للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القول الفصل
محاورة في سعادة الأمة [١]

نظر بعض أصحاب الأفكار الصافية، والعقول النيرة في كتب التاريخ نظر
التأمل والاعتبار، ووقف على شيء من أحوال الأمم في أطوارها وأدوارها، من
بداوة وحضارة، وهمجية ومدنية، وقوة وضعف، وصعود وهبوط، وغلبة
وانغلاب، ونحو هذا من الصفات المتقابلة، والشؤون المختلفة، فحدا بهمته النظر
بعين البصيرة إلى طلب النظر بعين البصر، والسير في الأرض لمشاهدة آثار
العالمين، وتطبيق ما يرى على ما علم، فضرب في الأرض شرقاً وغربًا، وخالط
الأمم عجمًا وعربًا، واكتنه الأخلاق، واختبر العادات، وشاهد سير العلوم والفنون،
ووقف على أمهات الصنائع والأعمال، وسبر قوى العقول والأفكار، ثم شرع في
المقابلة والتنظير، فتجلى له أن الاستعداد الفطري والقوى الطبيعية في تلك الأمم
واحدة وأن اختلاف الحالات لم يأتِ من اختلاف المدارك، والتفاوت في الاستعداد
وإن انتهى إلى درجة يكاد يلتحق بها فريق بالعجماوات، ويخرج من عداد الإنسان،
ويرتقي بها فريق آخر عن النوعية الآدمية إلى مصاف الملائكة وإنما جاء من أمور
عارضة وظروف خارجية. وأعمل فكره في معرفة مناشئ هذه العوارض، وعلل
هاته الطوارئ، وارتقى في الأسباب الكثيرة، وتبصر في تأثيرها، فعرف كيف
يمكن اتقاء العوارض المضرة، وإزالة الطوارئ التي دفعت في صدور بعض الأمم
فأخرتها، وأمسكت بحجزاتها عن التقدم الذي يرشدها إليه الإلهام الإلهي، والقوى
القدسية التي منحها الله للإنسان. ثم رجع هذا العاقل إلى وطنه وقد أوتي الحكمة
وفصل الخطاب، وصار من أطباء النفوس القادرين على مداواة أمراض أمته،
وعجب لإغفال الجماهير من قومه هذا النظر وهذه السياحة، حتى كأنهم عميان،
وصار يردد في نفسه هذه النصوص {أَفَلَمْ يَنظُرُوا} (ق: ٦) {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} (الأعراف: ١٨٤) ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) ثم وجه عنايته لتنبيه قومه على ما استفاد في سياحته {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: ١١٣) .
ولما أن جاء البشير القوم للسلام عليه سألوه عن رحلته من حيث سهولة السفر
ومشقته وما كان طعامه وشرابه فيه، وعن منتزهات البلاد التي زارها، فعذلهم
بلطف على هذه الأسئلة، واعتذر لهم عن نسيانه لهذه الأمور، وطفق يحدثهم عن معارف البلاد لا عن معازفها، وعن مصانعها لا عن مراقصها، وأطال في الكلام
عن الأمم المتمدنة وعما رأى فيها من موارد الراحة السائغة وبرود النعمة السابغة
حتى أدهشهم، وكان يتكلم عن انفعال وتأثر، ويشوب كلامه بالتأوه والتحسر،
فأثرت حالته في نفوسهم، وحركت منها كوامن الغيرة، وأحب فريق منهم أن يبحث
معه في سعادة الأمم وشقائها، وشدتها ورخائها، وهبوطها وارتقائها، فاعترضه
آخرون قائلين: إن الكلام في هذا الموضوع يتعب البال، ويزعج الخاطر، وهو عبث لا يفيد شيئًا، فإن الأمر كله لله وليس لإرادة الناس أثر في أعمالهم، ولا
لأعمالهم أثر في منافعهم، بل ليس لهم إرادة أيضًا، بل هم في الحقيقة كالريش في
الفضاء تصرفه رياح الأقدار المتناوحة وتتلاعب به، ولا إرادة ولا اختيار، نستغفر
الله، لا ننكر الاختيار فإنه مذهب أهل السنة، ولكن الحقيقة ما قاله بعض المحققين:
(سُني في الظاهر جَبري في الباطن) فأجابهم أولئك قائلين: إنكم تؤمنون بلفظ
الاختيار دون معناه وكأنكم ترون أن حركة اللسان بلفظ الاختيار هي الفصل الذي
يخرجكم من عداد طائفة الجبرية الذين اتفق أساطين علماء الملة على فسوقهم من
الاعتقاد الحق، ونبذهم بلقب الابتداع في الدين.
أما علمتم أن الألفاظ لا تدخل في ماهية العقائد وحقيقة المذاهب وأن الخلاف
في إطلاق اللفظ على معنى متفق عليه يرجع إلى الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.
أتزعمون أنه لا واسطة بين الجبر والقدر، وأن الذين يسمون أهل السنة هم جبرية
في الحقيقة، لكنهم لما عجزوا عن الجواب على ما يستلزمه هذا المذهب من تخطئة
تشريع الشرائع وإنزال الكتب تستروا بلفظ الكسب والاختيار {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا
لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: ١١) . حاشاهم حاشاهم، ونستغفر الله من هذا الضلال
البعيد.
فأجابهم السائح العاقل: على رسلكم، فما هؤلاء بجبرية ولا سنية ولا قدرية،
ولكن عموم الجهل جعلهم {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: ١٤٣) وإنني رأيت الكثير من أمثالهم في سياحتي في البلاد الإسلامية.
كنت إذا ذاكرت المصري مثلاً في أمر يتعلق بمصلحة وطنية يتوكأ على عكاز الجبر
ويقول: (هو بيدنا إيه) وإذا كلمت سوريًّا في مثل ذلك يستند على هذه العصا أيضًا
ويقول: (شو طالع باليد) وربما أردفوها على سبيل الاحتجاج بهذا النص الشريف
{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم: ٥٨) .
كلمة حق أريد بها باطل، وتمسُّكهم بها عَرَض زائل، أرأيت إن ألمت ملمة
بشؤونهم الخاصة كيف يجتهدون بتلافيها بما يستطيعون من الأسباب، بل ويتعدون
الأسباب الطبيعية إلى ما ليس بسبب أصلاً ويتخذون الوسائل الوهمية التي يأباها
الشرع وينبذها العقل، كالاستعاذة بالعوامل غير المنظورة من الجن والشياطين،
والاستعانة بالأموات من العلماء والصلحاء، يخاطبون هؤلاء لدى أجداثهم
ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ وتقديم هدايا الفواتح، ويستنفرون أولئك
بالعزائم والطلاسم وإحراق البخور في المجامر، ويستنبئون عن حقيقة الأمور
بخطوط الرمل أو الطرق بالحصا وحبوب الفول، ويتعرفونها من الدجاجلة
والعرافين.
فتبين لكم كيف أن هؤلاء الحمقى قد جمعوا بين المذاهب المبتدعة على تضادها
وتباينها، وتخطوا أوساط الأمور إلى طرفي الإفراط والتفريط، فهم جبرية بإزاء
المصالح العامة، وقدرية تلقاء منافعهم الخاصة.
وقد نظرت في التاريخ سير العلوم واختبرت حالتها اليوم فرأيت العلماء
الباحثين في مسائل الجبر والقدر والكسب قصروا أنظارهم على مفهومات هذه
الألفاظ، وتفلسفوا فيها، ولم يلتفتوا إلى ما تحدث هذه العقائد في الإرادة من الآثار،
وما يتبع تلك الآثار من الأعمال، وما ينشأ عن تلك الأعمال من ضعف أو قوة،
فينبهوا الأمة عليه.
ألّفوا فيها المتون والشروح، وعلقوا عليها الحواشي والتقارير، فما زادت
الأمةَ تآليفُهُمْ إلا حيرة وإشكالاً، وكانوا كجواب المجاهيل يغذ أحدهم السير سحابة
نهاره وعامة ليله ثم لا يدري هل أراد بسيره قربًا أو بعدًا (سيفرد المنار مقالة
مخصوصة لهذه المسألة) .
وأما الذين لم يبلغ الجهل منهم مبلغ إنكار الوجدان والقول بالجبر الصراح،
فهم يعلمون أن الأخذ بالأسباب عملاً واعتقاد ارتباطها بالمسببات بحيث لا تتخلف
عنها إذا تمت شروطها، ولا تحصل إلا معها هو الحق، وأن انكشاف الخطوب على
أيدي الآخذين بأسبابها التي سنها الله تعالى لها لا يقتضي أنهم عاندوا الإرادة الإلهية
وكانوا هم الكاشفين لها من دون الله تعالى.
فخجل المحتجون بالجبر عند هذا البيان، واتفق القوم كلهم على البحث مع
السائح العاقل في شؤون ترقية أمتهم، وعن الأسباب التي ينبغي الأخذ بها للحصول
على هذه الأمنية الشريفة. وأجمعوا على أن يكون البحث على طريق السؤال
والجواب؛ لأنه أدعى إلى إلقاء السمع وتوجيه الفكر، وأقرب إلى التنبه والتبصر
وأن يكون السائح هو السائل؛ لأنه أعلم بحاج الأمم؛ لما أفاده العلم والاختبار، ثم
إذا اختلفوا في الأجوبة يحكمونه فيما شجر بينهم، ويكون بقوله العمل وعليه الفتوى.
فقال: إنني ملقٍ عليكم مسائل متعددة في مواضيع مختلفة، وكلها تتعلق بسعادة
الأمم، وأطلب عليها كلها جوابًا واحدًا يؤدى بكلمة واحدة. فقالوا له: يشبه أن يكون
كلامك هذا من الألغاز والأحاجي فكيف السبيل إلى حل معماه، وكشف مخباه،
وكيف يكون الجواب عن الأسئلة في المواضيع المختلفة واحدًا {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ} (ص: ٥) .
فقال: لا عجب، فإن كل كثرة لا بد أن تجمعها جهة وحدة، فكما أن الوحدة
التي نسميها سعادة الأمة لا تحصل إلا بأمور كثيرة ترجع إلى شيء واحد وهو
(سعادة الأمة) ، كذلك وسائل هذه الأمور الكثيرة التي منها تستمد مسائلي تئول إلى
شيء واحد. (وسيلة ترجع إليها جميع الوسائل، وسبب يجمع كل الأسباب) وهو
الجواب الذي سأشرحه لكم، ثم أنشأ يسرد الأسئلة فقال:
(س) ما هو الناموس الذي يحصل به الجذب والانجذاب بين العناصر
المتفرقة، ويحكم الالتصاق بين أفرادها فيكوِّن المجموع أمة واحدة، وبماذا
توجد الرابطة التي تجعل مدار هذا المجموع على محور واحد؟
(س) أي شيء يمحو من نفوس أفراد الأمة الأثرة والاختصاص بالمنافع
دون قومهم، ويثبت فيها حب الوطنية والجامعة الجنسية، بحيث يرى كل واحد أن
منفعته في منفعة أمته ومضرتها عين مضرته، بل ما هي الروح التي تنفخ في
آحادها، فتحيا بعد مماتها، وتجتمع بعد شتاتها، وتكون جسدًا واحدًا إذا اشتكى له
عضو تداعى له سائر الجسد، فإنني أرى هذا الروح هو المدبر لبعض الأمم، وكأنه
فقد من أمتنا بالكلية فانتثر عقد اجتماعهم، وانحل تركيب بنيتهم، وتفرقت كلمتهم،
ورُزِئُوا بالتخاصم والتنازع، والتباغض والتحاسد، وأصبحوا و {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ
شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر:١٤) ،
وأَنَّى يفقهون معنى هذه الحياة الجنسية، وسر هاته الجامعة الوطنية، وكيف
تحصل لهم، وبماذا توجد فيهم، وأنَّى يجتمعون في صعيد واحد مع اختلاف
منابتهم وتقطع وشائجهم؟
(س) إذا اعتقدت الأمة بأفرادها انحطاط المدارك وضعف العقول وعدم
الاستعداد الفطري لاحتذاء الأمم الأخرى فيما جاءت به من عجائب الصناعات، وما
استنبطته من دقائق العلوم والفنون؛ لأنها شاهدت الآثار التي انتهت إليها وهي في
غيبة عن مبدئها، وكيفية نموها، فأنى يكون تنبيهها إلى ما أودع فيها من
القوى الطبيعية والقدر الوهبية الكامنة في أرواحها، ككمون النار في الحَجَر أن
قَدَحْته أورَى، وإن تركته توارى، وإنه ليس عليهم في إبراز آثار هذه
القوى إلا استعمالها فيما خلقت كما استعملها الآخرون؟
(س) إذا تمكن في النفوس اليأس من التقدم، والقنوط من الترقي؛ لاعتقاد
أن زمن التدارك قد فات، وأنه لا يمكن مجاراة المتخلف لمن بلغ الغاية، وإن كان
الاستعداد واحدًا، فغلت لذلك الأيدي عن العمل، كأنما هي مشلولة، ووقفت الأرجل
عن السعي حتى كأنها مقطورة. (أي محبوسة في المقطرة، وهي خشبة
مثقوبة توضع فيها أرجل المحبوسين) ، فبماذا تنزع الأغلال، وتكسر المقاطر،
وتنعم تلك النفوس بحلاوة الرجاء بعد مرارة اليأس، وتندفع اندفاع الجياد القرّح
إلى طلب المجد المؤثل الذي تطلبه بحق وتجري فيه على عرق؟
(س) إذا حاول بعض أهل الثراء أن يحتذي شاكلة السابقين، ويتلو
تلو الشعوب المتمدنة، فأنشأ يقلدهم في أحوال معيشتهم التي انتهت بهم إليها
طبيعة بسطة الملك وسعة الثروة، فشيد القصور، ونقش الجدران وزينها
بالأرائك والزرابي والسجوف والمصابيح، وسائر أنواع الآنية والماعون النفيس،
الذي يجلبه من بلاد تلك الشعوب، فكيف يمكن إقناع هؤلاء بأن هذا التقليد تذفيف
على جرح الأمة، وإجهاز على حياتها، وبه ينضب معين ثروتها، على أنه
ليس لديها من أمواه الثروة إلى بقية وشل. وإن التقليد النافع إنما يكون في
خدمة المعارف، والسير في طرقها التي سار فيها أولئك، وفي الأعمال
النافعة التي هم لها عاملون؟
(س) كيف تحافظ الأمم على أديانها ولغاتها وعوائدها النافعة إذا كانت مهددة
من أمم أخرى بحكم ناموس تنازع البقاء، وكيف ظلت اللغة العبرانية محفوظة في
ألسنة الإسرائيليين مع ما ابتلوا به من فقد السلطة والشتات في الأقطار، وما رُزِئُوا
به من جور الحاكمين، واضطهاد الظالمين، ولماذا فسدت ملكة اللغة العربية من
ألسنة أربابها مع نمو عمرانهم وامتداد سلطانهم؟
تسمع ولدان اليهود في روسيا وألمانيا وأوستريا وفرنسا وإنكلترا وأسبانيا
وإفريقية وأميركا يتكلمون بلسان كتابهم (التوراة) على نحو ما كان يتكلم به
آباؤهم الأولون. ولم يصدهم عن حفظه معرفة لغات الشعوب الذين هم عائشون في
بلادهم. وشيوخ العلم في مصر والشام والعراق والمغرب، بل وفي الحجاز
واليمن يكتفون بوجود لغة (القرآن) في مطاوي الكتب وبطون الدواوين؟ !
(س) كيف يمكن التفلت من إشراك العادات الرديئة وأحابيلها. والتفصي
من عقل التقليدات المضرة التي أوقفتنا عن السير، وأحدثت فينا قناعة البهم،
وبغضت إلينا كل جديد، وإن كان فيه سعادتنا، وقد استحكمت بتوالي الأيام وكرور
السنين. وقويت على سلطان العقل وإرشاد الدين، حتى اعتقد الآخذون بها حسنها،
وأنكروا على من أخل بشيء منها {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: ١٠٤) ، أما والله لو أن أجسادنا هذه تدبرها أرواح
كأرواح آبائنا الأولين لكنا نحن السابقين إلى كل ما يسمى اختراعًا واكتشافا وعملاً
نافعًا؟
(س) إننا نرى كثيرًا من الأخلاق والعادات لها وجهة للخير ووجهة للشر،
يجتني نفعها أناس ويصاب منها بالضرر آخرون. فكيف يتفرع عن الأصل الواحد
فروع مختلفة وآثار متباينة. وبماذا اهتدى الأوربيون للانتفاع من اختلاف رجال
العلم ورجال السياسة وتنازعهم، وتبينوا من هذا الاختلاف والتنازع محجة الصواب
وحقيقة الأمر، حتى كأن نور الحقائق العلمية والمصالح السياسية لمعان البرق،
لا يظهر إلا بين الإيجاب والسلب.
ولماذا كان الاختلاف والتنازع في الشعوب الشرقية حجابًا على وجه الحقيقة،
وغشاوة على عين البصيرة، تضيع فيه المصالح، وتندرس رسوم المنافع، حتى
كان تصادم أفكارهم تصادم القوارير؟
(س) ما هو الغاسول المطهر للأذهان من أقذار الوساوس والأوهام التي
توقع في الخوف مما لا يخيف، ورجاء ما لا يفيد، وبماذا يكون ترميج (إفساد
السطور المكتوبة) ما سطر في ألواح النفوس من أساطير الخرافات أو محوه بالكلية
ورسم آيات الحكمة وإثبات نقوش الحقائق على هذه الألواح الشريفة القدسية؟
(س) بماذا يعرف المجد الصحيح من المجد الباطل، والكمال الحقيقي من
الكمال الوهمي، فتتحول مجاري نفقات الأفراح والأحزان من الولائم والوضائم وما
يتبعها إلى التعليم والتربية، ويستبدل تشييد المكاتب والمدارس الوطنية بتشييد
القصور على القبور (الأحواش) الذي استن المصريون فيه بسنة (خوفو)
و (خفرع) و (منكورع) الذين شادوا الأهرام لحفظ جثثهم الشريفة؟
(س) ما هو العلاج الذي يستأصل جراثيم الفساد، والدواء القاتل
(لميكروب) الأدواء الروحية، الشافي من الأمراض القلبية التي تتولد عنها المآثم
والموبقات؟
(س) متى تقل الأمراض الجسدية، ويتزين مجموع الأمة ببرود الصحة
الضافية، ويلقون عن وعواتقهم أسمال الأمراض وأخلاق الأسقام، ويقل فيهم فتك
الأوبئة إذا لم يكن محو هذه المصائب بالكلية؟
(س) بماذا تحصل الثروة للأمم؛ فإننا نرى بعض الشعوب استولى عليها
الفقر المدقع، فلا يوجد فيها من الأغنياء إلا أفراد قلائل، والكثير منهم ما نال
الثروة بطرق مشروعة وأعمال شريفة، والسؤال إنما هو عن ثروة الأمة من الطرق
الشريفة المشروعة. ولو وزعت ثروة من ذكرنا على الأمة بالتعديل لم تخرج من
عداد الأمم الفقيرة؟
(قال السائل الحكيم) : وإذا قلتم: زراعة، صناعة، تجارة، فإنني لا أعتد
ذلك جوابًا، بل هو يحملني على التفصيل بإلقاء أسئلة أخرى في موضوع الثروة
فأقول:
(س) ما الوسيلة إلى تحسين حالة الزراعة بحيث تفيض الأرض بالخيرات
والبركات التي هي كنوزها الحقيقية. ولماذا كان أهالي فرنسا، بل وأهالي زيلندا
(جزيرة في البحر المحيط) أكثر ثروة زراعية من أهالي مصر بالنسبة لمساحة
الأرض، مع أن أرض مصر أخصب تربة، ورجالها أكثر جلدًا على العمل،
وعندهم النيل الذي ليس له في زيلندا ولا في فرنسا نظير؟
(س) ما الذريعة إلى إتقان الصناعة وتوسيع دائرتها، والتفنن في تنويعها
بحيث تكتفي بها الأمة وتحفظ ثروتها عن اغتيال الأجانب لها، وجعلها عالة عليهم
ثم تكفي غيرها من الأمم التي أصابها مرض الجهل والكسل فأقعدها عن الأعمال؟
(س) ما هي الطريقة للتصرف بأساليب التجارة التي عليها مدار الثروة
الأكبر، والتي هي من الصناعة والزراعة كالقوة المتصرفة من المعلومات
والمدركات. أو كالشرايين والأوردة لدم الإنسان والحيوان؟
(س) كيف تسنى لأفراد من طلاب الكسب الأجانب احتكار ماء النيل وماء
نهر الكلب (نهر في لبنان تجره إلى بيروت شركة أجنبية) ، كما تحتكر السلع
وعروض التجارة، وبيعه لأهل البلاد بالمال. ومَن كان (لولا المشاهدة) يصدق
أن الأمة تنحط إلى دركة لا يمكن للوطني معها أن يتناول جرعة من ماء بلاده إلا إذا
اقتضى الأجنبي منه ثمنها المعلوم عن رضى واختيار، (أما وسر العلم والاجتهاد لو
وجد مثل هذا الخبر في كتب تاريخ الأمم القديمة لعد من هذيان القصاص المولعين
بتلفيق الأكاذيب للإعجاب والإغراب) ؟
(س) بماذا تحرز الأمم القوة والمنعة، وتعقد على ألويتها الغلبة والظفر،
وكيف استولت إنكلترا على ممالك الهند وعلى أستراليا والكاب والنيجر وكندا،
وكيف استولت فرنسا على بلاد الجزائر وتونس والسنغال ومدغسكر وأنام
وكمبوديا وكوشين صين وتونكين، وكيف استولت هولندا على كذا وألمانيا على
كذا؟
(س) كيف يسهل على نفر قليل الاستيلاء على شعب كبير، يصرفونه في
مصالحهم ويستخدمون أفراده في منافعهم، ويستعملونه كما تستعمل الدواب والأنعام،
بل يديرونه كما تدار الآلة الصماء، وهو لا يدري علة هذه السلطة ولا وقوف
لأفراده على حقيقة أسبابها، ولعله لا يتفكر فيها أيضًا، كأنما فقد كل إحساس وشعور؟
(س) كيف أمكن للأميركانيين إلقاء السلطة الإنكليزية عن عواتقهم وطرح
أوزار سيطرتها عن كواهلهم، واتحاد ولايات بلادهم تحت لواء واحد، تستضيء
بنجومه أمم، ويخشى من شهبه آخرون. حتى إن أوربا تحذر منه على ما بقي لها
في العالم الجديد، وتتوقع تنفيذ قول مونرو: (أميركا للأميركيين) ؟

وبالجملة:
(س) ما هي الآلة الرافعة للمتطوحين في عواثير التعاسة والشقاء،
والمتدهورين في مهاوي الخذلان. وما هي المدارج التي ترقى فيها الأمم إلى المدنية
الصحيحة، والمعارج التي تصعد عليها إلى مراتب الكمالات الصورية والمعنوية،
من دينية ودنيوية، وما هو النور الذي يستضاء به في ظلمات الجهل والغباوة،
والمنار الذي يهتدى به في مَهَامِهِ الحيرة ومجاهيل الخطوب؟
فلما فرغت المسائل، وسكت السائل، وطلب ما عند القوم من الجواب، ابتدر أحدهم فقال: لا شك أن الأمراء والحكام هم الذين يكونون بِنَى (جمع بنية)
الأمم، وينفخون فيها روح الوحدة. وينشقونها نسيم الحياة الوطنية. ويمدون فيها
جداول الثروة، بما يمهدون من طرق الكسب ويحفرون من الترع ويبنون من
المعامل والمصانع، ويهيئون من الآلات والأدوات إلخ ما أشرتم إليه من أسباب
السعادة.
فرد عليه السائل قائلاً: إذا فرضنا أن الحكومة غنية مع فقر الأمة وأمكنها أن
تعمل كل هذه الأعمال فهل في استطاعة الحاكم أن يقتلع من نفوس الأمة جراثيم
الأخلاق الذميمة، وينقي منها بذور العادات الرديئة التي تنجم عنها الأفعال المضرة،
ويغرس فيها أشجار الأخلاق الفاضلة والسجايا الجميلة التي تثمر الأعمال النافعة؟
كلا إن من يلقي التبعة كلها على الحكام مخطئ في حكمه، وإنني رأيت أكثر الأمم
الشرقية لا يرون لأنفسهم وجودًا إلا بالحكام، ويرون أن صلاح الأمة وفسادها وغيها
ورشادها وصحتها ومرضها وغناها وفقرها، بل ومحياها ومماتها كل ذلك بيد الحاكم
حتى كأن الحاكم بيده ملكوت كل شيء وهو يجير لا يجار عليه، وكأن هذا الوهم
متسلسل فيهم بالإرث من عهد من قال {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: ٢٥٨) وعهد
من قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: ٢٤) ، وجهلوا أن الحاكم ليس إلا رجلاً
من الأمة، وأن الحاكمية مازادت في فضائله، ولا منحته قوة فوق القوى البشرية،
بل ربما أفسدت أخلاقه وأسقمت مداركه، (كما شوهد في البعض) ، والصواب أن
إصلاح الأمة لا يكون من الحاكم، نعم إن الحاكم إذا ساعده يكون أسرع سيراً وأقرب
نجاحًا.
ثم انبرى آخر للمجاوبة وقال:
إن الطريق الوحيد لإنهاض الأمة من ضعفها وإقالة عثرتها وإقامتها في مصاف
الأمم القوية إنما هو تسليم أزمة أمورها الكلية إلى رجال من ساسة تلك الأمم،
يقيمون فيها القسط، ويرفعون لواء العدل والمساواة، ويغلون أيدي المتسلطين عن
التعدي، ويجتثون شجرة الرشوة الخبيثة من أصولها، ويعممون فيها الأمن،
وينشئون المعامل والمصانع، ويسهلون الطرقات، ويقربون الأبعاد بما يمدون من
السكك الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون، ويوسعون دائرة الاكتساب بإنشاء
الشركات المالية التي هي أسس جميع أنواع التقدم من زراعة وصناعة وتجارة،
وينشرون المعارف الصحيحة التي لا توجد إلا في لغاتهم، فلا يمضي على الأمة
أربعون سنة حتى تنشأ خلقاً جديدًا.
فقال السائل وقد اضطربت نفسه وانفعلت روحه وتبيَّغ دمه حتى كان يتفصد
من وجهه:
اذا استشفيت من داء بداء ... فأقتل ما أعلك ما شفاكا
لقد أخطأ ظنك يا أخي واستحوذ عليك شيطان الوهم، ولقد نثرت الملح على
جرحي بجوابك هذا، أما علمت أن ساسة تلك الأمم الذين أشرت إلى تسليم كليات
الأمور اليهم قد تربوا في بلادهم على حب أوطانهم ووقف حيلتهم على نفع أمتهم،
وقد تطبعوا على ذلك عملاً فصار ملكة راسخة في نفوسهم تصدر عنها جميع
حركاتهم وسكناتهم من غير روية ولا تكلف.
وإن جميع ما يبرز من أعمالهم مفيدًا للأمة التي يتولون إصلاحها في الظاهر،
لا بد أن يكون في باطنه منفعة لأمتهم، فإن المنفعة هي القطب الذي تدور عليه
رحى أعمالهم، فلا ينشرون من المعارف في البلاد إلا ما يشرب القلوب حبهم،
واعتقاد عظمتهم ويفسد على الأهلين لغتهم وعوائدهم وتقاليدهم التي كانوا بها أمة
ممتازة عن غيرها مستقلة في وجودها.
ولا يوسعون دائرة الكسب إلا للعارفين بأساليبه من أبناء طينتهم، فتسهيل
طرق الثروة حسية ومعنوية، وتعميم الأمن، والضرب على أيدي المتسلطين، كل
ذلك وسيلة لتمكنهم في الأرض، وسد أَثْبَاج الثروة عن أبناء الوطن، وتحويل
تلك الأثباج والمجاري إلى الآخرين.
نعم إن الوطنيين يتمتعون منها بقليل من الراحة التي تزيد في كسلهم
ونقاعدهم، حتى يئول الأمر إلى امتلاك الأغيار لأراضيهم الواسعة ويتخذونهم
أجراء ومزارعين، فيعلمون كيف دس لهم السم في الدسم حين لا ينفعهم العلم.
سألت عما ينهض بالأمم، فأجبتني بما يقذفها في تيهور العدم، ويهبط بها إلى أسفل
سافلين.
ثم تصدى للجواب رجل ثالث فقال: إن الجرائد الحرة هي التي تنبه أفكار
الأمة وتنير عقولها بنشر المعارف، وترشدها إلى التحلي بالفضائل، والتخلي
عن الرذائل، وتدلها على أساليب المدنية، وتزعجها إلى العمل بها تارة
بالترغيب والتنشيط، وطورًا بالترهيب والتحذير من عواقب التفريط، وتحرك من
نفوسها كوامن الغيرة التي تدعو إلى المنافسة والمباراة، إلى غير ذلك من الفوائد
التي لا تعزب عن علمكم.
فقال السائل: إن الجرائد وإن كان لها الشأن العظيم عند الأمم المُمَدَّنَة والأثر
المشهود في سير مدنيتهم التي تعتبر الجرائد كالحداة له، إلا أنها ليست هي
الموجدة لتلك المدنية. فإذا لم يوجد في الأمة سير إلى المدنية الفاضلة فلماذا يكون
الحداء.
نعم، ينبغي أن تنشأ عندنا جرائد لأجل الحث على الاجتماع وتعيين الغاية التي ينبغي أن تقصد، والوجهة التي يجب أن تولى، ثم الحث على السير إلى تلك الغاية في الطرق الطبيعية التي سنها الله تعالى لها، وهدانا إلى سلوكها، ثم الحداء الذي يسهل على السائرين احتمال المتاعب وقطع المسافة مع النشاط والارتياح.
ولا أقول: إن الجرائد هي المصلحة لحال الأمة، بل هي مساعدة على
الإصلاح إذا صدقت وأخلصت، وأفضل عملها إيصال أفكار الطبقة العاقلة من الأمة
إلى سائر الطبقات تحت مبدأ واحد شريف، فإنما المدار على الوحدة كما أشرنا أولاً.
ثم التفت إلى القوم فقال: هل بقي عندكم شيء من الأجوبة؟ فأجابوا بلسان
واحد: لا، وإننا نطلب الجواب من حضرة السائل الحكيم.
فقال: إن الجواب الذي قلت: إنه وسيلة لسعادة الأمة تجمع كل الوسائل،
وسبب يرجع إليه جميع الأسباب هو (تعميم التربية والتعليم) ، وهذا اللفظ تلوكه
الألسنة كثيرًا إلا أن معناه لم يُعْطَ حقه من التبصر والتأمل. فإن كنتم في ريب
مما قلت فإنني مستعد لإقناعكم. وإنْ أذعنتم ولم توجهوا كل قواكم العقلية والمالية
للحصول على هذه الرغيبة، فأنتم العاملون على ضياع أوطانكم وخائنون
أمتكم وملتكم.
((يتبع بمقال تالٍ))