للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار التاريخية

(الصدر الأعظم)
توفي الصدر الأعظم خليل رفعت باشا، وكان ليّن العريكة، ضعيف العزيمة
- أو كما قال المؤيد - لم تكن له إرادة مع إرادة مولاه السلطان، ونقول على كل
حال تغمده الله برحمته التي وسعت كل شيء.
وقد أقر مولانا السلطان الأعظم أيد الله دولته، وأنفذ بها شوكته، عيون الأمة
العثمانية إذ عهد بمنصب الصدارة العظمى إلى ابن بجدتها وأبي عذرها صاحب
الدولة والفخامة سعيد باشا الصدر الأسبق، فهو خير وزراء الدولة في هذا العصر،
وأكبر رجالها والأتراك يكنونه بأبي الأمة، وفقه الله تعالى لما فيه نجاح الدولة
العلية وترقية الأمة العثمانية، آمين.
***
(أمنية في إصلاح مراكش)
كنا تمنينا لو يستعين سلطان مراكش على إصلاح بلاده الإداري والحربي
بمولانا السلطان الأعظم، ولما اتصلت بنا الأخبار في هذه الأيام عن الاضطراب
في بلاد مراكش، وامتداد عنق فرنسا - بل يدها - إليها وقع في النفس فجأة أمنية لو
تحققت لكانت كافية في الإمداد والإسعاد، تمنينا لو يكون صاحب الدولة مختار باشا
الغازي هو الوزير الأول المفوض لسطان المغرب، فمن لنا بأن يعتقد ذلك السلطان
اعتقادنا، ويطلب هذا الرجل العظيم من أعظم سلاطين المسلمين.
***
(الاحتفال السنوي للجمعية الخيرية الإسلامية)
سيكون هذا الاحتفال في هذه السنة في ٢٥ شعبان، وهو أنفع الاحتفالات التي
تكون في مصر وأبهجها وأبدعها، والناس يقبلون عليه أكثر مما يقبلون على غيره
من الاحتفالات الأخرى، وهذا من دلائل الشعور بالمنافع العمومية الذي انبثَّ في
نفوس المصريين.
وإذا كان نجاح الأعمال الاجتماعية، والسعي في المصالح العمومية، هما
البرهانان على كمال الرجولية، فلا شك أنه لا يوجد عندنا برهان على رجولية أحد
إلا القائمين بأمر هذه الجمعية، وحظ كل مصري من الكمال بقدر مساعدته لهم
ومعاونته إياهم، والمساعدة على قدر الاستطاعة، وكل امرئ أعلم بمبلغ استطاعته
فلينظر في درجة كماله.
***
(امرأة خير من الرجال)
يصفون من تأخر البلاد ويذكرون من ضعف الأمة وتقهقرها والبلاء الذي
يخشى أن يفضي إلى الفناء؛ لأنه مثار كل شقاء، هو كون كل فرد منا لا يفكر إلا
في أمر نفسه، ومن هو كنفسه كزوجته وولده الصغير، وعدم الاهتمام بأمر الأمة
والعمل لمصلحة البلاد، وما أفضل الناس من ينقطع إلى طلب العلم ليعيش به، ولا
من ينقطع للعبادة ليُعَظَّم ويُكَرَّم في الدنيا وفي الآخرة، ولا من يسميهم الناس عظماء
وأمراء؛ وإنما أفضل الناس أنفعهم للناس؛ لأن الإنسان خلق اجتماعي فمن يخدم
الجماعة يكون أرقى في الإنسانية ممن لا يخدم إلا نفسه، بل ذلك هو الإنسان وما
سواه حيوان.
ومن البلاء أن من يوفق من أغنيائنا لبذل شيء من المال في المصالح العامة
يضعه في غير موضعه، فإما أن يبني مسجدًا حيث تكثر المساجد وتزيد على عدد
المصلين، فيكون كمسجد ضرار مفرقًا لا جامعًا، وإما أن يبني زاوية أو تكية تكون
مأوى للكسالى والبطالين، وإما أن يوقف عقارًا على عمل ضار يعده الجهلاء نافعًا
كبناء الأضرحة والقباب عليها، ومما حدث في هذه البلاد التي أنشأت تستنشق نسيم
الحياة الاجتماعية أن امرأة بَرَّة من ناحية المطيعة التابعة لأسيوط اسمها الحاجة
بخيتة بنت محمود، قد وقفت لأعمال خيرية بذلت فيها المال حيث ينبغي أن يبذل،
إذ بنت في بلدتها مسجدًا ومكتبًا لتعليم القرآن وعقائد الدين وأحكامه، ورتبت
النفقات الكافية لهما وللعلماء والمدرسين في مدينة أسيوط، وأوقفت عشرة أفدنة من
أطيانها على الجمعية الخيرية الإسلامية مساعدة لها على تعليم أولاد فقراء المسلمين
وإعانة الضعفاء والبائسين، وقد كتب إليها صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد
عبده مفتي الديار المصرية ورئيس الجمعية كتاب شكر هذا نصه:
(مصر: في ٢٢ جمادى الثانية سنة ١٣١٩ عدد ١٧١
حضرة السيدة بخيتة بنت محمود
بلغنا من حضرتي الفاضلين عبد الرحمن بك حسنين النميس وحسين بك
فهمي أن الله قد أرشدك إلى وقف عشرة أفدنة على الجمعية الخيرية الإسلامية
ليكتبها الله بك في سجل أعمالك الصالحة الباقية، فحمدنا الله تعالى على أن جعل
في بلادنا من النساء الخيِّرات من يسبقن الرجال في فضائل الأعمال، وإنا نشكره
جل شأنه على نعمته، ونشكرك على عملك الفاضل، وقد عرضت هذا العمل على
أعضاء الجمعية فكلفوني بأن أشكرك بالنيابة عنهم، كما شكرتك بالأصالة عن نفسي
وأسأل الله أن يكثر في المسلمين من أمثالك والسلام) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... التوقيع

من بَلَّغ المرأة الفاضلة كتاب الرئيس؟ ذهب صاحب السعادة أحمد باشا
حشمت مدير أسيوط إلى بلدها في طائفة من أهل الفضل والوجاهة في أسيوط،
منهم عبد الرحمن بك النميس، وحسين بك فهمي، والدكتور أحمد أفندي السعيد
طبيب مدرسة الجمعية الخيرية في أسيوط، والشيخ عبد الرحمن أحمد أحد أساتذتها
والخواجة دوس المطيعي، فتلقاهم أهل البلدة بالحفاوة، وساروا بهم إلى دار
المحسنة الفاضلة، فرحبت بهم أحسن ترحيب.
وابتدأ المدير بالثناء عليها، وفضلها على جميع نساء الوطن، وعلى كثير من
رجاله، ثم خطب صاحب العزة حسين بك فهمي خطبة نافعة بيَّن فيها للحاضرين
مكانة هذه المراة الفاضلة، وفضل عملها المبرور، وقد لقبها صاحب السعادة أحمد
حشمت باشا (بست البلد) وأمر الحاضرين بأن يطلقوه عليها، ثم انفضوا
مسرورين، ولنا أن نقول لأغنيائنا الأشحة.
ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال
***
(أمثلة لطفولية الأمة)
قلنا غير مرة أن أمتنا كالطفل في الحياة الاجتماعية، وأوضحنا هذا في
مقالتين نُشرتا في آخر المجلد الثاني من المنار، عنوان أحدهما (طفولية الأمة وما
فيها من الحيرة والغمة) وعنوان الثانية (الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة)
ومما نقوله كثيرًا بمناسبة ذكر التعليم الذي تحيا به الأمم: إن أمتنا لما تشرع في
التعليم الابتدائي؛ وإنما يصح أن يكون الزمان قد أعد جماعة منها إلى ما يسمونه
(القسم التحضيري) الذي استعد أو يستعد للتعلم الابتدائي في مدارس الاجتماع،
وإننا نذكر ههنا ثلاثة أمثلة على طفولية الأمة نلقنها لأهل هذا القسم التحضيري:
(المثال الأول شركة الاقتصاد الإسلامية)
لاشك أن الشركات من أكبر الدروس الاجتماعية العملية، وقد أراد جماعة من
القسم الذي نسميه تحضيريًّا أن يبتدءوا بدرس الشركات بعدما تعلموا العلوم العالية
في مدارس الحكومة، وبعضهم تعلم في أوربا وأخذوا الشهادات في اللغات وعلوم
الاقتصاد والحقوق وغيرهما، وكان منهم الموظفون والمحامون، فسنوا لهم قانونًا
وألَّفوا شركة وجعلوا لهم جمعية عمومية ومجلس إدارة، ثم جمعوا من السهام مبلغًا
من المال.
ماذا عملوا بعد ذلك؟ عملوا عمل العجائز والزمنى الذين لا يقدرون على
التصرف بأنفسهم إذ اشتروا ببعض المال سهامًا من بعض الشركات الأجنبية العاملة
كشركة الماء، وشركة الأسواق، ثم علم بعض المشتركين بأن أسعار السهام قد
نزلت بعد حرب الترانسفال، فطلب بعضهم ما دفعه فأخذه بعد إمساك الشركة ما
أصابه من الخسارة، وصبر الآخرون راجين أن يقوم مجلس الإدارة بعمل آخر
يربح ما يعوض الخسارة؛ ولكن المجلس حار ولم يدر ماذا يعمل، ثم دعا الجمعية
العمومية للمشاورة في حل الشركة، فحلوها على خسارة ثلاثين في المائة، فمن لم
يحضر فعليه أن يذهب إلى مكتب أمين الصندوق عزتلو محمد بك فريد المحامي،
ويأخذ ما بقي له.
وهذه العبرة لا تقضي علينا باليأس من الأعمال الاجتماعية؛ وإنما تقوي
الرجاء لأنه مر علينا زمن لا نفتكر فيه بهذه الأشياء حين كنا كالجنين، وقد ارتقينا
فصرنا كالطفل يحاول المشي، فيقع بين كل خطوة وأخرى، ولا بد أن يكون رجلاً
إن شاء الله تعالى.
(المثال الثاني مجلة الموسوعات)
سمعنا أن مجلة الموسوعات أُنشئت لمباراة مجلة المقتطف، وإغناء
المصريين والمسلمين عنها، وكان يكتب على ظهرها أنه يحررها لجنة من أعاظم
الكُتَّاب، ولا شك أن لجنة من أعاظم الكُتَّاب أقدر على الإفادة والإجادة من كاتب أو
كاتبين؛ ولكن المجلة سارت الخَوْزَلَى ثم القهقرى ثم عثرت فسقطت، وهذا لا
يصح أن يكون أيضًا مدعاة لليأس، فما هو إلا طفل تحرك بروح حية، ويرجى أن
يقوم ويمشي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
(المثال الثالث رجال الصحافة في مصر)
الجرائد مدارس اجتماعية وأصحابها وكتابها كمديري المدارس ونظارها
وأساتذتها، ونراهم على ذلك يتسابون ويتشاتمون ويتخاصمون ويتنازعون كالأطفال
لا كما يكون من اختلاف آراء الرجال، والعبرة الكبرى في الحادثة الأخيرة من
حوادثهم، وهي أن أصحاب الجرائد اليومية اقترحوا على الحكومة أن تأذن لهم
بإرسال مكاتبين يرافقون موكب سمو الخديوي في زيارته للسودان، وليكتبوا أخباره
لجرائدهم عن عيان، واحتجوا على الحكومة بأن هذا معهود في أوربا، فأرادت
الحكومة أن تُعَرِّفهم أنه لا فرق بينها وبين حكومات أوربا؛ وإنما الفرق العظيم
بينهم وبين أصحاب الجرائد في أوربا، فعهدت إلى أصحاب الجرائد العربية
بانتخاب واحد منهم ينوب عنهم، فاجتمعوا أولاً في إدارة جريدة المؤيد وارتأوا أن
يدعوا جميع أصحاب الجرائد الأسبوعية لمشاركتهم، فدعوهم واجتمع من حضر في
إدارة جريدة الأهرام، فاقترح بعضهم أن يكون المنتخَب من أصحاب الجرائد
الأسبوعية، فتنازعوا واختصموا، وخرج البعض مغضبًا، ثم اجتمعوا في إدارة
المقطم فكانوا أكثر خصامًا ونزاعًا وخلابة وخداعًا، ثم انقسموا إلى طائفتين خرجت
طائفة من المجلس، ومنها جميع المسلمين وصاحب جريدة مصر القبطية، ومدير
جريدة الرائد المصري السوري، وأما الذين بقوا في المقطم فهم سوريون إلا
صاحب جريدة الوطن فهو قبطي؛ وإنما ذكرنا أجناسهم ومللهم؛ لأن لذلك دخلاً في
النزاع والاختلاف، ثم انتخبت كل طائفة مندوبًا من أصحاب الجرائد الأسبوعية،
وعرضوا الانتخابين على نظارة الداخلية، فأرسلته إلى حكومة السودان أو للحربية
لأجل الترجيح، ثم استقال كل من المنتخبين، واختارا محرر جريدة أسبوعية
أخرى، فأجاز ذلك منتخبوهما، وبذلك انحسم النزاع.