للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


العرب في إيطالية في القرون الوسطى

حضرة الأستاذ العلامة حجة الإسلام مفتي الأنام السيد محمد رشيد رضا أيده
الله ونفع به.
جوابًا على ملاحظتكم بشأن ما ذكرته في رسالة (العرب في سويسرة في
القرون الوسطى) من كون العرب اكتسحوا رومة، وقولكم: أحقيقة أراد الكاتب
بهذا أو مجازًا؛ لأن العرب لم يقتحموا رومة ولا سلبوها؟ أقول:
ورد في التواريخ أن العرب صعدوا إلى رومة من مصب نهر التيبر واجتاحوا
البلدة وأخذوا من كنيسة مار بطرس تابوتًا من فضة ولكنهم لم يستقروا برومة، ثم
إن العرب كانوا يختلفون إلى ضواحي رومة ويشنون الغارات فيها وفي إحدى
المرار اجتمع عليهم الأهالي فهزموهم فخلص منهم فئة إلى البحر وفئة استؤصلت
بالسيف وفئة من بقايا السيوف لاذت بمكان منيع هناك وناضلت عن نفسها وبقيت
تحمي نفسها إلى أن وقع الصلح بينها وبين أهل البلاد؛ ولأسباب مجهولة عندنا
تفاصيلها تركوا توطن تلك الأرض، فالآن على مسافة ٤٠ كيلو متر من رومة قرية
اسمها (سارازينسكو) Sarrasinesco من اسمها يعرف أن أهلها أصلاً مسلمون
لأن (سارازينو) معناه مسلم كما لا يخفى، وليس الدليل على كون أهل هذه القرية
عربًا هو الاسم فقط بل حدثني الكونت كولالتو صاحب جريدة رومة الإيطالية التي
تصدر بالقاهرة وهو من جلة أدباء الطليان وفحول الكتاب أن أهالي قرية
سارازينسكو هم إلى يومنا هذا حافظون عاداتهم العربية ومآكلهم العربية ولا يزالون
يعزفون بآلات الطرب العربية مما لا يوجد عند قوم سواهم في إيطالية وإن سحناتهم
إلى هذا اليوم سحنات العرب لا يتمارى في ذلك من رآهم.
ويوجد آثار للعرب فيما عدا رومة من بر العدوة الإيطالية، مثلاً بلدة لوشيرة
بين نابلي وكالابرة، كان فيها الملك فريدريك هوشتافن الألماني في نحو السنة الألف
والمائتين والخمسين للميلاد، وكان عنده عسكر من العرب نحو ٢٠ ألفًا وآثار
مساكنهم لا تزال إلى هذه الساعة.
وغير خَافٍ أنني أنا لم أقل: إن العرب افتتحوا رومة ولا استولوا عليها بل
إنهم اكتسحوها، ومما يؤيد صحة هذه الروايات أنهم كانوا لرومة جيرانًا مكاسرين
بوجودهم بصقلية من جهة وبصردانية من أخرى ثم بنزولهم بجهات جنوى على ما
ذكرت في رسالة (العرب في سويسرة) .
وإنني أضيف إلى ما ذكرت في تلك الرسالة شيئًا اطلعت عليه في (صان
ريمو) مؤخرًا وهو أنني قرأت في دليل تلك المدينة البديعة التي هي اليوم من أبهى
مشاتِي أوروبا أن العرب استولوا عليها في القرن العاشر (للميلاد) ولا عجب فإن
صان ريمو هي على مقربة من فراكسيناتوم التي هي أول بلدة نزل العرب بها في
أوائل القرن العاشر حسبما تقدم في رسالتنا.
ومما علمته مؤخرًا من آثار العرب بإيطالية أن في بلاد اسمها كالياري
Cagliari في صردانية قرى كل من رأى أهلها وخالطهم علم أنهم عرب ونساؤهم
لا يختلطن بالرجال في مجامعهم، ولا يخرجن إلا متنقبات إلى هذا اليوم! سمعته من
ضابط إيطالي من أركان الحرب الكبار كان أقام مدة بتلك الديار، ومَن بَحَثَ وجد
للعرب في أوروبا آثارًا أكثر جدًّا مما روى المؤرخون.
لوزان ١٢ مايو سنة ١٩٢٣ ... ... ... ... شكيب أرسلان
(المنار) قد أجاد أمير الكُتَّاب وثبت التاريخ فيما أفاد، ولما يظهر لي منه
وجه التعبير عن ذلك بالاكتساح.