تحالفت الدول الأوروبية ذوات الشأن في السياسة العامة إلا الدولة العلية وإنكلترا. ولقد كان اختيار الحياد من مولانا السلطان الأعظم ومن ساسة بريطانيا العظمى عن حكمة ودهاء وحفظ للموازنة الأوروبية وخدمة للسلام العام إلا أن تحالف روسيا وفرنسا أثار في جو السياسة رياحًا سوافي شاهت لها الوجوه، وتزعزعت لها أركان الشرق الأقصى، عصفت فلم تقو على مجاراتها إلا الريح المنبعثة من مهب بلاد الألمان، جرثومة التحالف الثلاثي وملاك أمره، ولقد أحست إنكلترا بأنها لا سبيل لها إلى مقاواة هذه الرياح المتناوحة ومصادمتها منفردة، بل تحتاج في مجاراة المحالفتين إلى دعامة تدعمها وحليفة تشد أزرها، فألانت القول للدولة العلية بعد إغلاظه، وأظهرت الميل والانعطاف، بعد الغطرسة والانحراف، أملاً بالعود إلى الود والولاء الذي تحفظ به منافعها في الشرق الأدنى، فقد شاهدت أن تجارتها فيه أمست بائرة، وسياستها باتت في ربوعه خاسرة، ووجدت بالحرب الأميركية الأسبانية منفذًا للدخول على الولايات المتحدة مرتدية برداء الحب والوداد، مدلة بوشيجة الرحم، مدلية بأواصر القرابة، لتحمي حقيقتها، وتمنع وثيقتها في الشرق الأقصى، فقد شعرت بأن ظلها ثمة في تقلص، ومدها جزر أمام روسيا وألمانيا وفرنسا. وأما الدولة العلية فلم تدع المسألة المصرية موضعًا للصلح بينها وبين الإنكليز وأصعب شيء، دون المسألة المصرية سهل، وأما الولايات المتحدة فقد آنس الإنكليز منهم ميلاً لحلافهم، وربما قضي الأمر بعد انقضاء الحرب. كذلك شأن الدولة العلية في الحاجة إلى الانضمام والانضواء إلى إحدى المحالفات، فإن البقاء على الانفراد خطر على سياستنا بعد اجتماع الدول العظمى والتئامها، ولكن: من نحالف وأوروبا بأسرها عدوة لنا، وإنما ترغب دولها التقرب منا لنيل مآربها وتحقيق مطامعها. إنكلترا تختار بقاءنا وإضعافنا، وروسيا رئيسة التحالف الثنائي تود إتلافنا، وألمانيا رئيسة التحالف الثلاثي تقنع منا برواج تجارتها في بلادنا، فليس لها مطمع في بنية المملكة وجثمانها، ولا مستعمرات إسلامية لها تخاف من قوتنا عليها، ولم تغتصب منا بلادًا فتحذر الحقد منا عند العجز، والتألب لاسترجاعها عند القدرة، ولا هي منتحلة للرياسة الدينية ومدَّعية حماية النصارى فنخشى من دسائسها في إلقاء الفتنة بين أبناء مملكتنا من المسيحيين والمسلمين، وإحداث المَشاغب والهرج كما هو شأن الدول الأخرى ذوات المآرب التي رمزنا إليها، إذًا إن الأجدر بنا أن نفضل محالفة الألمان ونصطفيهم على سائر الأقتال والأقران. عَرَفَ هذا وغيره مما لا تصل أفكارنا إليه سيدنا أمير المؤمنين السلطان الأعظم عبد الحميد خان الثاني أيده الله تعالى وسدده، وأنس من الإمبراطور العظيم غليوم الثاني ميلاً للوداد ورغبة بالاتحاد، فكال له مولانا الصاع بالصاع، وزاده من مكارمه كما هو شأنه في حب التفضل، وشدت في زيارة الإمبراطور الأولى للآستانة أواخي التآلف، وسيبرم في الزيارة الثانية مرير التحالف، بل صرحت بعض الجرائد الأوروبية بأن هناك وفاقًا سريًّا، وحلافًا خفيًّا، والذي لا ريب فيه أن الود محكم العُرى. أظهر الإمبراطور ضلعه مع الدولة العلية في الحرب الأخيرة، فعرف له مولانا هذا الجميل، ولما آذن مولانا بعزمه على زيارة الآستانة العلية والقدس الشريف صدرت الإرادات السنية آمرة بالاستعداد للاحتفال بالزائر الكريم، ولقد أكبرت جرائد أوروبا أمر الاستعداد، وذكره بعضها في معرض الانتقاد لأغراض في النفوس. ومما جاء في جرائد بريد أوروبا ما ذكرته (الديلي ميل) وملخصه: أن الإمبراطور لما زار الآستانة من قبل بنى له جلالة السلطان قصرًا في حديقة يلدز بثلاثين ألف ليرة، وأمر الآن بأن يزاد في زخرفه وزينته، حتى قاولوا فراشًا على فرش غرفة واحدة من غرفاته بأربعة آلاف ليرة، فما بالك بفُرشه كلها، وسينفق على تزيين العاصمة سبعين ألف ليرة، وأربعين ألف ليرة على إصلاح جسر غلطة، وتقدر هذه الجريدة أن نفقات الزينة مع نفقات الخمسة عشر ألف عسكري - التي صدرت الإرادة السنية بأن يعمل لها ملابس جديدة، وتكون في فلسطين مدة زيارة الإمبراطور لها -لا يقل المجموع على مائتي ألف ليرة، هذا ما عدا الإحسانات والإنعامات، التي تنالها حاشية الإمبراطور من المكارم السلطانية، وقد صدرت الإرادة السنية بأن تسافر فرسان الحرس الشاهاني في يلدز إلى فلسطين لحراسة الإمبراطور مدة إقامته هناك. إن مظاهر الابتهاج ومعدات الحفاوة والإكرام للإمبراطور العظيم هي أهم ما تشتغل به الجرائد الأوروبية في هاته الأيام، لا سيما الجرائد الروسية والفرنسوية والإنكليزية، فمن هذه الجرائد ما ينصحنا بحفظ أموالنا وعدم الإسراف فيها، ومنها ما يحذرنا من مطامع الإمبراطور في سوريا والأناضول، وأنه لا بد أن يأخذ منا إحدى المواني السورية، بل نقل سعادة مدير جريدة الأهرام عن محدث له من الإنكليز في الآستانة العلية - أنه قال نقلاً عن السفير هويت الإنكليزي المتوفى: (ليست فرنسا هي الدولة الطامعة في سوريا، بل هي ألمانيا وحدها) ، وتقول الجرائد الإنكليزية: إن جلالة الإمبراطور سيجزينا على حفاوتنا واحتفالنا به بإجازة الاحتلال الإنكليزي في مصر والتصديق عليه، وذلك عندما يرى إصلاحاتهم وفتوحاتهم في أثناء زيارته لمصر. أما وسر الحق إن هذا النصح والإنذار لم ينشأ عن الحب والود، ولم يكن الحامل عليه الإخلاص والصدق، وإنما ساء القوم اتفاقنا واتحادنا مع هذه الدولة القوية التي يعززها دولتان أخريان، علمًا منهم بأن ذلك يقطع أسباب مطامعهم في بلادنا فعمدوا إلى التنفير، لكنهم أفرغوه في قالب النصيحة والتحذير، ولكن قد تفجر من أنابيب أقلام بعضهم الحسد، فرقم على صفحات جرائدهم جملاً تُشعر بتوقعهم ضياعَ مصالحهم وذهاب منافعهم من الشرق الأدنى، والإدالة بها لألمانيا بسبب ولائها لنا واتفاقها معنا. نسأل الله تعالى أن يوفق سلطاننا ودولتنا لما فيه خير البلاد والرعية إنه سميع مجيب.