لحضرة الفاضل الشيخ محمد إسماعيل وكيل المجلة في ملوي
في ضواحي بلدتنا (ملوي) قرية تبعد عنها نحو ساعة تدعى الأشمونين، وكانت تسمى قديمًا (هرموبوليس) وهي من أشهر مدن الفراعنة التي اتخذوها عاصمة لملكهم في بعض الأزمان الغابرة، وفيها الآن من المباني العتيقة والآثار القديمة ما يشهد بسابق حضارتها التي كانت عليها، ومدنيتها الفائقة التي حُفِظَتْ بحفظ آثارها المخبوءة في بطون آكامها وأطلالها الدارسة التي يبلغ مقدار مساحتها ١٢٠٠ فدان، وهي على ما هي عليه الآن من الخراب والعفاء لا تزال مطمح أنظار السائحين الباحثين عن الآثار على اختلاف نحلهم ومللهم، وما زالت الأيام تُظْهِر بعض تلك الآثار التي تبهر العقل، وتأخذ بالألباب، وفي هذه الأيام عثر بعض مستخرجي السماد (السباخ) في أثناء حفرهم على أعظم تمثال وأجلّ أثر، ألا وهو تمثال الملك منفتاح، أو منفطا الأول الذي يقول بعضهم: إنه فرعون موسى. عُثر عليه في بعض آكام تلك القرية، وهو مصنوع من حجر الجرانيت الأحمر، موضوع على قاعدتين إحداهما متصلة به وهي من نوع حجره، والأخرى منفصلة عنه، وهي من الحجر الأبيض مزينة بالكتابة والنقوش، ومقدار ارتفاعه يبلغ خمسة أمتار، موليًا وجهه شطر المشرق، مقدمًا رجله اليسرى، ومؤخرًا اليمنى، قابضًا على ملف من الورق مكتوب عليه اسمه وألقابه الملوكية، وعلى جنبه الأيسر قد رسمت صورة ولده (سيني الثاني) المكتوب عنه أنه ولي عهده ورئيس الكتاب وقائد جيوش أبيه الملك منفتاح، وعلى كتفه راية العدل مكتوب عليها (الحق) ، وهذا التمثال يمثل الملك وهو مؤتزر بجلد النمر تحت سرته، قد كتب على ظهره ما معناه: الذهب الإبريز ابن الشمس، الثور الأعظم، مالك التاجين، صاحب البرين - أي: الوجه القبلي والبحري - وقد فسر بعض رجال الآثار تقديم رجله اليسرى وتأخير اليمنى بالخضوع والخشوع للآلهة، وأرى أن هذا التفسير ربما كان بعيدًا عن الإصابة، فإني أول ما رمقته بنظري وكان معي بعض الأذكياء فهمت أن ذلك منه رمز إلى الشجاعة والإقدام، وإنه لدى الإمعان يظهر جليًّا أنه كمن يريد البراز، فهو يتحفز للوثبة بحالة تدل على الكبر والإعجاب، لا الخشوع والخضوع ولقد راجعت التاريخ فإذا به يقول ما نصه: (منفتاح أو منفطا الأول هو الذي كان في أيامه خروج بني إسرائيل من مصر تحت رئاسة موسى عليه السلام، ولم يرث عن أبيه سوى الكبرياء والعظمة، وأجمع المؤرخون على أن قسوته كانت سببًا في قصر أجله، وعدم طول بقائه في ملكه) اهـ بالحرف. إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار فسبحان الذي نجَّاه ببدنه ليكون آية لمن خلفه، وأظهر تمثاله الآن عبرة لمن بعده، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. هذا وما انتشر نبأ اكتشافه بين الناس حتى هرع الكثيرون منهم على اختلاف نزعاتهم لمشاهدته؛ حتى إنه لا يخلو وقت من ازدحام الوافدين عليه، وكل معجب بحسن وضعه ونسق هندامه، مما يدل صراحة على ما كان بمصر من العلوم والصنائع في الغابرين الأوليـ ... ـن من القرون لنا بصائر وهو لعمر الحق جدير بأن يؤمه محبو الآثار، وذوو الشغف بصنائع الأقدمين، غير أننا نأسف على ما أصابه أثناء استخراجه حيث أفلتت ضربة من أحد الحفار أصابت تاجه من أعلى فكسرت قطعة صغيرة منه، كما أنه حينما أرادوا إنزاله من أعلى القاعدة التي كان واقفًا عليها انصدع فخذه فانكسر، لكن بغير انفصال، ولم يُخِلّ هذا ولا ذاك بحسن التمثال وجميل شكله، هذا وقد شاهدنا بعد انصرافنا من هذا المشهد تمثالاً آخر قريبًا منه؛ لكنه أكبر جِرْمًا ومقطوع الرأس وبعض الصدر، وهو على هيئة شخصه جالس على كرسي، ويقال: إن رجال الآثار كابدوا المشقات في استخراجه فأعياهم. ثم عرَّج بنا الخرِّيت الذي استصحبناه معنا إلى مسجد هناك قديم، قد تداعت حيطانه، وخر سقفه، ولم يبق منه غير عُمُد من الرخام قائمة، وهي على طول عهدها لم يطرأ عليها ما يذهب برونقها، فضلاً عن ما حواه هذا المسجد أيضًا من الآثار التي قل أن يوجد نظيرها، فزادنا منظره على هذه الحالة أسفًا على أسف، ولم نقدر أن نمسك ألسنتنا عن الحوقلة، اللهم إلا بالترحم على السلف الصالح الذين بذلوا كل مرتخص وغالٍ في فتح البلاد، وشيَّدوا للإسلام فيها أرفع عماد، كما أننا لم نملك خواطرنا التي أخذت تلوم مصلحة آثار الأوقاف التي تركت هذا المسجد وما حواه في قرية لم يزل أهلها يضيِّعون ما ادخره الأقدمون لجهلهم، مما لو كان لدى غيرهم لعضوا عليه بالنواجذ، لعلمهم أن ذلك أعلى وأغلى قيمة من الركاز، ولقد شاهدت بعض أعمدة هذا المسجد ملقاة خارجة عنه على طلل بالٍ، بحيث لا يُؤْمَن ضياعها؛ فلذلك نستلفت أنظار حكومتنا إلى مكافأة من يعثر على الآثار بعد التحري والوقوف على أنه هو العاثر الحقيقي على ذلك، فقد نما إلينا أن بعض الفلاحين يعثر على شيء من ذلك، فيخبر أولي الشأن الذين يرفعون الخبر إلى الحكومة، ثم تُصْرَف المكافأة إلى غير مستحقها، فيشكو الأخير سوء حظه، ويندب سوء حاله، ويأخذ على نفسه العهود أنه لو عثر على مثل هذا مرة ثانية ليهشمنه وليكسرنه انتقامًا لنفسه من ضياع أتعابه سدى. هذا وقد علمت أخيرًا أنه ظهر وراء الحفرة التي كان بها التمثال هيكل منقوش على جداره (صورة سيتي) بن منفتاح على هيئته التي تولى فيها الملك بعد أبيه {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر: ٨٢) .