للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رحلة القسطنطينية
(٣)

حال الآستانة العمرانية والاجتماعية
موقع هذه المدينة مشهور في جماله ومحاسنه الطبيعية ولو كانت هذه الدولة
التي استولت عليها من عدة قرون دولة عمران ومدنية لجعلتها زينة الأرض ومثابة
الأمم، ولكان لأهلها من السائحين مورد من أغزر موارد الثروة، ولكنك لا تجد فيها
أثرًا من آثار العمران القديم للسلاطين السابقين الذين دوخوا الدول إلا المساجد، ولا
شيئًا يُعْتد به من آثار العمران الحديث إلا المعسكرات من الثكنات والمدارس،
فصوفية عاصمة البلغار وأثينا عاصمة اليونان والقاهرة عاصمة مصر، كل أولئك
أرقى من عاصمة الدولة عمرانًا، فالآستانة موقع جميل، ومعسكر كبير، لا تغيب
الجنود عن عينيك فيها دقيقةً من الزمان، فعسى الله أن يسخر لها الرجال الذين
يعمرونها بعمران المملكة، لا بالاستقراض من الأجانب بالربا الذي يجعلها تحت
سيطرتهم، وعرضة عند الحوادث لمداخلتهم، أما العمران المعنوي وهو العلم
والأدب فلها حظ منه تفضل به مصر وسورية، وهو أن التعليم فيها أعم وأشمل،
وتربية النساء أسمى وأنبل، ذلك بأن أموال المملكة كانت تجبى إليها حتى لا يبقى في
كل ولاية إلا الضروري الذي لا يمكن الاستغناء عنه مع إباحة الرشوة والسلب والنهب
فكثرت فيها المدارس للذكور والإناث، على أن الآداب الإسلامية الموروثة لا تزال
أقوى في بيوت هذه المدينة منها في بيوت مصر فلا ترى امرأة في نافذة ولا على
سطح إلا أن تكون مستورة البدن والرأس كما تكون في السوق، ولا تسمع من
البيوت ولا في الأسواق والشوارع صخبًا ولا هجرًا من القول كما تسمع في أسواق
القاهرة وشوارعها، ولا يتبرج فيها النساء كما يتبرجن بمصر إلا في بعض المواسم
كآصال أيام رمضان في جهة الشاه زاده، وإلا في بعض الضواحي حيث يسرحن
ويمرحن في متنزهات مظهرات لزينتهن، على أن الكثيرات منهن يسفرن عن
وجوههن في الأسواق والشوارع ولكنهن مع ذلك يغضضن من أبصارهن كما أمر الله
تعالى، وإذا خرجن في الليل من دار إلى دار يخرجن بالجبة أوالعباءة العربية
المعروفة وبالقناع الأبيض وذلك يكون زيهن الغالب في المتزهات.
فجملة القول: أن آدابهن حسنة في خروجهن إلى حاجهن في الأسواق
والشوارع وبيوتهنَّ نظيفة مرتبة ولأولادهن حظ عظيم من النظافة والآداب، ويقول
المختبرون من أهل البلد ومن الغرباء المقيمين فيه أن آداب غير المتعلمات أو
المتعلمات على الطريقة القديمة منهن أعلى أخلاقًا وأقوى عفةً وأبعد عن الريبة من
المتعلمات على الطريقة الحديثة الإفرنجية، وهن أشد عناية بالنظافة أيضًا فالتفرنج
في البيوت هوالخطر الأكبر الذي ينذر البيوت الإسلامية بالفساد، في هذا البلد وغيره
من البلاد ويقال إن أحمد رضا بك رئيس مجلس المبعوثين يريد أن يربي بنات
المسلمين في المدرسة التي يسعى في إنشائها مع بنات الإفرنج والروم والأرمن تربية
ليس لها من صبغة الدين شيء، فإذا تم هذا المقصد فبشِّر بيوت هذا البلد بالخراب
المعنوي والفساد الذي لا يفوقه فساد.
إن علم النساء المسلمات في الآستانة دون علم الأوربيات ولكن تربيتهن الدينية
والأوربية أعلى من تربية الأوربيات كما شهد بذلك غير واحدة من هؤلاء بعد الاختبار
التام ومنهن من صرحت بأن التفرنج آفة مفسدة لنساء الترك، نعم إنه يمكن أن
تترقى معارفهن وآدابهن ولكن يجب أن يكون الدين هوأساس التربية، وأن تكون
العناية به فوق العناية بالعلم وليس في أوربا شعب يربي البنات على الإلحاد أو ترك
الدين، وإن أثبت الشعوب الأوربية مدنية هو أشدها عناية بتربية النساء والأطفال
تربية دينية.
إن بين إستانبول وقسم غلطه وبك أوغلي تباينًا عظيمًا في العادات ونظام
المعيشة وحالة العمران على أن المسافة بينهما تقطع بدقيقتين إذ الفاصل بينهما هو
الخليج المشهور وعليه جسران للمشاة والركبان ومنهم من يقطعه بالزوارق. تشبه
إستانبول في عاداتها بلاد المشرق الإسلامية القديمة كطرابلس الشام فأزياء
النساء فيها كأزياء النساء في مدن سورية إلا ما امتزن به وقد ذكرناه آنفًا، وأزياء
الرجال فيها كأزياء الرجال في مدن سورية، الطربوش، والعمامة البيضاء،
والعمامة المطرزة والعمامة الخضراء والمناديل الملونة كل ذلك من أزياء الرؤوس
وكله كثير، وأما سكان قسم غلطه فتكثر فيه مزاحمة الكمم والقلانس للطرابيش
المجردة ويقل فيه غير ذلك.
يتعشى أهل إستانبول بعيد المغرب كأهل سورية وتقفل أكثر المطاعم بعد
العشاء بقليل على حين يبتدئ أهل القسم الآخر بالطعام وتظل مطاعمهم مفتوحة إلى
قرب منتصف الليل ويسهرون كثيراً ولا يسهر أولئك إلا قليلاً.
ويكثر الفسق العلني والسري في قسم غلطه والفسق العلني ممنوع في
إستانبول.
وآداب الرجال العمومية حسنة كآداب النساء فلا تكاد تنكر على رفيع ولا
وضيع قولاً خشنًا ولا كبرًا وترفعًا ولكنك كثيرًا ما تنكر عليهم إخلاف الوعد وما
في معنى الإخلاف حتى يقلّ أن يثق المختبر بقولٍ يسمعه وسبب ذلك تأثير الاستبداد
الشديد، وما كان من الضغط والمراقبة على عهد عبد الحميد، فذاك هوالسبب الطبيعي
لفشو الكذب والإخلاف والتقلب في كل الأمم، ولهذه العلة كثر الكذب والإخلاف
والتقلب وعدم الثبات في جميع البلاد العثمانية كما كثر ذلك من قبل في مصر
ولاسيما على عهد إسماعيل باشا.
كنت كتبت في المنار وقلت في بعض الخطب التي ألقيتها في العام الماضي
بالبلاد السورية إن أرقى البلاد العثمانية الآستانة وما يقرب منها من ولايات
الرومللي وأوسطها سورية وأدناها العراق والحجاز واليمن.
وقد تبين لي أن هذا القول خطأ فالآستانة لا تفوق سورية إلا بكثرة عدد
المتعلمين من الرجال والنساء وبالآداب الاجتماعية كما تقدم؛ فهي ليست أرقى في
العمران الحديث من بيروت ولا في العمران القديم من دمشق، وليس النابغون من
أهلها كالنابغين من سورية في العلوم الإسلامية، ولا في الفنون، والعلوم الأوربية،
ولا في الأدبيات، ولا في التجارة والزراعة , ولا أهل الإدارة والقضاء منهم أرقى
ممن تسنى لهم أن يشتغلوا بهما من السوريين بمصر، وكذا في بلاد الدولة على قلتهم
وليس الضباط المتعلمون في المدرسة الحربية من أهل الآستانة بأرقي في الفنون
الحربية من الضباط السوريين ولا العراقيين إلا أنهم أكثر وأما ولايات الرومللي وكذا
الأناضول فهي دون الولايات السورية في الجملة.
وأما النسبة بين الآستانة ومصر فهي أن عامة أهل الآستانة أرقى من عادة أهل
القاهرة وخاصة أهل القاهرة النابغين أرقى من خاصة أهل الآستانة النابغين إلا في
الجندية، وأما من جهة الثروة والعمران فمصر أغزر ثروةً وأرقى عمرانًا، وقد
تقدمت النسبة بين البلدين في النساء وتربية الأولاد.
هذا ما تبين لي في هذه الشهور نصصته على غره، غير متحرف إلى جهة،
ولا متحيز إلى فئة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))