للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن الرسالة التي نشرها المجلس الإسلامي الأعلى مع الدعوة


صفة المسجد الأقصى الشريف
وخلاصة تاريخية له [١]
(١)

جمال الحرم وجلال مبانيه الفنية:
للمباني التي يتألف منها الحرم الشريف جمال وجلال يشعر بهما حالاً كل من
يُتَاح له التمتع بمشاهدته أيًّا كان سواء في ذلك العالم والجاهل، الكبير والصغير،
المسلم وغير المسلم، فإذا سرح الطرف متأملاً في عجائب صنعتها ازداد تأثره،
واتسع شعوره وحلَّق وجدانه مرتقيًا من الحسن إلى الأحسن ومن السامي إلى الأسمى،
فيخشع قلبه وتحل عليه روحانية لطيفة تسمو بنفسه إلى إدراك حقائق الدين
ودقائق معانيه ونبيل مقاصده، إلى غير ذلك مما يدل على بلوغ فناني العرب
والمسلمين الغاية القصوى في الإتقان والإبداع.
فالداخل إلى الحرم المكرم من أي باب من أبوابه المباركة تأخذه روعة المقام
الشريف؛ إذ ينبسط أمامه مشهد من مشاهد السعة والصفاء: رحب فسيح ينشرح له
الصدر، وينجلي بمرآه الذهن فلا يلبث النظر أن يرسل رائده إلى ما حوله من
المباني الفخمة المتنوعة بتناسب تام من مربع إلى مسدس إلى مثمن إلى مستطيل
إلى كروي إلى أسطواني ... على أشكال وأوضاع متلائمة آخذ بعضها برقاب بعض
تسر الناظرين، وتسبح بحمد رب العالمين.
وترى أروقة ممتدة على جوانب الساحة يتخللها النور والهواء فتنزل على
النفس السكينة والهناء، وقببًا عظيمة تحنو على ما تحتها من المعابد ولا حنو الأم
على فطيمها، وأساطين شاهقة ترفع ما فوقها بقوة ومتانة، وأعمدة هيفاء مختلفة
الأشكال والألوان، قامت صفوفًا متزاوجة توحي إلى القلوب الاحترام وحب النظام،
ومآذن تخترق الفضاء، وتمعن في العلاء، لتكون رسولاً بين الأرض والسماء،
ومنادياً ينادي الناس كل يوم خمس مرات (بحي على الصلاة، حي على الفلاح)
ومقاصير وفساقي، وأدراجًا ومراقي، ومنابر خاشعة، تتلى عليها المواعظ الحسنة
ومحاريب ساكنة يستقبل فيها المصلون وجه ربك ذي الجلال والإكرام، ويذكرون
فيها اسمه تبارك وتعالى في الغدو والآصال.
وكل ذلك قد أحكم بناؤه من حجر منقوش، أو مرمر مسنون، أو خزف
مصقول، أو خشب منجور، أو صفر مطلي بالفضة أو مكسو بالتبر، أو فص
مُذَهَّب يعلوه التزيين والتلوين، والتشجير والتزهير، والتذهيب والترصيع،
والوشي والزخرفة والتنميق ... فإذا أشرقت الشمس وامتزج نورها بتلك التراكيب
الهندسية البديعة رأيت لها لألاء يأخذ الأبصار ويملأ الجوانح وينقل النفوس إلى نعيم
قدسي لا يُدْرَك كنهُهُ، ولا يُعْرَف سره.
فتبارك الله أحسن الخالقين.
المساحة - السور - الأبواب
يقع الحرم القدسي الشريف على مساحة مربعة طول الجهة الغربية منها
(٤٩٠) مترًا، والشرقية (٤٧٤) مترًا، والشمالية (٣٢١) مترًا والجنوبية
(٢٨٣) مترًا، يحيط بها سور يتراوح ارتفاعه بين (٣٠) مترًا (عند الزاوية
الشمالية الشرقية) و (٤٠) مترًا (في الجنوب الشرقي) ويبلغ بعض الحجارة فيه
نحو ٥ أمتار طولاً في أربعة أمتار عرضًا وحول السور من جهة الغرب والشمال
أروقة فسيحة معقودة يتخللها بعض أبواب الحرم وهي ١٤ بابًا المشروع منها أحد
عشر وهي:
١- في الجهة الشمالية: باب الأسباط، وباب حطة، وباب شرف الأنبياء أو
الدويدار (العتم) .
٢- في الجهة الغربية: باب الغوانمة (وكان يسمى قديمًا بباب ميكائيل)
وباب الحديد، وباب القطانين، وباب المتوضأ، وبابا السلسلة والسكينة (وهما
متلاصقان) وكان باب السلسلة يعرف قديمًا بباب داود، وباب المغاربة (وكان
يسمى بباب النبي) .
ومن الأبواب غير المشروعة بابا الرحمة والتوبة المعروفان بباب الذهب،
وهما في السور الشرقي للحرم الشريف، وباب آخر في السور القبلي.

قبة الصخرة
شيد جامع الصخرة الشريفة على صحن مربع مفروش بالبلاط المصقول طوله
من القبلة إلى الشمال أكثر من عرضه من المشرق إلى المغرب وارتفاعه ٣ أمتار
يُصعد إليه بأدراج من الجهات الأربع: اثنان منها في الجهة الشمالية، وواحد في
الجهة الشرقية، واثنان آخران في الجهة الجنوبية، وثلاثة في الجهة الغربية، وقد
عقد على كل درج من أعلاه قناطر هيفاء، محمولة على أعمدة من رخام وأركان
من البناء، فكأن كل قنطرة منها إطار يبدو منه للرائي عن كثب منظر جامع للقبة
وبدائعها الرائعة.
والقبة قائمة على بناء فخم مثمن الشكل ذرع كل تثمينة منه (٢٩) ذراعًا
وثلث ذراع أو ٢٠ مترًا و ٤٠ سنتيمترًا، وقد كسي القسم السفلي من ظاهره
بالرخام الأبيض المشجر والقيشاني البديع الذي يترقرق فيه ماء الألوان المتزاوجة
من لازوردي صاف، وأخضر قاتم، وأبيض ناصع، يعلو ذلك شبه أفريز رسمت
عليه آي القرآن الكريم بخط جميل، وقد صنع هذا القيشاني العجيب في أيام
السلطان سليمان القانوني سنة ٩٦٩ للهجرة.
وللقبة سقفان من خشب (التنوب) أحدهما فوق الآخر بينهما خلاء متسع،
فأما الخارجي منهما فمكسو بشقائق الرصاص من الخارج، وأما الداخلي فمدهون
مذهب، وسيأتي وصف ذلك.
وتحتوي كل تثمينة من البناء على سبع طاقات للتي لا باب فيها، وعلى ست
للتي لها باب، والطاقات المحاذية لأطراف التثمينات مسدودة كلها، والأخرى
مركب عليها الزجاج والشبابيك الحديد، وشكلها الحاضر يدل على أنها جددت في
القرن العاشر الهجري (أي في القرن السادس عشر للميلاد) .
ولجامع الصخرة أربعة أبواب مزدوجة داخلا وخارجًا مربعة الشكل بعقود
مقوسة وهي:
باب الجنة في الشمال، وباب النساء في الغرب، وباب داود أو باب السلسلة
في الشرق، وباب القبلة في الجنوب، وأمام هذا الباب الأخير من الخارج رواق
مفروش بالرخام عليه سقف مكسو بالقيشاني في وسطه قنطرة معقودة والسقف
محمول على ثمانية أعمدة من الرخام مختلفات في النوع واللون، وللباب المذكور
مِصْرَاعَان ملبسان بالنحاس الأصفر المنقوش. عليها أقفال نفيسة متقنة الصنع،
وأما الأبواب الثلاثة الأخرى فيرجح أنها كانت مثل الباب القبلي، وهي الآن لا
أروقة لها.
ويبلغ دور البناء من الداخل ٥٣ مترًا، وهو مقسم إلى ثلاث دوائر يفصل
بعضها عن بعض صفان مستديران من الأعمدة والأركان يتألف الأول منهما من
ثماني سواري مسدسة الأضلاع و ١٦ عمودًا منها (أبيض وأزرق) عشرة،
و (أخضر مرسيني) ثلاثة، و (شحم ولحم) [٢] ثلاثة، والصف الثاني مؤلف
من أربع سوارٍ مربعة الأضلاع، واثني عشر عمودًا، منها سبعة (أخضر
مرسيني) وخمسة (شحم ولحم) .
والسواري ملبسة بالرخام المشجر والملون البديع، والأعمدة قديمة جدًّا وأكثر
تيجانها تدل على أنها من الطراز الروماني أو البيزنطي القديم، ويربط أعمدة
الصف الأول بعضها ببعض وبالسواري (بساتل) [٣] ملبسة بالنحاس الأصفر
المنقوش المذهب. وتحمل هذه الأعمدة مع جدار الجامع سقفًا مائلاً بعض الميل
مدهونًا بأنواع الدهان قائمًا على قناطر مرصعة بالفص المُذَهَّب متصلاً طرفه
الأعلى بكرسي القبة.
ويزين باطن القبة مجموعة لا نظير لها من الفصوص الملونة تمثل ٦٤ شكلاً
من الزخارف على نحو ما كان يصنعه فنانو البيزنطيين وهي مركبة على سطح
موشى بالذهب يأخذ ببصر الناظر ولبه. وفي كرسي القبة ست عشرة طاقة زجاج
مذهبة يعلو كل منها طبقة من الجبس مقسمة عيونًا مغطاة بقطع الزجاج المختلفة
الألوان والأشكال تنفذ منها أشعة الشمس صافية ملطفة بفضل ألواح الزجاج
الخارجية والمشبكات المصنوعة من القيشاني. وعلى هذه الطاقات نقوش تدل على
أنها صنعت في زمن السلطان سليمان سنة ٩٤٥ هجرية كما أن المرمر الذي
يكسوها إنما ركب في زمن (السلطان) صلاح الدين وجدد في أيام السلطان سليمان
المذكور.
والصخرة الشريفة واقعة داخل درابزين [٤] من خشب منقوش مدهون بأنواع
الدهان طولها ١٧.٧٠ مترًا وعرضها ١٣.٥٠ مترًا وارتفاعها عن الأرض يبلغ
نحو ١.٢٥ متر إلى مترين وينزل إلى المغارة التي تحتها بإحدى عشرة درجة من
جهة القبلة، وعند باب المغارة قنطرة معقودة بالرخام العجيب على عمودين
وبباطنها محرابان كل محراب على عمودي رخام لطيفين، وأمام المحراب الأيمن
صفة تسمى مقام الخضر يواجها عمود رخام قائم للسقف وآخر راقد، وفي الركن
الشمالي منها صفة تسمى مقام الخليل.
وجميع باطن أرض الصخرة والمغارة مفروش بالرخام وفي وسط المغارة
بلاطة مستديرة ينبعث عنها إذا نقر عليها رنين تتجاوب أصداؤه، وهذا يدل على
خلو ما تحتها. وحول الدرابزين الخشبي مصلى النساء، وهو مُحَاط بالقضب
الحديدية من جميع جهاته وله أبواب أربعة لا يفتح منها عادة إلا الباب الغربي
الموازي لباب النساء، وهو من عمل الصليبيين إبان احتلالهم بيت المقدس.
صفة المسجد الأقصى
يقع المسجد الأقصى جنوبي جامع الصخرة وطوله ٨٠ مترًا وعرضه ٥٥
مترًا ما عدا ما أضيف من الأبنية.
وأول ما يقابلك من المسجد الأقصى عند الدخول إليه من الجهة الشمالية رواق
كبير أنشأه الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق سنة ٦٣٤
هجرية وجُدد مِن بعده، وهو مؤلف من سبع قناطر عقدت على ممشى ينتهي إلى
سبعة أبواب كل باب يؤدي إلى (كور) من (أكوار) المسجد السبعة، وللمسجد
عدا هذه الأبواب باب في جهة الشرق، وآخر في جهة الغرب، ومدخل إلى المكان
المعروف بجامع النساء، فيكون مجموع ما للمسجد من الأبواب عشرة والبناء قائم
على خمسة وأربعين عمودًا، منها ثلاثة وثلاثون من الرخام واثنا عشر مبنية
بالأحجار وهي تحت (الجملون) [٥] والعمود الأخير مبني بالحجارة أيضًا وموضعه
عند الباب الشرقي تجاه محراب زكريا، وهذه الأعمدة قديمة نقلت في الغالب من
أنقاض أبنية متنوعة أقدم عهدًا من الحرم، وفوق الأعمدة قناطر عريضة حديثة
العهد يربط بعضها ببعض أخشاب ضخمة مستطيلة وفوق القناطر صفان من
الطاقات، العلوية منها تفتح على الخارج والسفلية على (الأكوار) داخل المسجد
وباطن السقف مكون من عوارض كلها من الخشب.
وعدة ما في المسجد من السواري أربعون وهي ضخمة مربعة الشكل مبنية
بالحجارة.
وبأقصى البناء من جهة الجنوب قبة مرتفعة مزينة بالفصوص الملونة المذهبة،
وهي مما رمَّمه صلاح الدين الأيوبي، وذلك في سنة ٥٨٤ هجرية كما أنه رمم
أكبر جناحي المسجد، والقبة والجناح على الغالب إنما صنعا في خلافة المهدي بعد
تهدم المسجد بفعل الزلازل. وهي كقبة الصخرة من خشب مكسوة بصفائح
الرصاص من ظاهرها وبالفص المُذَهَّب من باطنها. ومجدد هذه التزيينات هو
الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة ٧٢٨ للهجرة كما يفهم ذلك من الكتابة التي
عليها وهناك آيات قرآنية كتبت بخط كوفي على جانبي المحراب. والمحراب قائم
على أعمدة لطاف من المرمر وبجانبه المنبر وهو من الخشب المرصع بالعاج
والآبنوس أمر بصنعه خصيصًا لبيت المقدس الملك العادل نور الدين الشهيد وهو
بحلب سنة ٥٦٤ هـ فلما فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين أمر بإحضاره
ونصبه في المكان الموجود به حالاً.
ويقابل المنبر دكة المؤذنين وهي على عمد من رخام في غاية الحسن وبداخل
المسجد من جهة الغرب جامع النساء أو جامع الأبيض وهو عبارة عن عشر قناطر
على تسع سوارٍ في غاية الإحكام بناه الفاطميون. ومن جهة الشرق جامع عمر وهو
معقود بالحجر والجير سمي بذلك لأنه بقية من الجامع الذي بناه عمر رضي الله عنه
حين الفتح. وإلى جانب هذا البناء إيوان كبير معقود يسمى مقام عزيز وبه باب
يتوصل منه إلى جامع عمر، وبجوار هذا الإيوان من جهة الشمال إيوان لطيف به
يسمى محراب زكريا عليه السلام وهو بجوار الباب الشرقي.
وفي صحن المسجد الأقصى شمالاً بركة مستديرة من رخام سورت بالقضب
الحديدية يقال لها الكاس يأتيها الماء بأنابيب خاصة من عيون جارية بالقرب من
برك المرجيع المسماة ببرك سليمان أهمها عين عطاب ووادي الآبار وغيرهما.
ومنها يتوضأ المصلون.
ومن الآثار المهمة في الحرم الشريف: البناء السفلي المعقود بالحجر والجير
المعروف عند الإفرنج بإسطبل سليمان عليه السلام وهو عبارة عن مهد عيسى
ومحراب مريم والعقود الواسعة التي يقوم عليها المسجد الأقصى. وكذا البراق
الشريف وهو في السور الغربي وجامع المغاربة، والمدرسة النحوية (المعظمية)
وفيها اليوم دار كتب المسجد الأقصى وهي من أبنية الملك المعظم (سنة ٣٠٤هـ)
ومنبر القاضي برهان الدين بن جماعة ومحرابه وقبة السلسلة وهي شرقي قبة
الصخرة وعلى شكلها. صنعت في أيام عبد الملك بن مروان. وقبة المعراج (سنة
٥٩٧هـ) وسبيل قايتباي (سنة ٨٨٧هـ) وما يحيط بالحرم الشريف من المدارس
القديمة كالمدرسة التنكزية وفيها اليوم المحكمة الشرعية والمدرسة المنجكية وفيها
المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والرباط المنصوري في باب علاء الدين وغير
ذلك من الآثار الإسلامية والأماكن التاريخية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (للكلام بقية)