إن من ضئ ضئ هذا قومًا يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ولعل هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا) الحديث، يدل عليه تفسير الحسن قال: يصبح محرّمًا لدم أخيه وعرضه ويمسي مستحلاًّ ... إلى آخره. وقد وَضع القتل شرعًا معمولاً به على غير سُنة الله وسُنة رسوله المتسمى بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث، فجعل القتل عقابًا في ثمانية عشر صنفًا ذكروا منها: الكذب، والمُداهنة، وأخذهم أيضًا بالقتل في ترك امتثال أمر من يستمع أمره، وبايعوه على ذلك؛ وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم، ومَن لم يحضر أُدّب، فإن تمادى قتل، وكل من لم يتأدب بما أُدّب به ضرب بالسوط المرة والمرتين، فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل، ومن داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل. وكل من شك في عصمته قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به، وكل من خالف أمره أمر أصحابه فعزروه، فكان أكثر تأديبه القتل - كما ترى - كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف إمام أو خطيب يأخذ أجرًا على الإمامة أو الخطابة، وكذلك لبس الثياب الرفيعة - وإن كانت حلالاً - فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات بذلك السبب. فقُدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع - زعموا -[٣] فترك الصلاة خلفه. وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية. قال العلماء: وهو بدعة ظهرت في الشريعة بعد المائتين. ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله. وذكر في كتاب الإمامة أنه هو الإمام، وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم: (بُدئ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ، فطوبى للغرباء) وقال في الكتاب المذكور: جاء الله بالمهدي وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد؛ وإن به قامت السموات والأرض، وبه تقوم، ولا ضد له ولا مثل ولا ند، انتهى. وكذب فالمهدي عيسى عليه السلام. وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح، وبعد المغرب، فأمر المؤذنين إذا طلع الفجر أن ينادوا: (أصبح ولله الحمد) إشعارًا - زعموا - بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة، ولحضور الجماعة، وللغد، ولكل ما يؤمرون به. وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا، وجميع ذلك إلى [٤] إنه قائل برأيه في العبادات والعادات، مع زعمه أنه غير قائل بالرأي. وهو التناقض بعينه، فقد ظهر إذًا جريان تلك الأشياء على الابتداع. وأما كون الزكاة مغرمًا، فالمغرم (ما) يلزم أداؤه من الديون، والغرامات كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره علن النصاب أو عدم قصوره؛ بل يأخذونهم بها على كل حال إلى الموت، وكون هذا بدعة ظاهر. وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشئ عن بدعة الجدال في الدين، فإن من عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه وإسماعه أن يكون في المساجد، ومن آدابه أن لا ترفع فيه الأصوات في غير المساجد، فما ظنك به في المساجد؟ فالجدال فيه زيادة الهوى، فإنه غير مشروع في الأصل، فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين، وهو الكلام فيما لم يأذن في الكلام فيه، كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما، وكمتشابهات القرآن؛ ولأجل ذلك جاء في الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} (آل عمران: ٧) .... الآية، قال (فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذورهم) وفي الحديث: (ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل) وجاء عنه عليه السلام أنه قال: (لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر) وعنه عليه السلام أنه قال: (إن القرآن يصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، ما علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه) وقال عليه السلام (اقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه) وخرج ابن وهب عن معاوية بن قرة قال: إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال. وقال النخعي في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (المائدة: ٦٤) قال: الجدال والخصومات في الدين. وقال معن بن عيسى: انصرف مالك يومًا إلى المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله! اسمع مني شيئًا أكلمك به وأحاجّك وأخبرك برأيي. فقال له: احذر أن أشهد عليك. قال: والله ما أريد إلا الحق. اسمع مني، فإن كان صوابًا فقل به أو فتكلم؛ قال: فإن غلبتني؟ قال: اتبعني. قال: فإن غلبتك؟ قال اتبعتك؛ قال: فإن جاء رجل فكلمناه فغلبنا؟ قال: اتبعناه. فقال له مالك: يا عبد الله! بعث الله محمدًا بدين واحد وأراك تنتقل. وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضًا للخصومات أكثر التنقل. وقال مالك: ليس الجدال في الدين بشيء. والكلام في ذم الجدال كثير. فإذا كان مذمومًا فمن جعله محمودًا وعدّه من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين. ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة، وذلك مظنة رفع الأصوات. فإن قيل: عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك؛ فرفع الأصوات قد يكون في العلم، ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد، وإن كان في العلم أو في غير العلم. قال ابن القاسم في المبسوط: رأيت مالكًا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد. وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين: إحداهما: أنه يجب أن ينزه المسجد عن مثل هذا؛ لأنه مما أمر بتعظيمه وتوقيره. والثانية: أنه مبني للصلاة، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار، فلأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى. وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة بين ناحية المسجد تسمى البطحاء [٥] وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة. فإذا كان كذلك، فمِن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد على الجدل المنهي عنه؟ فالجواب من وجهين: (أحدهما) : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم، أعني في أكثر الأمر دون الفلتات؛ لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشئ عن الهوى في الشيء المتكلم فيه، وأقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت الكلام فيما لم يؤذن فيه، وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم. وأيضًا لم يكثر الكلام جدًّا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام، وإلى غرضه تصوبت سهام النقد والذم، فهو إذًا هو. وقد روي عن عميرة ابن أبي ناجية المصري أنه رأى قومًا يتعارّون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال: هؤلاء قوم قد ملوا العبادة، وأقبلوا على الكلام، اللهم أمت عميرة، فمات من عامه ذلك في الحج؛ فرأى رجل في النوم قائلاً يقول: مات في هذه الليلة نصف الناس، فعرفت تلك الليلة، فجاء موت عميرة هذا. (والثاني) : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان أيضًا من البدع إذا عد كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولاً به لا يفي [٦] ولا يكف عنه مجرى البدع المحدثات [٧] . وأما تقديم الأحداث على غيرهم؛ من [٨] قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره؛ لأن الحدث أبدًا أو في غالب الأمر غِرٌّ لم يتحنك، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ الشيوخ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة، ولذلك قالوا في المثل: وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قرن ... لم يستطع صولة البُزْل القناعيس هذا إن حملنا الحدث على حداثة السن، وهو نص في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة، ويحتمله قوله: (وكان زعيم القوم أرذلهم) وقوله: (وساد القبيلة فاسقهم) وقوله: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله) فالمعنى فيها واحد. فإن الحديث العهد بالشيء لا يبلغ مبالغ القديم العهد فيه. ولذلك يحكى عن الشيخ أبى مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عنهم؛ فقال: الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد، وإن كان ابن ثمانين سنة. فإذًا تقديم الأحداث على غيرهم، من باب تقديم الجهّال على غيرهم. ولذلك قال فيهم: (سفهاء الأحلام، وقال: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) إلى آخره، وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج (إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) إلى آخر الحديث. يعني أنهم لم يتفقهوا فيه، فهو في ألسنتهم لا في قلوبهم. وأما لعن آخر هذه الأمة أولها؛ فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة؛ فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضي الله عنهم حين لم يصرفوا الخلافة إلى علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرت عليًّا رضي الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها. وأما ما دون ذلك مما يوقف فيه عند السبب، فمنقول موجود في الكتب، وإنما فعلوا ذلك لمذاهب سوء لهم رأوها فبنوا عليها ما يضاهيها من السوء والفحشاء، فلذلك عُدُّوا من فرق أهل البدع. قال مصعب الزبيري وابن نافع: دخل هارون - يعني الرشيد - المسجد فركع، ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، ثم أتى مجلس مالك فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. ثم قال لمالك: هل لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء حق؟ قال: لا كرامة ولا مسرة. قال: من أين قلت ذلك؟ قال: قال الله عز وجل: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ} (الفتح: ٢٩) فمن عابهم فهو كافر، ولا حق لكافر في الفيء. واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (الحشر: ٨) ... إلى آخر الآيات الثلاث، قال: فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه وأنصاره، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: ١٠) فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه. وفي فعل خواص الفرق من هذا المعنى كثير. وأما بعث الدجالين؛ فقد كان جملة، منهم من تقدم في زمان بني العباس وغيرهم. ومنهم معدّ [٩] من العبيدية الذين ملكوا إفريقية؛ فقد حكي عنه أنه جعل المؤذن يقول: أشهد أن معدًّا رسول الله. عوضًا من كلمة الحق: (أشهد أن محمدًا رسول الله) فهمّ المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره، فلما انتهى كلامهم إليه، قال: اردد عليهم أذانهم، لعنهم الله. ومن يدّعي لنفسه العصمة: فهو شبه من يدعي النبوة. ومن يزعم أنه به قامت السموات والأرض فقد جاوز دعوى النبوة، وهو المغربي المتسمي بالمهدي. وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة واستظهر عليها بأمور موهمة للكرامات، والإخبار بالمغيبات، ومخيلة الخوارق للعادات، تبعه على ذلك من العوام جملة؛ ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا البأس - وهو ما لقة - آخذًا ينظر في قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: ٤٠) وهل يمكن تأويله؟ وجعل يطرق إليه الاحتمالات، ليسوغ إمكان بعث نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبى جعفر بن الزبير رحمه الله. ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال: حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب، قال: لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر بتلاوة سورة يس، فقال له أحد الذعرة ممن جمع السجن بينهما: اقرأ قرآنك، لأي شيء تتفضل على قرآننا اليوم؟ أو في معنى هذا، فتركها مثلاً بلوذعيته. وأما مفارقة الجماعة، فبدعتها ظاهرة؛ ولذلك يُجازى [١٠] بالميتة الجاهلية. وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم. فهذا أيضًا من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث. وباقي الخصال المذكورة عائد إلى نحو آخر ككثرة النساء وقلة الرجال، وتطاول الناس في البنيان، وتقارب الزمان. فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع لكن من جهة التعبد لا من جهة كونها عادية وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة، والمعصية التي هي ليست ببدعة. وأن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة. وحصل بذلك اتفاق القولين، وصار المذهبان مذهبًا واحدًا، وبالله التوفيق. *** فصل فإن قيل: أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد في العاديات من حيث (هو) توقيت معلوم معقول؛ فإيجابه أو إجازته بالرأي - كما تقدم - من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عن الجادة - فظاهر [١١] ومن ذلك القول بالتحسين والتقبيح العقلي، والقول بترك العمل بخبر الواحد، وما أشبه ذلك، فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه. وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به، وهو أن المعاصي والمنكرات والمكروهات قد تظهر وتفشو ويجري العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها إنكار من خاص ولا عام، فما كان منها هذا شأنه: هل يعد مثله بدعة أم لا؟ فالجواب: إن مثل هذه المسألة لها نظران: (أحدهما) : نظر من حيث وقوعها عملاً واعتقادًا في الأصل، فلا شك أنها مخالفة لا بدعة، إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة أن لا ينشرها ولا يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر؛ بل لا تزول المخالفة ظهرت أو لا، واشتهرت أم لا؛ وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه لا يؤثر في واحدة منهما، والمبتدع قد يقام عن بدعتة، والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت، عياذًا بالله. (والثاني) : نظر من جهة ما يقترن من خارج؛ فالقرائن قد تقترن فتكون سببًا في مفسدة حالية وفي مفسدة مالية، كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة. أما الحالية فبأمرين: الأول أن يعمل بها الخواص من الناس عمومًا، وخاصة العلماء خصوصًا وتظهر من جهتهم. وهذه مفسدة في الإسلام ينشأ عنها عادة من جهة العوام استسهالها واستجارتها؛ لأن العالم المنتصب مفتيًّا للناس بعمله كما هو مفتٍ بقوله. فإذا نظر الناس إليه وهو يعمل بأمره هو مخالفة [١٢] حصل في اعتقادهم جوازه، ويقولون: لو كان ممنوعًا أو مكروهًا لامتنع منه العالم. هذا وإن نص على منعه أو كراهته، فإن عمله معارض لقوله؛ فإما أن يقول العامي: إن العالم خالف بذلك، ويجوز عليه مثل ذلك. وهم عقلاء الناس وهم الأقلون. وإما أن يقول: إنه وجد فيه رخصة فإنه لو كان كما قال لم (يأت) به فيرجح بين قوله وفعله. والفعل أغلب من القول في جهة التأسي - كما تبين في كتاب الموافقات - فيعمل العامي بعمل العالم تحسينًا للظن به فيعتقده جائزًا، وهؤلاء هم الأكثرون. فقد صار عمل العالم عند العامي حجة، كما كان قوله حجة على الإطلاق والعموم في الفتيا، فاجتمع على العامي العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل، وهذا عين البدعة. بل قد وقع مثل هذا في طائفة ممن تميز عن العامة بانتصاب في رتبة العلماء، فجعلوا العمل ببدعة الدعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات، وقراءة الحزب، حجة في جواز العمل بالبدع في الجملة، وأن منها ما هو حسن؛ وكان منهم من ارتسم في طريقة التصوف فأجاز التعبد لله بالعبادات المبتدعة، واحتج بالحزب والدعاء بعد الصلاة كما تقدم. ومنهم من اعتقد أنه ما عُمل به إلا لمستند، فوضعه في كتاب وجعله فقهًا كبعض أما أريد الرس ممن قيد على الأمة ابن زيد. وأصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان، والعمل به على الغفلة، ومن هنا تستشنع زلة العالم، فقد قالوا: ثلاث تهدم الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة ضالون. وكل ذلك عائد وباله على عالم [١٣] وزَلَلُه المذكور عند العلماء يحتمل وجهين: (أحدهما) : زَلَلُه في النظر حتى يفتي بما خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه، وذلك الفتيا بالقول. و (الثاني) : زَلَلُه في العمل بالمخالفات، فيتابع عليها أيضًا على التأويل المذكور، وهو في الاعتبار قائم مقام الفتيا بالقول؛ إذ قد علم أنه متبع ومنظور إليه، وهو مع ذلك يظهر بقوله ما ينهى عنه الشارع، فكأنه مفت به، على ما تقرر في الأصول. والثاني من قسمي المفسدة الحالية أن يعمل بها العوام وتشيع فيهم وتظهر، فلا ينكرها الخواص، ولا يرفعون لها رؤوسهم [١٤] قادرون على الإنكار فلم يفعلوا، فالعامي من شأنه إذا رأى أمرًا يجهل حكمه يعمل العالم به فلا ينكر عليه، اعتقد أنه جائز أو أنه حسن أو أنه مشروع، بخلاف ما إذا أنكر عليه فإنه يعتقد أنه عيب، أو أنه غير مشروع (أو) أنه ليس من فعل المسلمين. هذا أمر يلزم مَن ليس بعالم بالشريعة؛ لأن مستنده الخواص والعلماء في الجائز مع غير الجائز. فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار، مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف المنكر، ووجود القدرة عليه، فلم يفعل؛ دل عند العوام أنه فعل جائز لا حرج فيه، فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من العوام [١٥] فصارت المخالفة بدعة كما في القسم الأول. وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة والسلام؛ والعلماء ورثة الأنبياء؛ فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره. واعتبر ذلك ببعض ما أُحدث في المساجد من الأمور المنهي عنها فلم يُنكرها العلماء، أو عملوا بها فصارت بعد سننًا ومشروعات كزيادتهم مع الأذان: (أصبح ولله الحمد) والوضوء للصلاة: (تأهبوا) ودعاء المؤذنين بالليل في الصوامع؛ وربما احتجوا ذلك بعض الناس بما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما عليه فيه [١٦] وقد قيدنا في ذلك جزءًا مفردًا، فمَن أراد الشفاء في المسألة فعليه به، وبالله التوفيق. وخرج أبو داود قال: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا. فلم يعجبه ذلك. قال: فذكر له القمع، يعني الشبور، وفي رواية: شبور اليهود، فلم يعجبه؛ وقال: (هو من أمر اليهود. قال: فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر النصارى) فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في منامه - إلى آخر الحديث. وفي مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن ينوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا [١٧] فأمر بلال أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة. والقمع والشبور: هو البوق، وهو القرن الذي وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما. فأنت ترى كيف كره النبي صلى الله عليه وسلم شأن الكفار فلم يعمل على موافقته. فكان ينبغي لمن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك في المساجد إعلامًا بالأوقات أو غير إعلام بها؛ أما الراية فقد وضعت إعلامًا بالأوقات، وذلك شائع في بلاد المغرب، حتى إن الأذان معها قد صار في حكم التبع [١٨] . وأما البوق فهو العلم في رمضان إلى غروب الشمس ودخول وقت الإفطار، ثم هو علم أيضًا بالمغرب والأندلس على وقت السحور ابتداءً وانتهاءً [١٩] والحديث قد جعل علمًا لانتهاء نداء ابن أم مكتوم قال ابن شهاب: وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت. وفي مسلم وأبى داود: (لا يمنعن أحدكم نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) الحديث. فقد جعل أذان بلال لأن ينتبه النائم لما يحتاج إليه من سحوره وغيره، فالبوق ما شأنه؟ وقد كرهه عليه السلام، ومثله النار التي ترفع دائمًا في أوقات الليل وبالعشاء والصبح في رمضان أيضًا، إعلامًا بدخوله، فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور، ثم ترفع في المنار إعلامًا بالوقت؛ والنار شعار المجوس في الأصل. قال ابن العربي: أول من اتخذ البخور في المسجد بنو برمك يحيى بن خالد ومحمد بن خالد، ملَّكهما الوالي أمر الدين فكان محمد بن خالد حاجبًا ويحيى وزيرًا، ثم ابنه جعفر بن يحيى. قال: وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة، فأحيوا المجوسية، واتخذوا البخور في المساجد - وإنما تطيب بالخلوق - فزادوا التجمير [٢٠] ويعمرونها بالنار منقولة حتى يجعلوها عند الأندلس ببخورها ثاتبة [٢١] انتهى. وحاصله أن النار ليس إيقاد ما في المساجد من شأن السلف الصالح، ولا كانت مما تزين به المساجد ألبتة، ثم أحدث التزين بها حتى صارت من جملة ما يعظم به رمضان؛ واعتقد العامة هذا كما اعتقدوا طلب البوق في رمضان في المساجد، حتى لقد سأل بعضهم عنه: أهو سنة أم لا؟ ولا يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون أن مثل هذه الأمور مشروعة على الجملة في المساجد، وذلك بسبب ترك الخواص الإنكار عليهم. وكذلك أيضًا لما لم يتخذ الناقوس للإعلام، حاول الشيطان فيه بمكيدة أخرى، فعلق بالمساجد واعتد به في جملة الآلات التي توقد عليها النيران وتزخرف بها المساجد، زيادة إلى زخرفتها بغير ذلك، كما تزخرف الكنائس والبيع. ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن. وذكر النواوي أنها من البدع القبيحة، وأنها ضلالة فاحشة جُمع فيها أنواع من القبائح: منها إضاعة المال في غير وجهه، ومنها إظهار شعائر المجوس، ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة، ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع. اهـ. وقد ذكر الطرطوشي في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور، وذكر أيضًا قبائح سواها. فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر، أو وضع الرداء؟ وهو أقرب مرامًا وأيسر خطبًا من أن تنشأ بدع محدثات، يعتقدها العوام سننًا بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب عملهم بها. وأما المفسدة المالية فهي على فرض [٢٢] أن يكون الناس عالمين بحكم المخالفة، وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها، ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة؛ لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من غير إنكار، لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات. وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعلمهم بالربا [٢٣] فكل من يراهم من العامة صيارف وتجارًا في أسواقنا من غير إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك؛ وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي الموضوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنًا بوزن، ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلاً [٢٤] والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم، ولم يزل العلماء من السلف الصالح ومَن بعدهم يتحفّظون من أمثال هذه الأشياء، حتى كانوا يتركون السنن خوفًا من اعتقاد العوام أمرًا هو أشد من ترك السنن، وأولى أن يتركوا المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع. وقد مرّ بيان هذا في باب البيان من كتاب الموافقات. فقد ذكروا أن عثمان - رضي الله عنه - كان لا يقصر في السفر فيقال له: أليس قد قصرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول بلى؛ ولكني إمام الناس، فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون: هكذا فرضت. [٢٥] قال الطرطوشي: تأملوا رحمكم الله: فإن في القصر قولين لأهل الإسلام، منهم مَن يقول: فريضة. ومَن أتم فإنما يتم ويعيد أبدًا؛ ومنهم من يقول: سنّة. يعيد من أتم في الوقت. ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان. وكان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يضحون: (يعني أنهم لا يلتزمون [٢٦] ) قال حذيفة بن أسد: شهدت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لا يضحيان مخافة أن يُرى أنها واجبة. وقال بلال: لا أبالي أن أضحي بكبشين أو بديك. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يشتري لحمًا بدرهم يوم الأضحى، ويقول لعكرمة: من سألك فقل: هذه أضحية ابن عباس. وقال ابن مسعود: إني لأترك أضحيتي - وإني لمن أيسركم - مخافة أن يظن أنها واجبة. وقال طاووس: ما رأيت بيتًا أكثر لحمًا وخبزًا أو علمًا من بيت ابن عباس، يذبح وينحر كل يوم، ثُم لا يذبح يوم العيد؛ وإنما كان يفعل ذلك لئلا يظن الناس أنها واجبة. وكان إمامًا يقتدى به. قال الطرطوشي: والقول في هذا كالذي قبله، وإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية، أحدهما: سنة، والثاني: واجبة. ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرًا من أن يضع الناس الأمر على غير وجهه فيعتقدونها فريضة. قال مالك في الموطأ في صيام ستة بعد الفطر من رمضان: إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها. قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه لو رأوا في ذلك رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك. فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم؛ بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه؛ لكنه لم ير العمل عليه - وإن كان مستحبًّا في الأصل - لئلا يكون ذريعة لما قال، كما فعل الصحابة - رضي الله عنهم - في الأضحية، وعثمان في الإتمام في السفر. وحكى الماوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان هو الأصل: فذكر أن الناس كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب، كأنه كان مفروشًا بالتراب، فأمر زياد بإلقاء الحصا في صحن المسجد: وقال: لست آمن مِن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة. وهذا في مباح، فكيف به في المكروه أو الممنوع؟ ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في الخمر: ليست بحرام ولا عيب فيها؛ وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه. وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرًا، لأنه إنكار لما علم من دين الأمة ضرورة؛ وسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها، والتخلية بينهم وبين اقتنائها، وشهرته بحارة أهل الذمة فيها [٢٧] وأشباه ذلك. ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعًا وليس بمشروع. وهذا الحال متوقع أو واقع. فقد حكى القرافي عن العجم ما يقتضي أن ستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان، لإبقائهم حالة رمضان الخاصة به كما هي إلى تمام الستة الأيام. وكذلك وقع عندنا مثله، وقد مر في الباب الأول. وجميع هذا منوط إثمه بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم، أو من يعمل ببعضها بمرأى من الناس أو في مواقعهم؛ فإنهم الأصل في انتشار هذه الاعتقادات في المعاصي أو غيرها. وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه: (أحدها) : وهو أظهر الأقسام: أن يخترعها المبتدع. (والثاني) : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة فيفهمها الجاهل مشروعة. (والثالث) : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار وهو قادر عليه، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة. (والرابع) : من باب الذرائع، وهي أن يكون العمل في أصله معروفًا، إلا أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى. إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد، ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطئ؛ بل هي في القرب والبعد على تفاوت؛ فالأول هو الحقيق باسم البدعة، فإنها تؤخذ علة بالنص عليها، ويليه القسم الثاني، فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول؛ بل قد يكون أبلغ منه في مواضع - كما تبين في الأصول - غير أنه لا ينزل هاهنا من وجه منزلة الدليل أن العالم قد يعمل وينص على قبح عمله. ولذلك قالوا: لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك. وقال الخليل بن أحمد أو غيره: اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري ويليه القسم الثالث، فإن ترك الإنكار - مع أن رتبة المنكر رتبة من يعد ذلك منه إقرار - يقتضي أن الفعل غير منكر، ولكن يتنزل منزلة ما قبله؛ لأن الصوارف للقدرة كثيرة، قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل، فإنه لا عذر في فعل الإنسان بالمخالفة، مع علمه بكونها. ويليه القسم الرابع؛ لأن المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه عرض، فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوي رتبة الواقعة أصلاً، فلذلك كانت من باب الذرائع، فهي إذاً لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة، فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة. وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات، والبدعة من خارج، إلا أنها لازمة لزومًا عاديًّا، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث. والله أعلم. ((يتبع بمقال تالٍ))