وهي رسالة نقلها عن درس للأستاذ العلامة الفيلسوف الشيخ جمال الدين الأفغاني الحسيني رحمه الله، كان ألقاه على طلبته الأفاضل عندما كان يدرس كتاب الإشارات للشيخ الرئيس أبي علي بن سيناء، وجعل ذلك الموضوع فاتحة تدريسه. قال حفظه الله: إذا وجه العقل نظر الاعتبار إلى الأجسام الحية بالحياة النباتية أو الحيوانية أو الإنسانية علم أن قوام حياتها بتفاعل العناصر الداخلية في قوامها تفاعلاً متناسبًا بحيث لا يتميز أحد تلك العناصر بالغلبة على باقيها، غلبة تقضي بظهور بعض خواصه وتسلطها على خصائص البقية، فبذلك التناسب يتم للبدن الحي ما يسمى بالمزاج المعتدل الحامل لروح الحياة، فإن غلب أحد العناصر على سائرها واضمحلت خواص بقيتها فيه انحرف المزاج وخرج عن حد الاعتدال واستولى المرض على الجسم. وكما يكون الاختلال وفساد البنية بتغلب بعض العناصر على ما سواه منها كذلك يكون بمغالبة المزاج للحوادث الخارجية وغلبتها عليه، كالبرد الشديد المذهب لروح الحرارة الغريزية، والحر الشديد الموجب للاحتراق وتحلل الرطوبة الضرورية المنتهي إلى اليبس نذير الموت والفناء. ومن ثم وضعوا علوم النباتات والحيوانات والطب البشري والبيطري ليبحث في تلك العلوم عما به يحفظ التوازن بين البسائط التي يتركب منها الجسم، ويحترز من تسلط الحوادث الخارجية عليه ويعاد به المزاج إلى حالة الاعتدال إن خرج عنها لتتم حكمة الله في بقاء الأنواع إلى آجالها المحددة بحكم الحكمة الأزلية. فالنباتيون يعينون الأراضي القابلة للزراعة والغراسة لكل نبات ويحددون الفصول الملائم هواؤها لنموه، ويوضحون مواد التسميد وغير ذلك مما لا بد منه في تربية النباتات، وكذلك الأطباء يبحثون عن مواد الأغذية وماذا يجب أن يتخذ منها لكل مزاج، ومضار الأهوية ومنافعها، ويقفون بتجاربهم الصادقة على الأدوية النافعة لرد البدن إلى حالة الصحة وآلات العلاج المفيدة، حتى يحفظ بذلك على البدن صحته ويرجع إليها إن انحرف عنها. ولن يكون الطبيب طبيبًا يترتب عليه غايته حتى يكون على علم بالتاريخ الطبيعي وعلوم النباتات ليعلم خواصها ويميز نافعها من ضارها، وعلى بصيرة من اختلاف الأمزجة ومقتضياتها وما يلائم كل واحد على حسبه وخبيرًا بعلل الأمراض وأسبابها وكيفياتها من شدة وضعف، وتاريخها من قدم وحدوث، حتى يعالج كلًّا بما يليق به، فإن جهل من ذلك شيئًا كان فقده خيرًا من وجوده، فإن الطبيب الجاهل رسول ملك الموت، إذ بجهله يستعمل من الأدوية ما عساه يهيج المرض، ويعين من الأغذية ما يساعده على قسوته، فيفضي كل إلى هلاك المريض، وقد كان بدونه محتمل الشفاء بمقاومته الطبيعية لولا مساعدة الجاهل وعونه، وكما يلزم للطبيب أن يكون عالمًا بجميع ما قدمنا يجب أن يكون شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا، لا يكون قصارى عمله ما يناله من جُعل المعالجة، فإنه إن كان قاسيًا عديم الرأفة، أو كان خائنًا فلربما صار آلة في أيدي أعداء المريض، يستعملونه لهلاكه بإلقائه السم في الأدوية مثلاً أو إهماله في العلاج بما يقدمون إليه من العرض الفاني، وكذلك إن قصرهما على ما يناله من الدينار والدرهم، فإنه إن كان على تلك الصفة لم يكترث بحال المريض ما دام يوفى أجر عمله، فإن هلك فقد نال ما يزيد عن مكافأته، وإن امتد المرض زاد الإيراد بتوارد الأوقات فعدمه أيضًا خير من وجوده. وكما أن روح الحياة البدني إنما يستقر حين تجتمع أصول متضاربة ينشأ من تغالبها مزاج معتدل كامل، وبغلبة أحدها يفسد التركيب ويذهب الروح الحيوي من حيث أتى كذلك روح الكمال الإنساني إنما يكون حيث تجتمع أخلاق متضادة وملكات متخالفة، يقوم من تضادها وتخالفها حقيقة الفضيلة المعتدلة التي هي ركن لبيت سعادة الإنسان، وعليها مدار حياته الفاضلة، فإن تغلب أحد الخلقين على الآخر فسد نظام الفضيلة واستحكمت الرذيلة وبات شقيًا سيئ الحال وسقط في مهواة التعب والعناء المفضيين إلى الحَين والهلاك. ألا ترى أن النفس الإنسانية لا بد لها من خلق الجراءة وخلق المخافة وهما متضادان؟ ومن مقاومتهما على وجه معتدل بحيث يستعمل كلاًّ فيما يليق به من المواقع تتحقق فضيلة الشجاعة التي لو فقدت بتغلب المخافة لكان فاقدها عرضة لتعدي جميع الحيوانات عليه ولم يستطع عن نفسه دفاعًا، وكانت حياته على خطر يتهدده في جميع أوقاته. ولو أن الجراءة تغلبت على المخافة حتى ذهب أثرها كانت تهورًا وعدم اكتراث بالمهالك لحق ولغير حق بدون تبصر ولا مراعاة حكمة، فيلقي بروحه في مهاوي الهلكة بلا طائل يعود على نفسه أو وطنه. وكذلك لابد لها من خلق الإمساك والبذل وهما متخالفان متعارضان يتقوم من تغالبهما في النفس فضيلة السخاء والبذل في موضع الاستحقاق إذا اعتدلا، ولو أن الإمساك تغلب على ضده حتى اضمحل فيه لأمسك عن قضاء لوازمه الضرورية، فلا يأتي باللائق من الأغذية مثلاً والألبسة فيضر ببدنه، ولم يوف بحقوق مشاركيه في المعيشة كزوجته وولده، أو في التعامل كجيرانه وأهل بلده، فيقع الشقاق بينهم ويتأدى به إلى شقاء دائم وغير ذلك من مفاسد البخل التي لا تنحصر، ولو تغلب البذل لأنفق جميع ما بيده في المفيد وغير المفيد، حتى يصبح فقيرًا لا يجد ما ينفقه في ألزم لوازمه فيهلك، وهكذا جميع الملكات الفاضلة الإنسانية إنما هي وسط لطرفين متضادين لابد من ظهور أثر كل منهما على نسبة معتدلة وبغلبة أحدهما على الآخر يختلف نظام الفضيلة ولا محالة، وينهدم بيت السعادة دنيوية كانت أو أخروية، ولا يسعنا المقام لتفصيل ذلك. وكما يقع العناد بتغلب أحد الضدين على الآخر في النفس يقع أيضًا بتغلب أمر خارج على مزاج الفضيلة، كغلبة التربية الفاسدة المغذية للعنصر الفاسد بمخالطة ذوي الملكات الرذيلة والغرائز الناقصة وانفعال النفس بحركاتهم وسكناتهم، وتقليدها لأعمالهم وتقلدها بعاداتهم أو باستماع إغواء ذوي الأهواء وتمويهات أرباب الأغراض الفاسدة الدنيئة المذيعين للأفكار الرديئة المؤيدين للعقائد الباطلة التي ينبعث منها سوء الأخلاق المؤدي إلى فساد المعيشة فللنفوس علل وأمراض كما للأبدان ذلك. ومن ثم قد وضعت علوم التربية والتهذيب لتحفظ على النفس فضائلها وتردها عليها إن اعتلت وانحرفت عنها إلى جانب النقص والاعوجاج، كما وضع الطب ولوازمه لحفظ صحة الأبدان كما بينا. فالحكماء العمليون القائمون بأمر التربية والإرشاد وبيان مفاسد الأخلاق ومنافعها وتحويل النفوس من حالة الكمال - بمنزلة الأطباء. وكما لزم للطبيب أن يكون عالمًا بالتاريخ الطبيعي والنباتات والحيوانات وعلل الأمراض وأسبابها ودرجاتها من شدة وضعف، كذلك يلزم للحكيم الروحاني طبيب النفوس والأرواح إذا رقي منبر الإرشاد أن يكون عالمًا بتاريخ الأمة التي قام بإرشاد أبنائها وتاريخ غيرها من الأمم أيضًا، وأن يسبر أخلاقها بمسبار الحكمة، ليعلم أسباب أمراضها النفسية ويقف على درجات الداء وتمكنه فيهم وأنه حديث أو قديم، قوي في النفوس أو ضعيف، وما هو العلاج اللائق بكل صنف. وكما أنه يجب على الطبيب البدني أن يكون على علم تام بمنافع الأعضاء وغايتها، كذلك على الطبيب الروحاني أن يكون عالمًا بمنافع الأخلاق ومضارها على طِبق ما في نفس الأمر والواقع. وكما يلزم أن يكون الطبيب شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا لا ينظر إلى الدنيا ولا ينحط إلى المقاصد السافلة، كذلك على النصحاء والمرشدين أن يكونوا من ذوي الاستقامة والفضيلة مرتفعي الهمم أولي مقاصد عالية لا يبيعون الفضيلة بحطام الدنيا ولا بالتقرب والتزلف إلى الأمراء والكبراء. أولئك هم المرشدون الحقيقيون، فإن رزقت الأمة بمثلهم فبشرها بالسعادة، وإن رزئت بمطببين لا أطباء بأن صعد على منابر النصح فيها الجهلة والأغبياء والسفلة والأدنياء، فأنذرها بالعناء والشقاء، فإن المرشد الضال والنصوح الجاهل يودع النفوس رذائل الأخلاق باسم أنها فضائل، ويغرس فيها جراثيم الشر باسم أنها أصول الخير، ولربما كان مقصده حسنًا ولا يريد إلا خيرًا ولكن جهله يعميه عن سلوك طريقه، ويبعده عن اتخاذ وسائله، فتقع الأرواح في الجهل المركب وهو شر من الجهل البسيط فإن دق الثاني على باب الفضيلة لا يلبث إن فتح له أن يلجه، وصاحب الأول قد بعد عن المقصد بمراحل واستتر تحت نقع الرذيلة واعتقد ذلك ظلاًّ ظليلاً فلا يمكن العدول عما وقع فيه إلا بعد مكابدة شديدة وعناء طويل، فلا ريب إذا كان عدم هؤلاء المرشدين خيرًا من وجودهم. وكذلك إن كان خائناً أو دنيئًا ينحط إلى سفاسف الأمور، أو عديم الشفقة الإنسانية فإنه يتخذ النصيحة سلمًا للوصول إلى أغراضه الفاسدة ومطالبه الذاتية، فلا يبالي أوقع الأفراد في خير أو شر، صفت النفوس أو تكدرت، ارتفعت الآداب أو انحطت، صحت الأرواح أو اعتلت، فيكون آلة بيد الأشرار وذوي الأهواء، يستعملونه في فساد الأمة والعشيرة لقضاء أوطارهم. ألا وإن القائمين بأمر الإرشاد يحصرون في قبيلين: قبيل الخطباء والوعاظ، وقبيل الكتبة والمصنفين، ومنهم أرباب الجرائد فإن كانوا على نحو الأوصاف الكاملة اللازمة لمقامهم هذا كما تقدم فقد استحقوا التعظيم والاحترام والتبجيل والإجلال، واستوجبوا الشكر والثناء من كل قلب مخلص، وقاموا بخدمة أوطانهم وأبناء جلدتهم، وإلا استحقوا الرفض والطرد والإبعاد ووجب على كل من يهمهم أمر الإصلاح أن يقذفوا بهم من البلاد كيلا يفسدوها بمرضهم الوبائي الذي لا يقتصر على المبتلى، بل يتعداه بالسراية إلى كل مَن سواه. اهـ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الموسوعات)