للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والستون)
قولكم: قد صرّح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: (إذا رأيت الرجل
يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تتهمه) ، وقال محمد بن الحسن: (يجوز للعالم
تقليد من هو أعلم منه , ولا يجوز له تقليد مثله) ، وقال الشافعي في غير موضع:
(قلته تقليدًا لعمر , وقلته تقليدًا لعثمان , وقلته تقليدًا لعطاء) .
جوابه من وجوه
(أحدها) أنكم إن ادّعيتم أن جميع العلماء صرّحوا بجواز التقليد، فدعوى
باطلة فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذمّ التقليد وأهله
والنهي عنه ما فيه كفاية، وكانوا يسمّون المقلد (الإمعة) ، و (محقب دينه) كما
قال ابن مسعود: (الذي يحقب دينه الرجال) وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا
بصيرة له، ويسمون المقلدين: (أتباع كل ناعق، يميليون مع كل صائح، لم
يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) ، كما قال فيهم أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة -، وكما سماه الشافعي (حاطب ليل) ،
ونهى عن تقليده وتقليد غيره، فجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد نصح لله
ورسوله والمسلمين، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأمر باتباعهما دون قوله،
وأمر بأن تعرض أقواله عليهما فيقبل منها ما وافقهما، ويرد ما خالفهما، نحن نناشد
المقلدين، هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه؟ وإن ادعيتم أن
من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى الثاني أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم
جوّزوا التقليد لمن هو أعلم منهم من أعظم الناس رغبة عن التقليد، واتباعًا للحجة،
ومخالفة لمن هو أعلم منهم، فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن،
ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: (لا
يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا) .
(الثاني) إنكم منكرون أن يكون من قلّدتموه من الأئمة مقلّدًا لغيره أشد
الإنكار , وقمتم وتقدمتم في قول الشافعي: (قلته تقليدًا لعمر , وقلته تقليدًا لعثمان ,
وقلته تقليدًا لعطاء) ، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد
الاضطراب , وادعيتم أنه لم يقلد زيدًا في الفرائض، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده
اجتهاده، ووقع الخاطر على الخاطر، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة، حتى
في الأكدرية، وجاء الاجتهاد (حذو القذة بالقذة) فكيف نصبتموه مقلدًا ههنا؟ ولكن
هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو، واقتديتم بالدليل
وجعلتم الحجة إمامًا لما تناقضم هذا التناقض، وأعطيتم كل ذي حق حقه.
(الثالث) إن هذا من أكبر الحجج عليكم فإن الشافعي قد صرّح بتقليد عمر
وعثمان مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم مع إقراركم بأنكم من المقلدين لا ترون
تقليد واحد من هؤلاء، بل إذا قال الشافعي، وقال عمر وعثمان وابن مسعود فضلاً
عن سعيد بن المسيب، وعطاء والحسن تركتم تقليد هؤلاء، وقلدتم الشافعي،
وهذا عين التناقض فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه، فإن قلدتم الشافعي
فقلدوا من قلده الشافعي، فإن قلتم: بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي، قيل: لم
يكن ذلك تقليدًا منكم لهم، بل تقليدًا له، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا
إلى أحد منهم.
(الرابع) إن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سوغوه ألبتة، بل
غاية ما نُقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة، لم يظفروا فيها بنص عن الله
ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه، وهذا فعل أهل العلم
وهو الواجب، فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عدل عن الكتاب والسنة
وأقوال الصحابة , وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد؛ فهو كمن
عَدَلَ إلى الميْتة مع قدرته على المُذَكَّى، فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل
إلا عند الضرورة , فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم.
(الوجه السادس والستون)
قولكم: قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا؛ جوابه من
وجوه:
أحدها: إنكم أول مخالف لقوله , ولا ترون رأيهم لكم خيرًا من رأي الأئمة
لأنفسهم، بل تقولون: رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا؛ فإذا
جاءت الفُتْيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة، وجاءت الفُتْيا
عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة، وأخذتم ما أفتى به
الأئمة، فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرًا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم.
الثاني: إن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة؛ لِما خصهم الله به
من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسوله، وشاهدوا الوحي والتلقي عن
الرسول بلا واسطة، ونزول الوحي بلغتهم وهي عَضَّة محضة لم تُشب
ومراجعتهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما أشكل عليهم من القرآن
والسنة، حتى يجليه لهم، فمن له هذه المزية بعدهم؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة
حتى يقلد كما يقلدون؟ فضلاً عن وجوب تقليده، وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما
صرح به غلاتهم , وتالله إن بَين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل كما بيننا
وبينهم، وفي ذلك قال الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم، وذكر من
تعظيمهم وفضلهم: (وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به
علم، وآراءهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا , قال الشافعي: وقد أثنى الله على
الصحابة في القرآن والتوراة والانجيل، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما
ليس لأحد بعدهم.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم (خير الناس قَرْنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق
شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال:
قال: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم
أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه) .
وقال ابن مسعود: (إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب
العباد، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد
فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند
الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح) .
وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باتباع سنة خلفائه
الراشدين، وبالاقتداء بالخليفتين، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لابن
مسعود بالعلم، ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، وضمه
إليه مرة وقال: (اللهم علمه الحكمة) وناول عمر في المنام القدح الذي شرب منه،
حتى رأى الري يخرج من تحت أظفاره وأوله بالعلم، وأخبر أن القوم إن أطاعوا
أبا بكر وعمر يرشدوا، وأخبر لو كان بعده نبي لكان عمر، وأخبر أن الله جعل
الحق على لسانه وقلبه وقال: (رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد) يعني
عبد الله بن مسعود وفضائلهم ومناقبهم، وما خصهم الله به من العلم والفضل أكثر
من أن يذكر فهل يستوي تقليد هؤلاء , وتقليد من بعدهم ممن لا يُدانيهم ولا
يقاربهم؟
الثالث: إنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلّدتموه حجّة، وأكثر
العلماء بل الذي نصّ عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة يجب اتباعها، ويحرم
الخروج منها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك، وأبلغهم فيه الشافعي، ونُبَيِّن
أنه لم يختلف مذهبه (أن قول الصحابي حجة) ونذكر نصوصه في الجديد على
ذلك إن شاء الله، وأن مَنْ حكى عنه قولَيْنِ في ذلك؛ فإنما حكى ذلك بلازم قوله لا
بصريحه وإذا كان قول الصحابي حجَّة فقبول قول حجة واجب مُتعيَّن، وقبول
قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغًا، فقياس أحد القائلين على الآخر من
أفسد القياس وأبطله.
(الوجه السابع والستون)
قولكم: وقد جعل الله - سبحانه - في فِطَر العباد تقليد المتعلمين للمعلمين
والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره، فجوابه أن هذا حقٌّ لا ينكره
عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله، وقبول قول المتبوع بغير
حجة توجب قبول قوله، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه؟ وترك الحجة
لقوله، وترك أقوال أهل العلم جميعًا من السلف والخلف لقوله , فهل جعل الله ذلك
في فطرة أحد من العالمين؟ ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده طلب الحجة،
والدليل المثبت لقول المدعي، فذكر الله سبحانه في فِطَر الناس أنهم لا يقبلون قول
من لَمْ يُقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة،
والحجج الساطعة، والأدلَّة الظاهرة، والآيات الباهرة على صدق رسله إقامة
للحجة وقطعًا للمعذرة، هذا وهم أصدق خلقه وأعلمهم وأبرهم وأكملهم، فأُتُوا
بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس، فكيف
يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول
قولهم بعد قيام الحجة، وظهور الآيات المُسْتَلْزِمة لصحَّة دعواهم لِما جعل في
فِطر عباده من الانقياد للحجة وقبول صاحبها، وهذا أمر مشترك بين جميع أهل
الأرض مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، الانقياد للحجة، وتعظيم صاحبها وإن
خالفوه عنادًا وبغيًا، فلفوات أغراضهم بالانتقاد، ولقد أحسن القائل:
أَبِن وجه قول الحق في قلب سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رشدا وينسى نفاره ... كما نسي التوثيق من هو مطلق
ففطرة الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد.
(الوجه الثامن والستون)
قولكم: إن الله سبحانه فاوت بين ذوي الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان،
فلا يليق بحكمته وعدله أن يعرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة إلى
آخره , فنحن لا ننكر ذلك، ولا ندّعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق
بدليله في كل مسألة من مسائل الدِّين دِقَّه وجُلَّه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن
تقدمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة
في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من
نصب رجل واحد، وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل يقدمها عليه، ويقدم
قوله على أقوال من بعد رسول الله - صلى الله عليه آله وسلم - من جميع أمته
والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا مع تضمنه للشهادة
بما لا يعلم الشاهد، والقول بلا علم والإخبار عمَّن خالفه، وإن كان أعلم منه أنه
غير مصيب للكتاب والسنة، ومتبوعي هو المصيب، أو يقول: كلاهما مصيب
للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالهما , فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة
متناقضة , والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد، ودينه تبع لآراء
الرجال، وليس له في نفس الأمر حكم مُعيَّن، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو
يخطِّئ من خالف متبوعه، ولا بد له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد
عليه.
إذا عرف هذا فنحن إنما قلنا ونقول لك: إن الله تعالى أوجب على العباد
أن يتقوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يتقى , ثم العمل به فالواجب
على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم
يلتزم طاعه الله ورسوله، وما خفي عليه فهو فيه أُسوة أمثاله ممن عدا الرسول،
فكل أحدٍ سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل
العلم، ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه.
قال أبوعمرو: (ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وقد
خفي عليه بعض أمره؛ فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبَلَغته
قواه من معرفة الحق وعذره فيما خفي عليه منه فأخطأه أو قلّد فيه غيره - كان ذلك
هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته , بخلاف ما لو فرض على العباد تقليد من
شاءوا من العلماء، وأن يختار كل منهم رجلاً ينصبه معيارًا على وحيه , ويُعْرِض
عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي، فإن هذا ينافي حكمته ورحمته
وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه وهجر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع)
وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))