للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدرسة الجمعية الخيريةفي المحلة الكبرى

الاحتفال بافتتاحها والغرض من تعليمها
ذكرنا في الجزء الخامس من هذه السنة خبر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة ,
وقد تم ولله الحمد بناؤها , وأهلت بالتلامذة , وانتظمت عقود الدروس فيها ,
واحتفل بافتتاحها رسميًّا أول أمس بحضور رئيس الجمعية الأستاذ الإمام وإبراهيم
بك الهلباوي من أعضاء مجلس إدارتها , ومنشئ هذه المجلة من أعضاء الجمعية،
وحضور وجهاء المجلة وعمال الحكومة فيها. وبدئ الاحتفال بتلاوة أحد التلامذة
لآيات من الكتاب العزيز، ثم وقف الرئيس فبسمل وحمد الله تعالى وصلى وسلم على
رسوله , وشكر للحاضرين عنايتهم بحضور الاحتفال الدالة على رغبتهم في نشر
العلم ومساعدة الجمعية الخيرية على عملها، وذكر الغرض من هذا التعليم الابتدائي
فقال ما خلاصته:
المدرسة تعلم المبتدئين القراءة والخط والحساب ومبادئ العربية , وتربيهم
على الأعمال الدينية والأدبية تعدهم بذلك للعيشة الصالحة في أنفسهم ومع الناس
الذين يعيشون معهم، وهذه المبادئ لا يستغني عنها إنسان فقيرًا كان أو غنيًّا ,
فالفلاح يحتاج إلى مكاتبة بعض الناس، فإذا كتب بيده أو قرأ ما يكتب إليه حسب
ما يبيعه ويشتريه بنفسه فهو خير له من الاستعانة بغيره على ذلك، ولهذا التعليم
فائدة أعلى من الاستعانة على المعيشة، وهى ارتقاء العقل واستعداده لفهم المصلحة
وتمييزها عن المفسدة , فإننا نرى كثيرًا من الناس يقع التنازع بينهم فيعتدي بعضهم
على بعض حتى تفنى ثروة الفريقين في التنازع، وإذا حاولت إقناعهم بأن هذا
ضار، وأن الخير والصواب في خلافه لا يسهل عليك ذلك لأنهم لا يفهمون. وأهم
ما تقصده الجمعية من التربية في مدارسها تنشئة المتعلمين على الفضائل كالصدق
والأمانة للذين عليهما مدار السعادة، ما نجحت أمة إلا بهما ولا هلكت إلا بفقدهما،
وقد حث الإسلام وجميع الأديان على هذين الخلقين , ونهى عن الكذب والخيانة أشد
النهي، وإننا مع ذلك نرى الكذب والخيانة فاشيين في الناس إلى حد سلبت معه ثقة
الناس بعضهم ببعض، وفقد الثقة مؤذن بالخراب والدمار. هذا التعليم سلم يرتقي
عنه الغني إلى التعليم العالي، ويجعل الفقير على مقربة من الغني في الفكر والخلق،
فإما أن يجد فيلحقه، وإما أن يحسن الاستفادة منه بخدمته ومساعدته في أعماله
بالصدق والأمانة، فهذا التعليم لا يستغني عنه أحد حتى الحمّار والجمّال.
وتعلم المدرسة أيضًا مبادئ العلوم ولغة أجنبية لإعداد من يريد خدمة
الحكومة لها. وهذا ما لا ترغب فيه الجمعية نفسها، لكنه من حاجة الناس , وإنما
رغبتها في الاستعانة به على تعلم الصناعة لمن يريدها، ولها الرجاء بهمة وجهاء
المحلة، وأهل الغيرة في أغنيائها في تأسيس قسم صناعي في هذه المدرسة , فإن
المحلة بلدة كانت معروفة بالصناعة، وقد وعد صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي
بأنه مستعد لمساعدة الجمعية على إنشاء القسم الصناعي، فلم يبق إلا اهتمام الوجهاء
الحاضرين بالاكتتاب في جميع المركز، وجمع المال الذي يُمكن من إتمام العمل.
وقال: قد علمت بأن أهل المحلة الكبرى ثلاثون ألفًا أو يزيدون، وهي قاعدة
مركز عدده كثير , وليس فيها إلا مدرسة للقبط , وأخرى للأمريكان , وإنني قد
رأيت في بعض سياحاتي في البلاد الأجنبية مدينة عدد سكانها ستة عشر ألف نسمة ,
وقد أنشأ الأهالي فيها مدرسة كلية تعلم فيها جميع العلوم العالية بمساعدة أهل
المركز الذي هي قاعدته أنفقوا عليها كذا من ملايين الفرنكات (نسيت العدد) على
أن فيها عدة مدارس ابتدائية، وفي كل قرية من قرى ذلك المركز مدرسة ابتدائية ,
فنرجو أن نبلغ من مجاراة أمثال هؤلاء الأحياء أن ترتقي مدرستنا هذه ويكون فيها
قسم صناعي , وأن يكون لنا في القاهرة مدرسة كلية فإن القطر المصري كله لم
يبلغ من التقدم في العلم أن كانت فيه مدرسة كلية تعلم فيها العلوم العالية.
ثم دعي كاتب هذه السطور إلى أن يخطب فيهم فلبى وقام فقال - بعد الافتتاح
بذكر الله -: رغبتم إليّ في الكلام، بعدما سمعتم من حِكَم الأستاذ الأمام، وإن مثل
الذي يعرض ما عنده من ذلك في حضرة الأستاذ إذا هو أحسن كمثل ذلك الوزير
العجمي في الآستانة، إذ كانت له منطقة مرصعة بالجواهر يتمنطق بها فوق ثيابه
يتراءى أمام الناس ويفتخر , فعلم السلطان بذلك فأمر بعض وزرائه , ويقال إنه
مصطفى فاضل باشا المصري بأن يدعوه إلى داره , ويريه ما يصغر منطقته في
عينه , فدعاه إلى العشاء والسمر فرأى من الآنية والماعون والأثاث المرصعة
بالجواهر ما خطف بصره حتى قيل إنه رأى الشباشب (كلمة مصرية مفردها
شبشب وهو الكوث أو القفش في العربية) وسيور القبقاب في المرحاض مرصعة
بالجواهر , فصار بعد ذلك يخفي منطقته تحت كسائه، ولكننا نقول شيئًا تلبية
للطلب:
جرت العادة بأن يكون الكلام في مقام الاحتفال بافتتاح مدرسة محصورًا في
مدح العلم والتعليم على أن العلم غني عن المدح باتفاق الناس على فضله، فلا يوجد
جاهل ينكر شرف العلم وشدة الحاجة إليه، ولكن الناس في أمتنا كانوا يعتقدون أن
العلم محصور في أمور مخصوصة يكفي أن يقوم بها بعض الناس فيسقط الطلب
عن الآخرين، وكان يصعب إقناع الجمهور بوجوب تعميم العلم، وبأنه يحتاج إليه
في كل شيء , ولكن قد تغيرت الآن الأحوال في هذه البلاد، وصرنا نرى جميع
طبقات الناس حتى الطهاة (الطابخين) يقذفون أولادهم ذكرانًا وإناثًا في المدارس
لإحساسهم بأن التعليم لابد منه , ولكن هذا الإحساس عند الأكثرين مبهم لا يعرفون
حقيقته ولا سببه ولا فائدة التعليم الحقيقية.
والسبب الحقيقي فيه التأثر بحال الأجانب الذين انتشروا في هذه البلاد , فهو
سبب من الخارج لا من النفس , فهذه البلاد الآن في طور الانقلاب من حال إلى
حال؛ إذ حدثت فيها مجارٍ جديدة للحياة، أو تيارات تجرف في طريقها الناس من
حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، ومنها تيار تعميم التعليم , فالناس يرغبون
في تعليم أولادهم وهم لا يدرون ماذا يتعلمون، ولا ما هي فائدة التعلم، ولذلك لا
يميزون بين مدرسة وأخرى. وقد سألت بعض المتعلمين التعليم الثاني في المدرسة
الخديوية عن رأي التلامذة في فائدة التعليم مع العلم بأن أعمال الحكومة لا تفي
بجميع المتعلمين , فقال أنهم يرون أن المتعلم يقدر على أعمال شريفة يستغني بها لا
يقدر عليها غيره. فقلت له: إن الذي يتعلم ليعيش بعلمه لا غرض له إلا نفسه،
فهو محترف كالصانع والزارع، وقد رأينا كثيرًا من العوام حصلوا من الثروة
بالزراعة والتجارة ما لم يقاربهم فيه متعلم كزعزوع بك وفلان وفلان. والذين
ارتقوا بالتعلم في مصر قليلون كفلان وفلان من القضاة وغيرهم , ولم نجد فيهم من
حصل بعلمه ثروة كبيرة كأولئك العامة , فالتعليم في مصر لم يرتق إلى درجة يسهل
معها تحصيل الثروة الواسعة , على أن نفقات المتعلمين تكون أكثر , فإذا طلبوا
الثروة ولم يجدوها كانوا أشقى من غيرهم في المعيشة. فقال: هذا صحيح. ثم
قلت له: ألا يوجد في إخوانك المتعلمين من يفكر في التوسل بالعلم إلى خدمة أمته
وبلاده خدمة عامة , فيكون أفضل من النجار والحداد والفلاح الذين لا يعملون إلا
لأجل بطونهم، وإن كان عملهم الجزئي نافعًا للناس؟ فقال: يوجد قليل منهم يفكر
في إنشاء جريدة لخدمة الوطن. قلت: وماذا رأوا من خدمة الجرائد للناس؟ أي
شيء ضار كانت عليه الأمة فتحولت عنه بإرشاد الجرائد , وأي شيء نافع كانت
منصرفة عنه فتوجهت إليه بحثها وترغيبها؟ وهل تعرف أنت للجريدة الفلانية
والجريدة الفلانية مذهبًا ورأيًا نافعًا تمتاز بالدعوة إليه لترقية البلاد؟ فقال: لا ,
وكان قصارى الحديث معه أنه ليس لأحد غاية مقصودة من التعلم وراء خدمة
الحكومة (أقول: ويلحق بها الطب والمحاماة عند نفر قليل) .
لهذا التعليم الناقص في مصر سيئات ومضار , فإن الفتن والمعاصي الضارة
التي ألمت بالبلاد بواسطة الأجانب لم تنتشر فيها إلا بسعي هؤلاء المتعلمين، وقد
قال الأستاذ الأمام: إن من مقاصد المدارس إفادة المتعلمين الصدق والأمانة , فسلوه
وسلوا غيره من العقلاء المختبرين: ألهم ثقة بصدق أكثر المتعلمين وأمانتهم؟
يجيبوك: لا لا. والسبب في عدم إفادة التعليم أمثال هذه الصفات هو أن القائمين
بأمر التعليم لا يقصدون ذلك , فإن الحكومة إنما تقصد بمدارسها إيجاد خدم لها
يقدرون على أعمال مخصوصة , وليس لها عناية بتربية الأرواح وترقية الأمة ,
هذا وإن مدارس الحكومة خير المدارس وأرقاها تعليمًا ونظامًا. وأما المدارس
الأهلية فالمقصود منها التجارة والكسب، وأكثر أصحابها لا يعرفون طريق الجمع
بين الإفادة المطلوبة والاستفادة، وقد دخلت مرة إحدى هذه المدارس وسألت أحد
المدرسين عن الكتب التي يقرأها في الدين - والدين كما لا يخفى أساس التهذيب -
فقال: إنني كنت بدأت بقراءة شيء من السيرة النبوية , وبمناسبة ذكر المعراج
ذكرت لهم فرضية الصلاة، وأردت أن أذكر شيئًا من أحكامها، فرأيت على وجوه
التلامذة ما يدل على عدم الارتياح، فتركت درس الدين , يعني أن هؤلاء لا يعلمون
إلا ما ترتاح إليه نفوس التلامذة وتتلذذ به , أي يريدون أن يكون التلامذة هم نظار
المدارس.
ولا نعرف في البلاد مدارس غرضها تهذيب النفوس غير مدارس الجمعية
الخيرية، وذلك أن رئيس هذه الجمعية ومساعديه في إدارتها هم خيرة رجال هذه
البلاد معرفة وغيْرةً، وأقدرهم على إيجاد التعليم النافع والتربية الصحيحة، ولا
تنتج الأمم الضعيفة أمثالهم إلا بعد مخض الزمان لها في قرون طويلة، فيجب أن
تُغتنم فرصة وجودهم بمساعدة الجمعية على نشر التعليم والتربية على الوجه
الصحيح النافع، فإنه ما قصر بها إلا قلة المال. وقد أحسن وجهاء المحلة صنعًا
بتفويض أمر مدرستهم إلى الجمعية , وإنني أدعو كل واحد من السامعين إلى
مساعدة هذه الجمعية بنفسه، وبدعوة غيره إلى ذلك , فإن الأمور العامة لا تحيا
وتبلغ كمالها إلا بالدعوة، فينبغي لكل واحد أن يدعو نفسه , وكل من يظن فيه
الخير إلى مساعدتها على قدر الاستطاعة من غير تفرقة بين غني وفقير , فإن الله
تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} (الطلاق: ٧) أي من كان رزقه ضيقًا فلينفق بقدر
حاله. والقليل من الكثير كثير، فلو أن كل واحد من أهالي القطر بذل للجمعية
قرشًا واحدًا في السنة لكان لها من ذلك ملايين تمكنها من تعميم التعليم في القطر.
وليعلم كل من يبذل شيئًا للجمعية ولو قليلاً أنه شريك في الأجر وفي الشرف
لمن بذل الكثير من حيث أن كل واحد بذل ما في وسعه. ومن حيث أن العمل العام
لم يقم ولا يقوم به واحد , وإنما بالتعاون والمساعدة , وباذل القليل ركن من أركان
التعاون.
ثم دعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي فقام وذكر ملخص تاريخ هذه
الجمعية، وبَيَّن أنها جمعية عمل لا جمعية قول، وأنه أحس من نفسه بالعجز عن
الخطابة في احتفال مدرسة للجمعية على تمرنه على الخطابة.
قال: إنني دخلت في هذه الجمعية في أول تأسيسها منذ اثنتي عشرة سنة،
ولم أخطب فيها قط، وقد عرضت مناسبات للخطابة فكنت أستأذن مولانا الرئيس
بالتلويح , ووكيل الجمعية وبعض أعضاء الإدارة بالتصريح , فكانوا يضعون
أصابعهم على أفواههم إشارة إلى وجوب السكوت، وقد قامت في هذه المدة جمعيات
قولية كثيرة فذهب بها ودرس رسومها القول والخطابة على أنها لم تصادف من
المقاومة ما لقيت الجمعية الخيرية الإسلامية، وذكر أسماء هذه الجمعيات التي كانت
محترمة في أوقات كان فيها ذكر الجمعية الخيرية مخيفًا ومزدرى به، حتى كان
الداعي إلى مساعدتها لا يتوقع إلا الخيبة، وحتى إن بعض الباشوات هدد محصلها
مرة بالضرب بعد أن أهانه بالقول.
وقد ثبت رجالها مع هذه الصعوبات على عملهم ليثبتوا للناس أن الساعي
بالخير مع الصدق والإخلاص لابد أن يظفر بالنجاح إذا هو ثبت وصبر ووكذلك
كان. ونالت هذه الجمعية الثقة في نفوس الناس بعدما تولى رئاستها مولانا الرئيس
الحاضر , حتى أحس كثير من العقلاء بوجوب كفالتها للمدارس الأهلية التي ينشئها
الأهالي لتربية أولادهم، وكان السابق لذلك وجهاء المنيا فقد أنشأوا مدرسة في بني
مزار وعهدوا بإدارتها إلى الجمعية رجاء بقائها وثباتها والانتفاع بتعليمها، وكذلك
فعلتم يا وجهاء أهل المحلة , فإنكم طلبتم من الجمعية أن تدير لكم هذه المدرسة التي
أنشأتموها بأموالكم لمثل ذلك الغرض بمحض الإحساس بالثقة بالجمعية.
وبعدما أتم خطابه المفيد خُتم الاحتفال كما بدئ بتلاوة القرآن الكريم , ولا صحة
لما ذكر في المؤيد أمس من أن بعض المدعوين تصدوا للخطابة فمنعهم مأمور المركز
... إلخ. فنثني على وجهاء المحلة أطيب الثناء. ونرجو لهم كمال الارتقاء.
(إرجاء وعد)
وعدنا في الجزء الماضي بأن نكتب في هذا الجزء مقالاً في طريق تعلم النابتة
المصرية , والروح الذي تحيا به الأمم، وقد حال دون ذلك ما عرض من الكلام في
احتفال مدرسة المحلة. وفي خطبتنا فيه شيء من الموضوع الموعود به, وسنعود
إليه في جزء آخر إن شاء الله تعالى.