بيان وجه الحاجة إلى تحرير التصوف ومكانة الكتابين والشيخين منه علماء الإسلام أربعة أصناف: أهل الأثر والمتكلمون والصوفية والفقهاء والتفسير مشترك بينهم، ففي كل صنف منهم مفسرون. ونقول باعتبار آخر: إن علماء الإسلام صنفان: علماء الأثر وغيرهم، أو علماء المنقول وعلماء المعقول، ومن كل صنف مفسرون وفقهاء، ولا يكاد يكون الأثري متكلمًا، وقد يكون صوفيًا في النادر. والأثري الفقيه إذا احتج بالقياس، فإنما يحتج بما كانت علته ثابتة في الكتاب أو السُّنة. ثم إن علم الأثر ينقسم إلى علم الرواية، وعلم الدراية، ولا يتم نفع أحد العلمين إلا بالآخر، فمن أتقن علم الرواية بحفظ الأثر أو الحديث، وضبطه ومعرفة رواته وعلله والتمييز بين الصحيح وغيره منه، ولم تكن له دراية بفهمه والاستنباط كان جل النفع بعلمه لغيره، وهو إذا خاض في معاني الحديث بغير استعداد تام للفهم، فإنه ربما يضل ويُضل كثيرًا، وفي مثله ورد الحديث الصحيح (نضَّر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه) رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت. وفي معناه حديث (نضَّر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمعه فرُب مبلَّغ أَوْعَى من سامع) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان من حديث ابن مسعود. وأما من لم يتقن علم السُّنة من المتكلمين والفقهاء والصوفية فضلالهم، وإضلالهم أشد. وقد وجد في كل طائفة علماء أعلام خدموا الإسلام أجل خدمة، فصالِحو المتكلمين خدموه بدفع شبهات الملاحدة، وكثير من المبتدعة، على أن بعض الشبه والبدع ما جاءت إلا مِن علمهم المبتدَع، وإنما ينتفع بعلمهم مَن جمع بينه وبين علم السُّنة. وصالِحو الصوفية خدموا الإسلام ببيان حِكَم الشريعة وأسرارها وتربية الأخلاق والآداب، ولكن البدع التي حدثت من قِبَلِهِمْ أكثر وأرسخ من سائر البدع التي حدثت في الإسلام، وسبب ذلك الجهل بالسُّنة. والفقهاء خدموا الإسلام باستنباط أحكام العبادات، والحلال والحرام والأحكام المدنية والسياسية والتأديبية، وقد جنى الجاهلون بالسُّنن منهم على الإسلام جناية عظيمة بما أحدثوا بأقيستهم البعيدة عن نصوص الشريعة ومقاصدها من الأحكام الكثيرة المنافية ليُسر الدين، ورفع الحرج منه. تفرق المسلمون بهذه العلوم إلى فرَق وأحزاب كثيرة، كلٌّ ينتحل مذهبًا ينتصر له ويدافع عنه، فكانت جناية الخلاف على الإسلام وأهله أشد ضررًا مما أخطأ به كل فريق منهم. وقد رد بعضهم على بعض ردودًا كان يعدها كل منهم من التعصب أو من باب (مَن جهل شيئًا عاداه) والحق أنه قَلَّمَا يخلو رد طائفة على أخرى من ذلك. ومنشأ الخطأ والضرر الأكبر هو التزام مذهب والرد على مخالفه، فإن هذا هو اتباع الهوى، وأهله هم أهل الأهواء، وإن سموا أنفسهم بأفضل الأسماء، أما أهل الحق الذين لا يدخلون في عموم {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: ٣٢) فهم الذين يجعلون كتاب الله - تعالى - وما بيَّنه من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق الخلاف، بل هو الحَكَم العدل في الخلاف؛ لأنه - تعالى - أخبرنا أنه أنزل الكتاب {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: ٢١٣) . وأجدر هؤلاء المهديين ببيان التحقيق الذي يزيل الخلاف من كان جامعًا بين المنقول والمعقول غير متعصب لمذهب من المذاهب التي تُعزى إلى أفراد العلماء. ولم نر في هذا الصنف أوسع علمًا، وأنهض حجة وأقوى عارضة من شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، وتلميذه الإمام المحقق محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم، وابن قيم الجوزية، فقد جمع الله لكل منهما بين الرسوخ في علوم السُّنة حفظًا وفهمًا واستحضارًا واستنباطًا، وبين التمكن من سائر العلوم التي دونت بالعربية، ومذاهب الفرق وأدلتها، فبيَّنا في كتبهما الممتعة ما أخطأ فيه الذين انحرفوا عن الكتاب والسنة من أهل هذه المذاهب، وقد كان ابن تيمية السابق إلى تحرير تلك المسائل، وتلاه ابن القيم، فكان الموضح المكمل لها، والمستدرك لما فاته منها. وأهم ما انفرد به ابن القيم - فيما نعلم - الإطالة بتحرير علوم الصوفية ووضع الموازين القسط لمعارفهم، وأذواقهم ومقاماتهم وأحوالهم بشرحه لكتاب (منازل السائرين) لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي. الصوفية ثلاث: صوفية الأرزاق، وصوفية الرسوم، وصوفية الحقائق، وبدع الفريقَيْن المقلدَيْن يعرفها كل من له إلمام بالسُّنة والفقه. وإنما الصوفية صوفية الحقائق الذين خضعت لهم رءوس الفقهاء والمتكلمين، فهم في الحقيقة علماء حكماء، ولكن ضل بما دخل في الإسلام من باب فلسفتهم الروحية أضعاف من ضل بما دخل على المتكلمين، وغيرهم من باب الفلسفة العقلية، من إلهية وطبيعية. وسبب ذلك ما بيناه آنفًا من جهل بعض شيوخهم بالسنة النبوية، فمن أصول الضلالة التي دخلت على المسلمين من باب التصوف المقابَلة بين الحقيقة والشريعة، وجعل الأمر الكوني القَدَريّ كالأمر الشرعي في كون كل منهما يجب الرضاء به والإذعان والاستسلام له، ومن مفاسد هذا الأصل قولهم: (من نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم) ومن مفاسده الرضاء بعدم مقاومة الأمراض والظلم، وهُضِمَ حقوق الأفراد وحقوق الأمة. ومن مفاسده الجبر وسلب الاختيار، وناهيك بما يتبعه من المفاسد والمضارّ. ومن أصول الضلالة التي دخلت من ذلك الباب جعل الذوق والحال من قَبِيل دلائل الشريعة وأصولها، بل هو عند كثير من غلاتهم الركن الأعظم المقدم على كل ما يعارضه، ومن فروع هذا الأصل ما ابتدعوه من الأذكار والأوراد والسماع، وتعظيم القبور وجعلوه من شعائر الإسلام، فإن عمدتهم فيه أنهم ذاقوا ما أثمره لهم من الحب، والوَجد والخشوع والبكاء والرغبة في الآخرة، ومن أمثالهم (من ذاق عرف) ، وجهلوا أن مثل هذا الذوق حاصل للكفار فيما يأتونه في عبادتهم من الأغاني والأناشيد وآلات الطرب، وما يشاهدونه في معابدهم ومقابرهم من الصور والتماثيل، التي وضعت لسلفهم من النبيين والكهنة وغيرهم من الصالحين عندهم، فإذا كانت العبادة تشرع بالذوق، فقد هُضِمَ حق الوحي، وعُدِمَ أساس الشرع. ومن أصول تلك الضلالات دعوى أن للدين ظاهرًا، وباطنًا مخالفًا لما يفهم الجمهور منه، وهذه الضلالة من ابتداع زنادقة الباطنية، وقد كانت سببا لارتداد كثير من المسلمين، فكونت منهم طوائف، الإسماعيلية والنُّصيرية والدُّروز، والبابية البهائية، والأزلية وغيرهم. ومنها أصل الأصول عند غُلاتهم، وهو ما يعبرون عنه بوحدة الوجود بالمعنى الذي يمثله الكتاب المسمى (بالإنسان الكامل) وأمثاله، هذا الأصل مخالف لنصوص القرآن الصريحة، ولنصوص السنة الصحيحة، وفيه مفاسد كثيرة جدًّا، ولكن من الناس من يفهم وحدة الوجود على غير هذا الوجه. قد افتتنت كل فرقة انشقت من جماعة المسلمين، وأهل كل مذهب خالفوا السنة، وما جرى عليه سلفها الصالح بفتنة تأويل، ما يخالف مذاهبهم وآراءهم من آيات الكتاب العزيز ومتون الأحاديث، حتى إنهم ليؤوّلون السنن العملية، أو يعارضونها بروايات قولية شاذة أو منكرة، وغلاة الصوفية أبرع الفِرَق في التأويل، وأشدهم إسرافًا فيه بعد الباطنية، الذين يشتبهون بهم كثيرًا؛ ذلك لأنهم لا يلتزمون في التأويل ما يلتزمه المتكلمون والفقهاء من عدم الخروج باللفظ عن حقيقته إلا إلى ضرب من ضروب المجاز أو الكناية، بل يزيدون على ذلك باب الكشف، وباب الإشارة وباب الرموز؛ ولذلك نرى كلامهم ممزوجًا بالآيات والأحاديث محرفة عن معانيها الصحيحة التي تدل عليها في اللغة؛ ولأجله نرى كلامهم مقبولاً عند الجماهير من غير تأمل ولا تفكُّر، حتى إن المتكلمين والفقهاء ما عادوا ينكرون عليهم شيئًا كما كان السلف ينكرون على كل من يخالف ظواهر النصوص، أو يبتدع في الدين ما لم يكن في الصدر الأول. فمن تدبر ما ذكرنا عَلِمَ أن تحرير علم التصوف شيء لا يستطيعه إلا من كان راسخًا في علم الكتاب والسنة أتم الرسوخ، وعارفًا بالتصوف معرفة علم وذوق وعمل، وقد ادخر الله - تعالى - هذا للعالِمين العاملين الذائقين المفسرين المحدِّثين- شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري، ومحقق الإسلام ابن القيم الدمشقي- فالأول عالم أثري، غلب عليه التصوف، والثاني صوفي ذائق، غلب عليه علم السُّنة، جمع الأول زُبدة التصوف جمعًا موجزًا في كتابه (منازل السائرين) وشَرَحه الثاني وبيَّن ما له وما عليه في كتابه (مدارج السالكين) وها نحن أولاء ننقل من كتب العلماء ترجمة وجيزة لكل من الشيخين، ونقفي عليها بالتعرف بكل من الكتابين: *** ترجمة شيخ الإسلام الهروي جاء في حوادث سنة ٤٨١ من كتاب (شذرات الذهب) ما نصه: وفيها توفي أبو إسماعيل الأنصاري الحنبلي، عبد الله بن محمد بن علي الهروي، الصوفي القدوة الحافظ أحد الأعلام، توفي في ذي الحجة، وله ثمانون سنة وأشهر. سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي منصور محمد بن منصور الأزدي وخلق كثير، وبنيسابور من أبي سعيد الصيرفي، وأحمد السليطي صاحبي الأصم، وكان قذى في أعين المبتدعة وسيفًا على الجهمية، وقد امتحن مرات. وصنف عدة مصنفات، وكان شيخ خراسان في زمانه غير مدافَع، قاله في العبر. ومن شعره: سبحان من أجمل الحسنى لطالبها ... حتى إذا ظهرت في عبده مدحا ليس الكريم الذي يعطي لتمدحه ... إن الكريم الذي يثني بما منحا وجاء في أول حرف العين من (الكواكب الدرية) في طبقات الصوفية للمُناوي: (عبد الله بن محمد بن علي شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحافظ العالم العارف الصوفي صاحب (منازل السائرين) كان إمامًا في التفسير والحديث، حسن السيرة [١] في التصوف والعربية والتاريخ والأنساب، وغير ذلك وكان لا يخاف في الله لومة لائم؛ ولذلك.. [٢] في هلاكه مرارًا، فحفظ منهم. وكان آية في التذكير والوعظ. مات سنة إحدى وثمانين وأربعمائة) اهـ. وذكره الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) وجعل عنوانه (شيخ الإسلام الأنصاري) ولقبه بالإمام الكبير، على كونه لم ينقم منه سوى تأليفه لكتاب المنازل، وقال فيه ما نصه: (كان أبو إسماعيل آية في التفسير، رأسًا في التذكير، عالمًا بالحديث وطرقه، بصيرًا باللغة، صاحب أحوال ومقامات، فيا ليته لا ألف كتاب المنازل، ففيه أشياء منافية للسلف وشمائلهم، قيل: إنه عقد على تفسير {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى} (الأنبياء: ١٠١) ثلاث مئة وستين مجلسًا. وقد هدد بالقتل مرات ليقصر من مبالغته في إثبات الصفات، وليكف عن مخالفيه من علماء الكلام، فلم يَرْعَوِ لتهديدهم، ولا خاف من وعيدهم، ومات في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وله خمس وثمانون سنة، سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي سعيد الصيرفي وطبقتهما) . *** ترجمة محقق الإسلام ابن القيم قال العلامة السيد نعمان خير الدين بن الآلوسي البغدادي في كتابه (جلاء العينين) : العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي، ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي المفسر النحوي الأصولي المتكلم الشهير بابن قيم الجوزية. قال في الشذرات: بل هو المجتهد المطلق. قال ابن رجب: ولد شيخنا سنة إحدى وتسعين وستمائة، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وأخذ عنه وتفنن في كافة علوم الإسلام، وكان عارفًا في التفسير لا يُجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيه المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك، وبالفقه والأصول والعربية، وله فيها اليد الطُّولى، وبعلم الكلام والتصوف. حبس مدة لإنكاره (جد الرحيل إلى قبر الخليل) . وكان ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، ولم أشاهد مثله في عبادته وعلمه بالقرآن والحديث وحقائق الإيمان، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله. وقد امتحن وأوذي مراتٍ، وحبس مع شيخه شيخ الإسلام تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفردًا عنه، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ؛ وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن، وبالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والخوض في غوامضهم وتصانيفهم ممتلئة بذلك، وحج مرات كثيرة وجاور بمكة. وكان أهل مكة يتعجبون من كثرة طوافه وعبادته، وسمعت عليه قصيدته (النونية) في السُّنة وأشياء من تصانيفه غيرها، وأخذ عنه العِلم خَلق كثير في حياة شيخه، وإلى أن مات وانتفعوا به. قال القاضي برهان الدين الزرعي: وما تحت أديم السماء أوسع علمًا منه، ودرس بالصدرية، وأم بالجوزية، وكتب بخطه ما لا يوصف كثرةً، وصنف تصانيف كثيرة جدًّا في أنواع العلوم، وحصل له من الكتب ما لم يحصل لغيره. فمن تصانيفه: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، وسفر الهجرتين، ومراحل السائرين، الكلم الطيب، وزاد المسافرين، وزاد المعاد أربع مجلدات، وهو كتاب جليل، وكتاب نقد المنقول، وكتاب أعلام الموَقِّعين عن رب العاليمن، ثلاث مجلدات، وكتاب بدائع الفوائد، مجلدان، النونية، الشهيرة بالشافية الكافية، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ونزهة المشتاقين، وكتاب الداء والدواء، وكتاب مفتاح دار السعادة، مجلد ضخم غريب الأسلوب واجتماع الجيوش الإسلامية، وكتاب الطُّرق الحُكمية، وكتاب عُدّة الصابرين، وكتاب إغاثة اللهفان، كتاب الرُّوح، وكتاب الصراط المستقيم، والفتح القدسي، والتحفة المكية، والفتاوى، وغير ذلك. توفي ثالث عشر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، ودُفن بمقبرة الباب الصغير بعد أن صُلِّي عليه بمواضعَ عديدة، وكان قد رأى - قبل موته - شيخه تقي الدين في النوم، وسأله عن منزلته فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر، ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة، - رحمهم الله تعالى- انتهى باقتصار. *** مكانة كتاب منازل السائرين جاء في كشف الظنون ما نصه: (منازل السائرين) أوله (الحمد لله الواحد الأحد) ... إلخ وهو لشيخ الإسلام عبد الله بن محمد بن علي أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي المتوفى سنة ٤٨١ إحدى وثمانين وأربعمائة. وهو كتاب في أحوال السلوك. قال فيه: هذه المقامات يجمعها رُتب ثلاث: الأُولى: أخذ المريد في السير، الثانية: دخوله في الغربة، والثالثة: حصوله على المشاهدة الجاذبة إلى عين التوحيد، ألفه حين سأله جماعة من الراغبين في الوقوف على منازل السائرين إلى الحق من أهل هَراة فأجاب، ورتبه لهم فصولاً وأبوابًا، وجعله مائة مقسومة على عشرة أقسام، كل منها يحتوي على عشر مقالات. (وقد شرحه جماعة منهم الشيخ كمال الدين عبد الرزاق الكاشي المتوفى سنة ٧٣٠ ثلاثين وسبعمائة لغياث الدين محمد بن رشيد الدين محمد بن محمد بن طاهر الوزير، أوله (الحمد لله الذي خص العارفين بمعرفة ما لا يعرفه إلا هو) ... إلخ وذكر الكاشاني أن النسخ كانت مختلفة، وألفاظها متباينة حتى ساق إليه القدَر نسخة مقروءة على المصنف موشحة بإجازة بخطه، قال: وهو كتاب فاق على كل ما صُنِّف في هذه الطريقة. وشرحه المولى شمس الدين محمد البتادكاني الطوسي المتوفى سنة ٨٩١ إحدى وتسعين وثمانمائة، وهو شرح ممزوج بالفارسية، سماه (تسنيم المغربين في شرح منازل السائرين) . وشرحه محمود بن محمد الدركزيني المتوفى سنة ٧٤٣ ثلاث وأربعين وسبعمائة، سماها تنزل السائرين، ولأحمد بن إبراهيم الواسطي المتوفى سنة ٧١١ إحدى عشرة وسبعمائة شرح نافع. (ولشمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الدمشقي المتوفى سنة ٧٥١ إحدى وخمسين وسبعمائة شرح سماه (مدارج السالكين) وهو شرح مبسوط. وعلق عليه أبو طاهر محمد بن أحمد الفيشي المتوفى سنة ٧٤٧ سبع وأربعين وسبعمائة، وترجمه الشيخ مصلح الدين، المعروف بابن نور الدين المتوفى سنة ٩٨١ إحدى وثمانين وتسعمائة بالتركية، واختصرته الشيخة عائشة بنت يوسف الدمشقية وسمته (الإشارات الخفية في المنازل العلية) ، وشرحه الشيخ الإمام عبد الغني التلمساني. وشرحه أيضًا الشيخ الإمام سليمان بن علي بن عبد الله التلمساني الصوفي المتوفى سنة ٦٩٠ تسعين وستمائة بأمر الشيخ الزاهد ناصر الدين أبي بكر بن فليح، وهو شرح أوله (الحمد لله الذي روحنا بالحمد) ... إلخ اهـ. *** مكانة كتاب مدارج السالكين مصنفات ابن القيم في كتب علماء الإسلام نادرة، وكتاب مدارج السالكين في كتب ابن القيم نادرة، فإذا كان كل كتاب منها ممتازًا بتحقيق وإحاطة في مباحث العلوم، فلا يُستغنى عنه بغيره في الجملة، فكتاب المدارج أولى بأن لا يُستغنى عنه بغيره في الجملة، ولا في التفصيل. ذلك بأن مباحث كل كتاب من تلك الكتب قد توجد مجملة أو مفصلة في كتبه الأخرى أو كتب شيخه وغيرهما من المحققين , وأما مباحث المدارج فما يوجد منها في تلك الكتب قليل جدًّا، فهو الكتاب الذي قد انفرد بتحرير علوم الصوفية، ووزنها بميزان الكتاب العزيز والسنة النبوية، وما كان عليه صفوة المسلمين في الصدر الأول. قدر الله - تعالى- أن يجمع مباحثها له إمام من أكبر أئمتهم المعتدلين في أوجز عبارة، وألطف إشارة، يعزّ على غيره الحكم له أوعليها، بل يقلّ في الناس مَن يفهم الغايات التي ترمي إليها، وإنما أحجم غير ابن القيم من علماء السنة الأعلام عن شرح كتاب المنازل بمثل ما شرحه به، أو إنشاء كتاب مستقل في موضوعه؛ لأن الصوفي القح منهم - وهو قليل - لا يُرجى منه أحسن مما جاء به الهروي، والبعيد عن التصوف منهم لا يفهم رموزهم ومقاصدهم، ولا يدرك أحوالهم وأذواقهم، فهو إما أن يحكم عليهم بالتضليل، أو يعذرهم بضرب من التأويل؛ ألم تر إلى الحافظ الذهبي كيف تمنى لو لم يؤلف الأنصاري كتاب المنازل؟ ولو لم يكن من أكبر علماء التفسير والحديث، ومقاومي الجهمية وغيرهم من أهل التعطيل والتأويل، لضلله بهذا الكتاب تضليلاً. إذا كان لكتاب المدارج عيب يوقيه من العين، فعيبه أن أكثر ما فيه من الأحاديث غير معزوٍّ إلى مواضعه من دواوين السنة، خلافًا لعادة مؤلفه وأمثاله، كأن العَدْوى سَرَتْ إلى مصنّفه من كُتب التصوف، ولكن لم يصل فعلها فيه إلى إيراد الأحاديث الموضوعة، أو الاستدلال بالأحاديث المنكرة والضعيفة، فإن هذا لا يأتي من أثري محقق مثل ابن القيم. وجملة ما نقول في هذا الكتاب أنه أفضل ما عرفنا وسمعنا به من كتب التصوف والأخلاق الدينية، وقد فند ما ذكرنا، وما لم نذكر من دخائل كتب التصوف وبِدعها، فهو غاية الغايات في هذا الباب، والله أعلم بالصواب. والحمد لله الذي وفقنا لطبعه ونشره، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.