كتب إلينا أحد أساتذة المدرسة الحربية الأفغانية العثمانيين في كابل وهو من قراء المنار الرسالة الآتية مع كتاب خاص، فننشر الرسالة شاكرين وهي: (يوم من أعظم الأيام في الإسلام) اليوم الثاني من ذي الحجة الحرام من هذه السنة، كان يومًا من الأيام التي يخلد لملك أفغانستان الذكر الجميل في صدر التاريخ، نعم.. هذا اليوم هو الذي انبرى فيه أميرها المحبوب ومد يد الإعانة لإخوانه المسلمين القاطنين في شاسع الأرض. صباح هذا اليوم صدرت الأوامر لجميع الأمراء ورجال الدولة وأعيان المملكة وتجارها ووجوهها تدعوهم إلى الاجتماع في الدربار (ردهة الاجتماع) ، فما جاءت الساعة الثانية بعد الظهر إلا وتقاطر أرباب المناصب وكبار الدولة وتجارها من كل فج، واجتمعوا في ردهة عظيمة عالية البناء معدة لمثل هذه الأمور، ثم بعد ساعة شرَّف الأمير الكبير الشأن الردهة، يغشاه العز والجلال، فقامت الناس إجلالاً فرحين مستبشرين برؤية محياه الذي كان يتلظى غيرة وحمية، ثم ألقى تحيته على الجمع، فحيوا بأحسن منها، وبعد برهة تلا خطابًا يلين الصخر ويذيب القلوب، وهذه ترجمته: ترجمة الخطاب الملكي لا يعزب عن فكر أحد من الأعزة والأشراف وجميع رعيتي الصادقة من كل صنف من سكان مملكتي المحروسة (أفغانستان) أن كل إنسان يعيش في هذه الدنيا الفانية، لابد أن يكون نظره موجهًا إلى أمرين عظيمين في جميع أعماله: أحد هذين الأمرين مادي والثاني معنوي، وفي هاتين الحالين يرى على نفسه وظائف كثيرة، ويراها مكلفة بأعمال متعددة، بناء على الكرامة والشرف النوعي الذي امتاز به الإنسان على سائر المخلوقات بحكمة وقدرة البارئ جل شأنه، وأنه بقيامه بتلك الأعمال، وأدائه لتلك الوظائف، يقضي حاجاته الطبيعية، ويزيل ضروراته الجسدية، وينال أيضًا من المثوبات الروحانية الأخروية ما ليس له حد. وكما أن إطاعة الرب المعبود يوصل المرء للمقامات العالية الروحانية، هكذا تعاون الناس على دفع احتياجاتهم الفرعية؛ بجعل المتعاونين ممتازين بين أقرانهم في هذا المقام أريد أن أورد مثالاً أو مثالين: نفرض أن بلدًا يحتوي على ثلاث مئة من السكان، وأن ذلك البلد لا يوجد فيه ماء صاف يصلح للشرب والاستعمال، ولكن على بعد ستة أميال يوجد ماء صاف سائغ نافع للصحة، فلا شك في أن سكان ذلك البلد لا بد لهم من أن يطووا ستة أميال حاملين قربهم على أكتافهم؛ لأجل الإتيان بذلك الماء، وفي هذا لا بد أن يلحقهم خسارتان: الأولى تعب الجسم والثانية إضاعة الوقت، وبإضاعة هذا الوقت لا مناص من أن تعطل كثير من الحوائج الإنسانية التي لا بد منها؛ لأن المرء المحتاج إلى الشرب محتاج أيضًا إلى أشياء كثيرة عليها مدار حياته، فإذا صرف أربع أو خمس ساعات من نهاره لأجل تحصيل الماء فقط، فمن أين يأتي بالوقت اللازم لتدارك سائر حاجاته الباقية. بناء على ذلك إذا أكمل سكان ذلك البلد وظيفتهم المدنية وتعاضدوا وصاروا يدًا واحدة، وأعطى كل واحد منهم روبيتين مثلاً، يحصل من هذا ستمائة ألف روبية، وبهذا المقدار يتيسر لهم جر الماء المذكور إلى بلدهم بسهولة تامة، وبهذا التعاقد يمكنهم أن يتخلصوا من مشاق نقل الماء بالقرب، ويخلصوا من هذا الاحتياج بدون عناء ولا مشقة، وإذا فرضنا أن كل واحد من سكان ذلك البلد كان ينفق في السنة ثماني روبيات ثمنًا للفاكهة فاكتفى كل منهم بخمس روبيات ووفر ثلاثة - وذلك سهل للغاية - ثم جمعوا ذلك المتوفر وصرفوه فيما يعود عليهم نفعه من مصالحهم العامة، فإننا نجزم بأنهم يدركون بهذا التعاون من المنافع ما لا يمكننا حصره وتحديده. (المثال الثاني) خلق الناس بإرادة الخالق الأزلي أكفاء، أبوهم آدم والأم حواء، وانقسموا بعد ذلك إلى شعوب متعددة وقبائل مختلفة، ولكنهم من حيث الوجود كأنهم جسم واحد، وخصوصًا إذا كان بينهم علاقة جنسية ورابطة مذهبية وملية، فإن كل فرد من أفراد ذلك الجنس والمذهب يكون حينئذ كعضو من أعضاء ذلك الجسم الواحد، يتألم ويضطرب من تألم أي عضو من الأعضاء الباقية، كما إذا عرض لإحدى الحواس الخمس ألم، فلا شك في أن الحواس الأربع الباقية كلها تتأثر وتتألم إذا رمدت عين المرء مثلاً، فإن سامعته تتألم حتى من نغمات البلبل والهزار، حتى قد تكون عندها كوخز النبال وتتأثر شامته من رائحة الورود، وينكر فمه طعم الماء، ويدمي بنانه لمس الحرير هذا ليس في الحواس الخمس فقط، بل تجري هذه الأحكام في كل عضو من أعضاء ذلك الجسم. أيتها الرعية الصادقة، وأيتها الأمة الأفغانية ذات العقيدة الصحيحة، مرادنا الملوكي من جميع هذه التمهيدات؛ هو إيقاظكم لعمل صالح كثير الخير، وترغيبكم في أمر ذي بال جامع لخيري الدنيا والآخرة، وإني أشكر المولى جل جلاله، وعم نواله أن جعلني بفضته ورحمته لم أتفكر في شيء قط يتعلق بأمتي الصادقة المتدينة بدين الحق غير الخير، ولست متفكراً في غير ذلك في ما بعد. أيتها الأمة: اعلموا أن الدولة العلية العثمانية التي هي من جنسنا وعلى مذهبنا، قد صارت هدفًا لعدوان فجائي مخالف للحق والإنسانية، جعلنا نتألم ونضطرب دهشة من هذا العدوان الفظيع، وأن معاونة إخواننا المسلمين تجب علينا من حيث الدين والإنسانية معًا، وبما أن بُعد الشقة قد حرمتنا معاونتهم فعلاً وبدنًا، وجب علينا أن نمد لهم المعونة بالمال على الأقل. إنكم إلى الآن لم تحسوا بالفوائد العظام التي تحصل من مثل هذه المعاونات، فهذه أول مرة أرشدكم إلى هذا العمل الصالح النافع بالذات، وأفتح كتاب الاكتتاب بيدي الملوكية وأقيد وأثبت به مبلغ (٢٠) ألف روبية من عين مالي الشخصي الملوكي. أؤمل من غيرتكم الدينية وجودكم الملي أنتم رعيتي الصادقة أن تشاركوني بهذا العمل الخيري كل على قدر حاله، ودرجة آماله، ليس عليكم جبر أو تضييق في هذا الباب؛ لأن هذا الأمر يتعلق بالضمير والإنسانية، وكل صاحب ضمير صاف وعقيدة خالصة يعطي شيئًا من ماله الزائد عن نفقة أهله وعياله، ويثبت اسمه في هذا الكتاب، يكون عمل عملين عظيمين: (الأول) يكون سعى وجد بماله لاكتساب رضاء الباري جل وعلا، وفي هذا ما لا يخفى من إطاعة أمر الله والتلذذ باللذائذ الروحانية. (والثاني) يكون أعان بني نوعه ودينه، وفي هذا أيضًا ما لا يعزب عنه فكركم من أداء حقوق الإنسانية، وحفظ الشرف والغيرة الملية. أيتها الرعية الصادقة، اسم هذا الكتاب: (كتاب إعانة اليتامى شهداء ومجروحي محاربة طرابلس الغرب) افتحوا كيس حميتكم، وبلوا قلوبكم بماء الشفقة الأخوية، أعينوا يتامى أولئك المجاهدين الذين جادوا بأرواحهم؛ لأجل حفظ وطنهم وشرف ملتهم، أعينوهم على الأقل بلفائف يشدون بها جروحهم، لا تنظروا إلى قلة ما تعطونه من المال وكثرته، أعطوا ما تتمكنون من إعطائه، وأثبتوا أسماءكم في هذا الكتاب (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً) . وأسأل المولى سبحانه وتعالى أن يهديني وجميع إخواننا المسلمين، وأبناء نوعنا الإنساني كافة لما فيه الخير والصلاح. اهـ. * * * (قال المراسل) : وكان أبقاه الله ذخرًا للإسلام والمسلمين يفسر للسامعين بلسان طلق وبيان عذب، ما حواه الخطاب من المزايا الباهرة، وكان يقول وكله حماس: (ألا ليتني قريب منهم أمدهم بالفعل لا بالقول، ألا ليتني طائر أطير لمساعدة إخواني المسلمين) . وكأن قائمًا على قدميه ينظر يمينًا ويسارًا كالأسد الرئبال، وأمامه أنجاله الفخام وإخوته العظام وأعيان مملكته، يحثهم على الاكتتاب قائلاً: (لا أظن أن أحدًا من رعيتي يتأخر عن مد يد المعونة لإخواننا في الإنسانية والدين؛ وإن وجد على فرض المحال، فإني أستجدي منهم شيئًا يسد عوز أولئك المجاهدين الذين جادوا بأنفسهم؛ فداء لحفظ شرف ملتهم ووطنهم. أعينوا أولئك الجرحى، أعينوا أطفال الشهداء، فما في الدنيا شيء يقرب من ثواب الآخرة كإغاثة الملهوف) . وبعد أن ختم مقاله، قام جميع العثمانيين القاطنين في أفغانستان، ورفعوا له عريضة الشكر، فقرأها على رؤوس الأشهاد وأظهر سروره بها - أبقاه الله - وهذه ترجمتها.