للأستاذ عبد الله أمين المدرس بمدرسة المعلمين بعبد العزيز بالقاهرة
(١) حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار. (٢) حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار. (٣) دعاة الإصلاح قبيل ظهور المنار. (٤) صاحب المنار قبيل ظهور المنار. (٥) البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره. (٦) وجهة صاحب المنار في تحريره المنار. (٧) بقاء البواعث على إصدار المنار. (٨) المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها. (٩) حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته. (١٠) محاولة لإحياء المنار. (١١) محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى. * * * (١) حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار: كان العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار لأربعين سنة هجرية خلت يهيم في ليل دامس وظلام طامس من الضعف والاضمحلال في حياته العلمية، والفنية، والأدبية وفي مرافقه الزراعية، والصناعية، والتجارية، وفي نظمه الاجتماعية والمنزلية والحكومية، وفي تقاليده وعاداته وآدابه، وفي أخلاقه وعقائده وشعائره الدينية، وكان يرسف في قيود الاستبداد وأغلال الاستعباد، وقد قطعت السياسة والمذاهب الدينية أواصر شعوبه فتفرقوا طرائق وتمزقوا حذائق، وبسط الأجانب عليهم سلطانهم الاقتصادي والأدبي والعلمي والفني والسياسي، وأصبحوا عبيداً أرقاء بعد أن كانوا سادة أعزاء. * * * (٢) حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار: وكان الدين الإسلامي نفسه مبتلى بشر المحن وأقساها: (١) منها البدع والخرافات والأوهام، والضلالات التي ابتدعها المسلمون بالاستحسان والاستقباح على مثال ما ورثوه عن آبائهم السابقين الأقدمين، فغيرت مظاهره، وحجبت أنواره، وكانت شرًّا عليه من كل شر؛ إذ نفَّرت منه كثيرًا من أنصاره وأعانت عليه كثيرًا من أعدائه. (٢) ومنها مطاعن خصومه من السياسيين الذين حكموا عليه ظلمًا وعدوانًا بأنه دين تأخر وانحطاط لتأخر المسلمين واضمحلالهم، والحقيقة أنه دين قوة ورفعة وعزة، وما ابتلي المسلمون بالضعف والاضمحلال إلا لانحرافهم عنه وتنكبهم سبيله القويم وصراطه المستقيم. (٣) ومنها حرب المبشرين بالمسيحية، الذين تؤيدهم دول الاستعمار العاتية القوية بساستها وبجنودها وبأموالها؛ لأن الإسلام - وهو دين سيادة وعزة - أكبر عائق لهم عن الاستعمار. (٤) ومنها قعود علمائه حينئذ عن رد المطاعن والشبهات عنه، وعن تحريره من البدع والخرافات، بل ومشاركتهم العامة في كثير منها. (٥) ومنها شبهات الملحدين الخارجين على الأديان، وهؤلاء منهم الجاهل الذي غلبته شهوته وشقوته وسئم قيود الدين وتكاليفه فأخذ يحاربه ليتخلص منه، ومنهم المفتون بأمور ظنية في العلوم يخيل إليه أنها لا تجتمع هي والدين، على حين أنها لو صارت يقينية ما زعزعت أركان الدين. * * * (٣) دعاة الإصلاح قبل ظهور المنار: وفي هذا الظلام الحالك وفي إبان هذا النوم العميق الذي يشبه الموت تألق في سماء العالم الإسلامي قمر الإسلام المنير حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، ثم ما لبث أن تلألأ بجانبه نجم الإسلام الثاقب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصري، وأخذا يجاهدان أعظم جهاد في حرب الاستبداد والمستبدين، والاستعمار والمستعمرين، والضلالات والمضلين، والغفلة والغافلين، ويهزان العالم بصوتيهما على المنابر وفي مجلة العروة الوثقى حتى انقشع الظلام، واستيقظ النيام، وذعر المستعمرون والمستبدون، وأيقنوا أن للإسلام نورًا لا يطفأ، وحمى لايوطأ، وحماة غلابين لا تلين لهم قناة، ولا تهزم لهم كتيبة: فإن نغلب فغلابون قدمًا ... وإن نغلب فغير مغلبينا * * * (٤) صاحب المنار قبيل ظهور المنار: وكان السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه حينئذ عالمًا ناشئًا تقيًّا غيورًا متحمسًا شجاعاً حاد الذهن كثير العلم والأدب سليم الفطرة لم يبتل بما ابتلي به أمثاله من التورط في الضلال والخبل، بل نشأ محبًّا للإصلاح بصيرًا به وبالحاجة إليه، وأخذ يجول ويصول في ميدانه بسوريا جولات صادقات، وما بلغته دعوة الإمامين الحكيمين الإصلاحية إلا ملكت عليه قلبه وعقله جميعًا؛ إذ كانت هي ضالته المنشودة، فما أطاق بعدها صبرًا على السكوت، وأخذ ينظر يمينًا وشمالاً فلا يجد للعالم الإسلامي كله صحيفة إسلامية إصلاحية بعد مجلة العروة الوثقى. * * * (٥) البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره: فكانت كل هذه الأمور مجتمعة؛ وهي ما انتاب العالم الإسلامي من اضمحلال وما أصاب الإسلام من عدوان خصومه وخذلان أنصاره، وقيام الإمامين الحكيمين بالدعوة إلى الإصلاح، وما فطر عليه السيد الإمام صاحب المنار من الغيرة على الإسلام، وما تعلق به من حب الإصلاح، كانت هذه الأمور هي البواعث التي دفعت صاحب المنار إلى القدوم إلى مصر، وكانت تزدان حينئذ بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - قدس الله روحه ونور ضريحه - وكانت أكفل للحرية، وأخصب للدعوة، وأرحب صدرًا من سوريا وإلى إنشاء المنار فيها ومواظبته وجده واجتهاده في تحريره ونشره حوالي أربعين سنة هجرية لم تفتر له فيها همة، ولم تلن له فيها قناة، ولم ينثن له عزم حتى لقي ربه راضيًا مرضيًّا. * * * (٦) وجهة صاحب المنار في تحريره المنار: ولما كان الاضمحلال الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب وليد فساد أخلاقهم وعقائدهم، وكان فساد أخلاقهم وعقائدهم وليد انحرافهم عن أصل دينهم، وكان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لما كان كل ذلك ما لبث جهد السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه أن انصرف كله إلى رد المسلمين إلى أصل دينهم لتصلح بذلك عقائدهم وأخلاقهم، وبصلاح عقائدهم وأخلاقهم تصلح كل أمورهم الدينية والدنيوية. وذلك الإصلاح لا يكون إلا بإشهار حرب عوان على الفساد والمفسدين، والبدع والمبتدعين، والإلحاد والملحدين، والمشتبهات والمشتبه عليهم، وسد أبوابها على المسلمين بالاعتماد في بيان أحكام الدين وفضائله على الكتاب والسنة، وعلى تأويل الأئمة المجتهدين، وعلى نقد ما خالف الكتاب والسنة من تأويلهم وتأويل غيرهم، وبما فتح الله له من أبواب الفهم السديد الصائب المنقطع النظير، فأبلى في هذه الحرب بلاءً عظيمًا ولبث يجاهد فيها كل هذا الزمن الطويل، ولقي فيها عنتًا وأذى كثيرين فما وهن ولا استكان، حتى استشهد في ميدان الجهاد بعد أن أصدر من المنار أربعًا وثلاثين مجلدة وجزءًا من المجلدة الخامسة والثلاثين وليس بجانبه صحيفة واحدة إسلامية إصلاحية تشد أزره وتشركه في أمره، وبعد أن انتصر على أعيان الابتداع والإلحاد والهدم، وبعد أن أصبح المنار أداة لا غنى عنها للدفاع عن الإسلام والمسلمين وحمياتهما من عدوان المعتدين. * * * (٧) بقاء البواعث على إصدار المنار: فإذا كان الإمام السيد محمد رشيد صاحب المنار - رضى الله عنه وأرضاه - قد مات، فهل ماتت بموته الحاجة إلى المنار؟ هل ماتت البدع ومات المبتدعون؟ هل مات الإلحاد والملحدون؟ وهل ماتت المشتبهات ومات المشتبه عليهم؟ وهل ماتت الرذائل والمنكرات ومات أنصارهما؟ كلا. ما مات هؤلاء ولا هؤلاء، بل لا يزالون أحياء يحاربون الله ورسوله والإسلام والمسلمين، وما ماتت البدع والمنكرات وغيرها، بل لا تزال في تناسل وتكاثر ونماء وقوة، فلم يكن لدولة المنكر في أي عصر مضى من الأعوان الأقوياء الأعزاء المسخرين مثل ما لها الآن. أكان للخمر والملاهي من الأنصار ومن الموائد والأندية والحفلات والمنازل والدعاية الطويلة العريضة في الصحف على اختلاف ألوانها ومنازعها - إلا القليل النادر منها - مثل ما لها الآن؟ أكان تهتك النساء وفجورهن من مظاهر الخيالة والمسارح والشواطئ وغيرها مثل ما لها الآن؟ أكانت الصحف - إلا القليل منها - لا تصدر إلا إذا فخرت وتاهت بتحلية صدورها بصور العاريات الخليعات من النساء الفواجر؟ أكانت دور الخيالة تملأ الرحب من الأرض وتعرض فيها مثل ما يعرض الآن من مناظر مغرية بالفسق والفجور وارتكاب عظائم الأمور كما انتشرت الآن؟ أكانت الصحف تتبارى وتتنافس في الدعاية الطويلة العريضة للممثلات كما تفعل الآن؟ ألم يكن كل ذلك وما هو شر من ذلك آلاف المرات في حاجة إلى صحيفة كصحيفة المنار؟ * * * (٨) المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها منه: ليس في العالم الإسلامي كله مجلة إصلاحية يظن أنها تحل محل مجلة المنار إلا مجلة الأزهر , وهذه - لسوء الحظ، قبل عهد مولانا الأستاذ الإمام المصلح الشيخ محمد مصطفى المراغي - كانت حربًا على المنار لا عونًا له، ثم هي الآن لا تغني عنه لأنهم مرآة صادقة لمعهد لا يزال في طور انتقال من عهد اضمحلال مضى عليه قرون إلى عهد قوة ورفعة بسعي مولانا الأستاذ الإمام المصلح الشيخ المراغي، فهي مجلة رسمية وفي عهد انتقال لا قبل لها بالحرية المطلقة التي لمجلة المنار المطلقة من كل قيد إلا قيود الكتاب والسنة، ولو قدر لمجلة الأزهر والمنار في عهدهم الحديث أن تكونا فرسَيْ رِهان في نصرة الإصلاح الديني والاجتماعي ما كانتا كبيرتين على العالم الإسلامي، بل ولا عشرات المجلات من نوعهما، فأهلاً وسهلاً بهما. * * * (٩) المسئولون عن إصدار المنار: وإذن لم يكن العالم الإسلامي ولا الإسلام نفسه في غنى عن المنار، فإن المسئول عن إصداره وإحيائه هم أنصاره وأحباؤه، فقد أصبح أمانة في أعناقهم دون غيرهم من المسلمين، لا تبرأ ذمتهم منه إلا إذا أحسنوا القيام عليه وأصدروه، فإذا قام بذلك ولو واحد منهم فقد سقط عن الباقين لأنه من فروض الكفاية. وإن صاحب المنار ومناره فينا كرجل قوي البنية مفتول الساعدين حفر لنا بئرًا عذبًا ماؤها وليس لنا ما نستقي منه غيرها وبقى طوال حياته يخرج لنا ماءها بسواعده، أفإن مات طمسنا البئر، وحطمنا الدلاء، وأمسكنا عن الاستقاء حتى نموت عطشًا لأننا لا نجد فينا رجلاً مثله قوة جسم، وقوة إرادة، وعزيمة، أم يجب علينا حفظًا لحياتنا أن نحرص كل الحرص على سلامة البئر، وأن نتعاون على إخراج مائها والارتواء به؟ * * * (١٠) حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته: يقول بعض الأنصار إن المنار مجلة ذاتية؛ حيت بحياة صاحبها الذي استقل بتحريرها حوالي أربعين سنة هجرية نسجها فيها على منواله، وصبغها بصبغته، وقدها على مثاله، فأصبحت لا تصلح لغيره ولا يصلح لها أحد من بعده، فلا بد أن تموت بموته ويجب أن ندعها تموت. وهذا ليس من المنطق السليم في شيء؛ إذ أن الحياة - ولو كانت ناقصة - خير من الموت، فإن الأطباء لا يمكن أن يدعوا إنسانًا فقد بعض أعضائه أو كُسِرَها يموت وفي إنقاذه أمل حتى ينقذوه ولو كانت حياته بعد ذلك شرًّا له ولآله من موته، فكيف ندع المنار صحيفة العالم الإسلامي يموت ونحن موقنون أن في حياته خيرًا محققًا لا لشيء إلا لأن هذا الخير دون ما كان له من الخير في حياة منشئه رضى الله عنه وأرضاه؟ كيف ندعه يموت على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي وفيه من يستطيع أن يحييه، ولو بعض الحياة؟ كيف ندعه يموت وقد سن له صاحبه طريق الحياة من بعده؛ إذ فتح في العدد الأخير من المجلدة الرابعة والثلاثين - وهي آخر المجلدات - أبوابًا جديدة له، ودعا إلى الكتابة فيها أنصاره؟ وفي مصر وحدها مئات القادرين على الكتابة في هذه الأبواب بإتقان وإجادة. * * * (١١) محاولة لإحياء المنار: لن يموت المنار ولن ينسى - إن شاء الله تعالى - مادام وراءه أنصاره ومحبوه، ولقد حاولت دار المنار جاهدة إحياء المنار، وعهدت بذلك إلى حضرة السيد محيى الدين رضا ابن أخي الفقيد العزيز والمحرر في المقطم الأغر؛ غير أن هذه المحاولة كانت عسيرة لأن المنار أصعب من أن ينهض به إنسان واحد كالسيد محيى الدين أفندي ليس في جهده ولا في ماله ولا في أوقاته فضل ينفقه في إحياء المنار وإصداره؛ ولذلك لم يلبث أن مات مرة أخرى. * * * (١٢) محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى: ولقد سُرت الدار سرورًا عظيمًا حينما تقدمت جماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسها الأستاذ الكبير حسن البنا طالبة منها أن تتولى إصدار المنار؛ وذلك لما تعهده في هذه الجماعة من الإخلاص والجد في خدمة الدين والفضيلة، وما تتوسمه فيها من القدرة على إصدار المنار - إن شاء الله تعالى - في ثوب قشيب نافع، وما تؤمله من استمرار صدوره. وإني لأرجو - وقد حيَّ المنار ومات ثم حيَّ ومات - أن يحيا - إن شاء الله تعالى - هذه المرة، وألا يموت بعدها أبدًا، وأن يثبت الله - سبحانه وتعالى - أقدام جماعة الإخوان المسلمين ويهديهم وإيانا سبل الرشاد، وأن يوفقهم لأصلح الأعمال، ويقدرهم على إصدار المنار ونشره، وعلى إبقائه حيًّا أبد الدهر، إنه سميع مجيب. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله أمين