للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جوابنا عن أسئلة الربا في الفتوى الهندية

أشهد أن رسالة الاستفتاء في مسألة الربا رسالة نفيسة، وأن كاتبها المستفتي
المفتي قد حقق الموضوع أحسن تحقيق في مذهب الحنفية، فهو حقيق بأن يُعَدُّ بها
مجتهدًا في المذهب - لا في الكتاب والسنة - على سعة اطلاعه في التفسير
والحديث، وإننا نبين رأينا مجملاً مختصرًا في المسائل الأربع التي لخص بها
الرسالة، وأفتى فيها وعرض فتواه على علماء المسلمين في الأمصار مستفتيًا عنها،
ثم نعود إلى تحقيق البحث بما أرانا الله تعالى من فقه الإسلام، غير مقيد بمذهب
من مذاهب أئمته الأعلام؛ لأن الموضوع من المسائل التي تنازعوا فيها في جملتها
والله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) وأخونا
العلامة الهندي الفقيه الحنفي قد حاول هذا وأراده؛ ولكنه نظر في أدلة الكتاب
والسنة بمنظار الفقه الذي انطبع في نفسه، وغلبت عليه ملكته، فأقول متوجهًا إلى
الله تعالى داعيًا ضارعًا أن يلهمني الصواب، ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب:
الفتوى الأولى
(قال) الربا المذكور (يعني في آية البقرة) مجمل عند الأحناف وغيرهم
من الأئمة، حتى يصح أن يقال: اتفقت عليه الأمة، وحديث عبادة وغيره تفسير له
عند الجمهور.
(أقول) قوله: إن الربا المذكور مجمل عند الأحناف، صحيح، وقوله:
باتفاق الأمة عليه، غير صحيح، وقوله: إن حديث عبادة وغيره (الحنطة بالحنطة)
تفسير له، غير مسلّم، بل المتبادر منه بحسب القواعد أن الألف واللام فيه للعهد،
والمعهود من الربا عند المخاطبين به في عصر التنزيل شيئان (الأول) ربا الجاهلية
الذي وضعه وأبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله تحت قدميه كدماء الجاهلية
وثاراتها، وهذا ما سمي في اصطلاح النحاة بالعهد الخارجي (الثاني) قوله تعالى
(٣: ١٣) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران:
١٣٠) فهو قد نزل قبله بلا نزاع لأنهم قالوا: إن آيات أواخر سورة البقرة في الربا
وقوله تعالى بعدها {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة: ٢٨١) الآية آخر
ما نزل من القرآن، وإن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم توفي ولم يفسرها لنا، ولو كان حديث عبادة وغيره تفسيرًا لها لما قال عمر
هذا، وهو من رواة هذا الحديث والعاملين بمضمونه كما هو مقرر في كتب السنة،
وإنما يعني رضي الله عنه أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يقل فيها شيئًا زائدًا على ما
كانوا يعلمونه من آية سورة آل عمران، ومن ربا الجاهلية وإبطاله صلى الله عليه
وسلم له، وهذا الربا هو الربا الذي يصدق عليه تعليل التحريم بقوله
تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: ٢٧٩)
والقاعدة أن المعرفة إذا أعيدت يكون المراد بالثاني عين الأول.
الفتوى الثانية
(قال) (الربا هو الفضل الخالي عن العوض في البيع) وذكر أن الفقهاء
زادوا فيه قيد (المشروط) وأنه لا حاجة إليه، واستدل عليه بحديث عبادة وبالآية
بناء على تفسير الحديث المذكور لها.
(أقول) هذا الحد غير مسلَّم؛ لأن ما بني عليه وجُعل دليلاً له غير مسلَّم
كما تقدم، وقد ذكر هو في رسالته كغيره حدودًا أخرى أعم منه حتى علماء الحنفية
أنفسهم لم يقيدوا فيها الربا بالبيع.
الفتوى الثالثة
قال: (النفع المشروط في القرض ليس هو ربا منصوصًا لعدم ثبوته من
القرآن ومن حديث صحيح) .
(أقول) لو كان يريد بكونه غير منصوص نص القرآن لسلَّمنا قوله؛ فإن ربا
القرآن خاص بربا النسيئة الذي تكون الزيادة فيه لأجل تأخير الدين، لا في العقد
الأول؛ فإن الزيادة فيه عوض مقابل للانتفاع بالمال، لا لأجل الإنساء وتأخير
القضاء؛ ولكنه يريد ما هو أعم منه، وقوله (ومن حديث صحيح) يعني به (ولا
من حديث صحيح) كما يعلم من القرائن (وهو على سعة فقهه غير دقيق في اللغة
العربية كما هو شأن علماء الأعاجم الذين يتعلمون العلوم الشرعية والفنون العربية
بترجمة كتبها ولا يدرسونها دراسة مستقلة) وقد بنى هذا على ما جزم به من أن
القرض غير الدين، كما أنه لا يدخل في معنى البيع الذي حصر الربا فيه، فهو
موافق لاصطلاح الفقه عندهم؛ ولكن القرض في اللغة العربية دين [*] ، والأصل
في الربا أن يكون في الديون سواء كان أصلها ثمن مبيع أو عينًا كما سنحققه، وآفة
العلم بالكتاب والسنة المانعة من الاستقلال في فهمهما تحكيم الاصطلاحات الفقهية
الحادثة وغيرها من الاصطلاحات في لغتهما العربية التي كان يفهمها أهلها منهما،
وحديث النهي عن بيع النقدين وأصول الأقوات إلا يدًا بيد مثلاً بمثل ليس تفسيرًا
لربا القرآن، ولا حصرًا للربا في البيع؛ وإنما هو لسد الذريعة لارتكاب ربا القرآن،
وإلا فهو لذاته ليس فيه من المفسدة ما يقتضي هذا الوعيد الشديد في آيات البقرة.
الفتوى الرابعة
(قال) النفع المشروط في القرض لما لم يثبت كونه ربا بالقرآن والحديث،
استُدل على كونه ربا تارة بالقياس وتارة بحديث (كل قرض جر منفعة فهو ربا)
وفي كليهما نظر، أما في الأول فلأنه قياس مع الفارق فلا يصح، وأما في الثاني
فلأنه غير صحيح بل هو ضعيف فغير صالح للاحتجاج، ولو سلم صحة القياس
ففيه أن الأحكام القياسية تقبل التغيير بتغير الأزمان كما هو ثابت في موضعه، ومن
كان له وقوف على حال هذا الزمان وخبرة بأهله فلا محيص له بدون (كذا) أن
يفتي بجوازه كما في الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها،
والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن السلف، ففيه أن التعامل مبني على القياس
لا على غيره من الأدلة، ومن ادعى فعليه البيان والله أعلم بالصواب اهـ.
(أقول) الظاهر أن هذه الفتوى هي المقصودة بالذات من وضع هذه الرسالة،
وخلاصتها أن النفع المشروط في القرض ليس من الربا المنصوص في القرآن،
ولا الثابت بحديث صحيح، ولا بقياس صحيح، وعلى فرض صحة القياس تجوز
مخالفته للضرورة أو الحاجة إليه في هذا الزمان، كما هو الشأن في الأحكام القياسية،
وقد أورد بعض أقوال الفقهاء على هذا في الحاشية، وهو اجتهاد في مسألة
اختلف فيها الفقهاء له وجه فقهي ظاهر، وحسبنا هذا بيانًا لرأينا في الفتوى،
وسنبين رأينا في أصل مسألة الربا في مقال خاص كما وعدنا، والله الموفق.
(رأينا في رسالة الفتوى من مراجعتها بعد الطبع أغلاطًا بعضها من الأصل
ولعل بعضها من الطبع، وسنبين ذلك في جدول مع أغلاط أخرى عثرنا عليها في
الأجزاء السابقة) .
((يتبع بمقال تالٍ))