للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانقلاب الديني السياسي
في الجمهورية التركية

(الدسائس الأوربية في الدولة العثمانية، تأثير التعليم الأوربي والمدارس
في حل المسألة الشرقية , طلاب الإصلاح للدولة مقلدون مدحت باشا وعصبته،
جمعية الاتحاد والترقي، الكماليون. إلغاء الخلافة العثمانية وطرد الخليفة الوهمي
وعشيرته من البلاد التركية , واستصفاء أموالهم. إلغاء نظارة الأمور الشرعية،
إلغاء وزارة الأوقاف، إلغاء المدارس الدينية , جعل التعليم بجميع أنواعه لنظارة
المعارف التركية. عَمَهُ المسلمين واضطرابهم) .
تمهيد ومقدمات:
ما زالت الدسائس الأوربية تتغلغل في مدارس الدولة العثمانية , فتفسد الأفكار
الدينية التي خولت هذه الدولة انتحال مقام الخلافة الإسلامية، وتفسد المقومات
الاجتماعية , وتقطع الروابط السياسية التي كانت بها هذه الدولة سلطنة
(إمبراطورية) إسلامية عظيمة , يخضع لها كثير من الشعوب المختلفة في
الأنساب واللغات والأديان والأقاليم - ما زالت كذلك حتى صارت مصداقًا لقول
بعض عقلاء الأوربيين: إن المدارس الثانوية قد عملت في حل المسألة الشرقية ما
عجز عن مثله جميع سفراء الدول في الآستانة.
بدأ ساسة أوربة وأساتذتها ينفثون سم العصبيتين الدينية والجنسية في
الشعوب الأوربية المسيحية العثمانية: كاليونان والصرب والرومان والبلغار حتى
نهضوا بهما إلى طلب استقلال بلادهم وساعدتهم الدول الأوربية على ذلك حتى
نالوه، ثم طفقوا ينفثون هذا السم في أرواح سائر الشعوب العثمانية عامة، وعصبة
الجنس واللغة في شعب الترك خاصة، حتى صار المتعلمون من هؤلاء أشد كراهة
للسلطنة العثمانية من الروم والأرمن فيها، فطفق بعض هؤلاء الترك الذين لقبوا
أنفسهم بالأحرار يسعون لإسقاط هذه الدولة العظيمة؛ ليبنوا من أنقاضها دولة تركية
محضة , يكرهون جميع أهلها على قبول الجنسية التركية , وما تعذر تتريكه منها
يجعلون بلادها مستعمرة للترك، ولم يكتفوا ببقاء السلطنة كلها والرضا بما لهم من
الامتياز فيها بكون لغتهم هي الرسمية لها، وشعبهم هو الشعب الممتاز فيهما بلغته ,
وبحصر الملك والخلافة في بيت من بيوته وبجعل العاصمة في بلاده.
فتن المتفرنجون من الترك بتقليد الأوربيين في نظم حكوماتهم وقوانينها ,
وفي أزيائهم وعاداتهم , في مجامعهم وأكلهم وشربهم ولهوهم ولعبهم , فجروا على
ذلك جيلاً بعد جيل , وهم يزدادون ضعفًا وفقرًا كلما أوغلوا فيه؛ لأن التقليد الأعمى
لا يأتي بخير , وإنما ترتقي الأمم بالعلم الاستقلالي , مع البصيرة والروية في وضع
كل شيء في موضعه بقدر الحاجة إليه , مع مراعاة استعداد الأمة ومقوماتها،
واتقاء ضرر التحول والانقلاب فيها. ومن غريب هذا التقليد أن أنفع ما أخذته
الدولة عن أوربة به وهو النظام العسكري ظلت عالة على الأوربيين فيه إلى هذا
اليوم , فلم تكن مستقلة دونهم بعلم ولا عمل ولا صناعة مما يتعلق به.
وكانوا كلما فشلوا وخابوا في تجربة من تجارب التفرنج يحسبون أن سبب
ذلك من رسوخ الاستبداد في سلاطينهم، المؤيد بتقديس منصب الخلافة لهم
بمقتضى تعاليم دينهم، لا من جهلهم هم في أخذ النافع وترك الضار، وضلالهم في
ظنهم أن الإسلام يؤيد الاستبداد؛ فجزموا بأن التفرنج المطلوب لهم لا يتم إلا بترك
التقيد بالإسلام في حكومتهم، وأن الأسرة السلطانية العثمانية قد رسخت في الإسلام
وما فيه من رياسة الخلافة , حتى صار يتعذر سلها منه والاستعانة بأفرادها على
سل سائر الشعب التركي منه؛ فقرروا إسقاط الدولة، والقضاء على هذه الأسرة.
يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:
١١) وهذه قاعدة اجتماعية لا يختلف فيها عاقلان، ومن فروعها ما أفاده قوله تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: ٣٠) وهي قاعدة
أخرى ولكنها أخص من الأولى التي تشمل النعم والنقم، والرغائب والمصائب.
وهما يطردان في الأمم دون الأفراد , فقد تمس الفرد نعمة أو تصيبه مصيبة بغير
سعي منه ولا كسب لسبب هذه أو تلك، بأن يرث مالاً من قريب، أو يقع عليه ظلم
من معتد أثيم. وأما الأمم فلا تتغير أحوالها من خير أو شر , إلا بعمل منها ناشئ
عن تغير ما في نفس السواد الأعظم من أفرادها من العقائد والأفكار , والملكات
والوجدانات التي هي مصادر أفعالها , سواء كان هذا التغير بالاستقلال أو باتباع
الدهماء للزعماء والكبراء من رؤساء الدنيا والدين.
وقد كان الذين شعروا بحاجة الدولة العثمانية إلى الإصلاح في القرن (الثالث
عشر الهجري) الماضي يجهلون أولاً هذه القاعدة الاجتماعية , فلم يبحثوا عن علل
الضعف وأسباب الفساد كالجهل والخلل والرشوة، وعن علاجها اللائق بها في
أنفس الأمة أولاً وبالذات وفي نظام الدولة ثانيًا وبالتبع لحال الأمة، بل حصروا
وجهة نظرهم في مظاهر قوة الإفرنج الحادثة بعد ضعف، وفي أعراض ضعف
دولتهم الطارئ بعد قوة، فاستنبطوا من هذا النظر في المظاهر والأعراض أن
الدولة تقوى وتعتز بتقليد الإفرنج في قوانين حكوماتهم ونظمها ومظاهر حياتها،
ولكن لم يراعوا ما في ذلك من الموافقة لمقوماتها ومشخصاتها من عقائد وتقاليد
وآداب وأخلاق وعادات موروثة ومكتسبة بالتربية والتعليم، ولم يفطنوا لما بينهم
وبين الإفرنج من الاختلاف والفروق في ذلك، ولا تأملوا في الأطوار التي تنقل
فيها الإفرنج من حال إلى حال، ولا قدروا ما يحيط بدولتهم من الأمور السياسية
وغيرها، وكذلك شأن المقلد، وناهيك بمقلد يسترشد برأي أعدائه من حيث لا يدري.
وكان من معلولات هذا الجهل أن كل مانع يعرض لهؤلاء المتصدين للإصلاح
يظنون أنه من أسباب الفساد , ويحاولون إزالته وإن كان من مقومات الأمة التي لم
تكن هي إياها إلا به - فكان مثلهم كمثل من رأى حلة على امرأة مهفهفة القوام
فاشترى مثلها لامرأته الضخمة فلما تعذر عليها لبسها؛ رأى أن لا سعادة له ولها إلا
بترقيق بدنها , بإذابة لحمه وشحمه ليمكنها لبسها، فإن لم يمكن؛ وجب إلقاء الحلة
عليها وإن لم تلبسها لبسًا.
هذا مثل من كان مخلصًا في محاولة إصلاح هذه الدولة من رجالها , لما له
فيها من عرق راسخ أو دين ثابت، وكأي من متصد لذلك وهو يبغي الإفساد؛ لأنه
دخيل فيها وهو من أعدائها الذين تربوا في مدارسها التقليدية. وكم تخرج في هذه
المدارس من عدو للدولة دسه فيها قومه الأعداء , ثم تعاهدوه وسعوا إلى ترقيته في
المناصب الملكية والعسكرية بالرشوة والشفاعات , حتى صار من كبار رجالها الذين
يسعون في خرابها بما في أيديهم من أزمة أمورها.
مدحت باشا والإنكليز:
كان مدحت باشا من هؤلاء المخلصين المقلدين المخدوعين. قال حكيم الشرق
السيد جمال الدين الأفغاني فيه وفي رجاله من مقال له عنوانه (الشرق
والشرقيون) ضرب فيه الأمثال بجهل حكومات الهند وإيران والأفغان وبخارى
والقوقاس والعثمانيين والمصريين الذي كان سببًا لضرب الإفرنج المستعمرين
بعضهم ببعض للاستيلاء على ممالكهم - ما نصه:
(وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا بعين بصيرتهم إلى أركان سلطنتهم
المتداعية إلى السقوط، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت تنهد بما أَلَمَّ
بها من المصائب، وعلموا بتدبرهم أن البلايا تترصدهم من جوانبهم - لما تقحموا
غرورًا وضلالة في خلع السلطان عبد العزيز وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم،
وتغتنم هفواتهم، ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم، واغترارًا بدسائس الحكومة
الإنكليزية قد جلبوا الهلاك على أمتهم , ويظنون أنهم هم المصلحون) .
وقد كان من رأي مدحت باشا يومئذ الفصل بين الدولة والخلافة , وكلم
الشريف عبد المطلب في جعله خليفة في مكة تابعًا للدولة في السياسة الخارجية
ومحميًّا بقوتها , فأبى واحتج بأن مصلحة الدولة والعرب تأبى ذلك، ولما طفق
يشرح رأيه قال له مدحت باشا: شريف أفندي! نحن جئنا بك لنعرض عليك أمرًا،
لا لنطلب رأيك فيه، وإذ أبيت فتفضل بالرجوع من حيث أتيت.
وكان الشريف عبد المطلب أعقل شرفاء مكة، ولم ينل أحد منهم مثل منزلته
عند رجال الدولة، وهو لم يكاشف السلطان بهذه المسألة، ولكن السلطان عبد
الحميد كان منذ نزل بعمه عبد العزيز ثم بأخيه مراد ما نزل يذكي العيون ,
ويصطنع الجواسيس؛ لإخباره بما يدبر رجال الدولة، وصار أقدر الناس وأحذقهم
في ذلك بعد توليه أمر السلطنة، فعلم أن (الجون ترك) يكيدون له ولأسرته كلها , فلج في مطاردتهم، فكان له من مكابدتهم في الداخل، ومكايدة الدول من الخارج، ما صرفه عن إصلاح الدولة، واضطره إلى الإسراف واتباع الوساوس التي
يثيرها في خياله مرتزقة الجواسيس وصنائع الأعداء منهم، حتى صار كل مخلص
للدولة من أهلها يتمنى زواله، ويعتقد أن جميع أنصاره في بلاد الدولة
منافقون أو مأجورون، وجميع أنصاره من الأقطار الأخرى جاهلون، أو مغلوبون
على أمرهم بين آلام من استذلال الأجنبي لهم، وآمال في الدولة الإسلامية المستقلة ,
يكرهون أن ينغصها البحث في عيوبها عليهم.
مقاصد الإنكليز من الترك والعرب والإسلام:
وكان عطف الدولة البريطانية على (الجون ترك) ومساعدتها لهم من دلائل
استخدامها إياهم في سياستها من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، ولكن
سياستها العثمانية كانت موضع الخلاف ومثار الشبهات، فكان بعض رجال الدولة
يرون هذه الدولة صديقة لدولتهم بما كانت تعارض روسية في محاولة فتح
القسطنطينية والاستيلاء على زقاقي البوسفور والدردنيل، وبما كانت تقاوم محمد
علي باشا الكبير وأحفاده في تأسيس مملكة عربية جديدة في مصر، ثم تبين أن هذه
السياسة كانت مبنية على القواعد الآتية:
(١) يجب أن تكون الدولة العثمانية في الأرض كأهل جهنم: لا تموت فيها
ولا تحيا - لا تموت؛ لئلا تحل الروسية محلها من الآستانة، فهو على حد المثل (لا
حبًّا في علي ولكن بغضًا في معاوية) ، ولا تحيا؛ لئلا يعتز بها المسلمون فيحول ذلك
دون مطامعها في استعباد من بقي منهم، وتتعلق آمال مسلمي الهند بالتحرر من
رقهم. وقد هدمت هذه القاعدة بالاتفاق البريطاني الروسي على التوازن في الشرق ,
والبدء باقتسام إيران بجعلها منطقتي نفوذ لهما، ثم بالاتفاق معها ومع فرنسة سنة
١٩١٢ على تقسيم الدولة بينهن.
(٢) التوسل بإظهارها المساعدة لهذه الدولة إلى اصطناع كثير من رجالها
والاستعانة بالملاحدة منهم على إفساد أمر الخلافة عليها، وبالمتدينين على جعل
الخليفة عضدًا لها، قبل قضاء الملاحدة عليها. وقد ثبت عندنا أن ساسة الإنكليز
قالوا: إن قوة الإسلام في الشرق لا يمكن القضاء عليها إلا بتولي ملاحدة الترك
لأمور دولتهم. وأنها لهذا كانت تعطف عليهم في كل زمان ومكان، حتى إنها لم
تقطع آمالها منهم بتحيز من تحيز من زعمائهم إلى الألمان، ولكنها بعد الحرب
طفقت تصطنع بعض الرجال المتدينين؛ لأن زعماء المتفرنجين صاروا مع أعدائها
عليها.
(٣) التوسل بسيادة هذه الدولة على مصر والحجاز وسائر البلاد العربية
إلى إحباط كل سعي لتأسيس دولة عربية جديدة في مصر أو غيرها.
(٤) انتهاز الفرص من وراء كل ما ذكر إلى الاستيلاء على مصر فالعراق
فجزيرة العرب، وقد تم لها جل ما كانت تنويه وتقصد قصده حتى القضاء على
خلافة الترك , فقد تعددت الروايات بأنهم هم الذين أقنعوا الكماليين بالإقدام على
إلغائها.
نقف عند هذا الحد من التمهيد للانقلاب , ونعود إلى بيان جهل الذين تصدوا
لإصلاح الدولة وما فعلوه فنقول:
الطور الاستقلالي للانقلاب التركي:
ما زالت الحال في متفرنجة الترك على ما ذكرناه من التقليد الصوري حتى
نبتت فيهم نابتة تلقوا عن أساتذتهم من الإفرنج ما جهله من قبلهم، وهو أن تغيير
حال الدولة، لا يتم ولا يثبت إلا بتغيير حال الأمة، وإن الواجب عليهم أن يجعلوا
هذه الدولة تركية محضة لا بلغتها فقط، فإن كون لغة الدولة العثمانية هي التركية لم
يجعلها تركية محضة، بل هي بعد بضعة قرون من تكوينها مشتركة بين الترك
والعرب والكرد والألبان والروم والأرمن والجركس وغيرهم، وقد جعل لهم
الدستور من الحقوق فيها ما لم يكن لهم. وإنما تكون الدولة تركية محضة إذا كانت
أمتها تركية محضة، وإنما تكون كذلك إذا كانت سائر مقوماتها تركية، وهي
التشريع والتهذيب والتقاليد التاريخية، وهذه المقومات في الدولة العثمانية عربية
محضة؛ لأنها مستمدة من الدين الإسلامي. فتوجهت وجوه هذه النابتة إلى تكوين
أمة تركية جديدة لا تستمد تشريعها ولا تهذيبها ولا تقاليدها من الإسلام , ولكن لا
بأس عندها باستمداده من الإفرنج، وطفقت تبث الدعاية لذلك في مدارس الدولة
وأكثر طلابها من الترك، وفي الجيش أيضًا. وألفوا في ذلك الكتب ونظموا
القصائد والأناشيد , وكانوا في عهد السلطان عبد الحميد يتحامون الدعوة الصريحة
إلى ترك الإسلام والطعن فيه، إلا فيما ينشرونه في أوروبة أو غيرها من البلاد
حتى إذا زالت دولته، وورثت جمعية الاتحاد والترقي نفوذه؛ ظهرت الدعاية
الصريحة , ودخل الانقلاب في طور عملي عاجل.
جمعية الاتحاد والترقي:
لما ظفر السلطان عبد الحميد بمدحت باشا وكبار حزبه وداس دستوره واستبد
بجميع أمور الدولة , وتفرق طلاب الانقلاب في بلاد أوربة وغيرها؛ انحصر همهم
في إسقاطه وإعادة القانون الأساسي، ولما أديل لهم منه بإعادة الدستور وانتخب
النواب لمجلس المبعوثين , ورأوا كثرة نواب الغرب وغيرهم فيه , ورأوا من
معارضتهم فيه ما أثبت لهم أن الدولة ليست تركية محضة، وأن جعل المجلس آلة في
أيديهم للتصرف فيها كما يشاؤون ليس بالخطب السهل - لما رأوا ذلك عزموا
على تنفيذ مقاصدهم بقوة الجيش التي قضوا بها على سلطة عبد الحميد الراسخة،
وكان من أمرهم ما هو معروف , وقد شرحنا ما يتعلق منه بالإسلام في مجلدات المنار
السابقة.
ألفوا الجمعيات واللجان فنشرت الكتب الطاعنة في الإسلام الداعية إلى
استبدال الرابطة التورانية بالإسلامية، ولكنهم كانوا يخافون عاقبة تنفيذ مقاصدهم
حتى إذا تهوَّكوا في الحرب الأوربية الكبرى مع الحلف الجرماني ولاحت لهم
مخايل النصر في أوائل العهد بالحرب , شرعوا في التنفيذ - أعني أنهم شرعوا
في إذابة بدن هذه العجوز العفضاج الشرقية؛ ليلبسوها ثوب تلك المهفهفة الغربية.
كانت عاقبة إصلاح مدحت باشا ورجاله فقد الدولة لبعض من ممالكها،
وتأليف دول منها في أوربة يهددون بمساعدة بعض الدول الكبرى حياتها.
وكانت عاقبة إصلاح جمعية الاتحاد والترقي فقد الدولة لسائر ممالكها في
أوربة وأفريقية وآسية، بل إلى سقوط هذه السلطنة (الإمبراطورية) العظيمة
وزوالها، وكاد الشعب التركي أن يفقد كل سلطة في عقر داره من الأناضول
والآستانة وما جاورها من بقية الرومللي وهو القطعة المعروفة بتراقية الشرقية،
ولكن الله سلم.
قضت الأقدار الربانية بوقوع الشقاق والتنازع بين دول الحلفاء الذين مزقوا
هذه الدولة (بمعاهدة سيفر) شر ممزق , حتى صار بعضهم يساعد الترك على
اليونان الذين توغلوا في بلاد الأناضول وجاسوا خلالها مخربين مدمرين محرقين
هاتكين للأعراض، تجاه مساعدة الآخرين لليونان. وبما سخر الله دولة الروس
البلشفية لمساعدة الترك أيضًا. وبما ارتفع من الصياح في وجه الدولة البريطانية
المتصدية للإجهاز على الدولة من صياح مسلمي الهند وهندوسها وتهديدها بالخروج
عليها - هذه الأقدار وغيرها مكنت الترك المستبسلين من النصر على اليونان
المتهوكين، ثم من عقد صلح شريف مع دول الأحلاف.
تقرر في معاهدة الصلح بلوزان استقلال ما بقى للترك مما أشرنا إليه، وإلغاء
الامتيازات الأجنبية منه، وكان على رأس هؤلاء الغزاة من الترك قائد باسل حازم
اسمه (مصطفى كمال باشا) , ألف عصبة من الضباط الموافقين له في الرأي
ومن غيرهم من كبراء المجلس الوطني , الذي تولى إدارة البلاد في أثناء
الحرب الدفاعية فأطلق على هؤلاء اسم (الكماليين) .
الكماليون:
الكماليون هم الاتحاديون، لا فرق بينهما في المقصد ولا في الوسائل , وإنما
كانوا ينسبون إلى معنى فصاروا ينسبون إلى جثة أو شخص، وهذه النسبة تنافي ما
يتبجحون به من القضاء على نفوذ الأشخاص وسلطتهم وإحلال سلطة الأمة محلها،
فما تغير شيء إلا التسمية التي صارت ممقوتة عند الأمة بما جنته الجمعية عليها -
وإلا رؤساء الزعماء، وأما العاملون بنفوذ الرؤساء في الانقلاب الديني والاجتماعي
فهم هم، وكون كل عمل يعملونه في الحكومة والأمة بالاعتماد على قوة الجيش فهو
هو. وحل اسم حزب الشعب محل اسم جمعية الاتحاد والترقي، واسم مصطفى
كمال باشا وعصمت باشا وغيرهما محل اسم طلعت باشا وجمال باشا والدكتور
ناظم وغيرهم.
بل أقول: قد كنا نظن أن الكماليين ربما يكونون أقل من الاتحاديين جرأة
على التغيير والتبديل المراد بهذا الشعب الذي أتى من طاعته العمياء لرؤسائه، لما
كان للاتحاديين من سوء الخاتمة، فإذا هم أشد منهم جرأة. وسبب الجرأة في
الفريقين واحدة , وهي القبض على أعنة السلطة بالقوة العسكرية، وقد تم هذا
للاتحاديين في عهد الحرب , وهو آخر العهد بهم، ولكن الكماليين نالوه في أول
العهد بسلطتهم ولا نعلم متى يكون آخرها.
سهل عليهم إسقاط نفوذ السلطان محمد وحيد الدين عقب تحرير البلاد
بالانتصار على اليونان؛ لأنه كان مقاومًا لهم باجتهاد منه أخطأ فيه وأحبطه عليه
ظفرهم وخذلانه، كما أشرنا إليه في تعليقنا على الوثائق الرسمية لهذه المقاومة
وتمثلنا بقول الشاعر.
والناس من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
وكانوا كلما ازدادوا تمكنًا من السلطة ينفذون من برنامجهم شيئًا - أعني برنامج
غلاة المتفرنجين الذي أشرنا إليه في صدر هذا المقال - بعد تمهيد قليل، وإلباس
الباطل ثوبًا يشبه الحق بضرب من التأويل، فكانوا يرون أن الشعب التركي
يرضى ويستكين في الداخل، والعالم الإسلامي يهلل ويكبر في الخارج، فجروا في
الميدان إلى آخر الشوط أو إلى مقربة منه. فإن وراء إبطال تعليم الدين بلغته
ترجمة القرآن المجيد , وإلزام الترك بالتعبد بالقرآن التركي الذي ينشئه بعض
رجالهم، وترك القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى على خاتم رسله محمد
النبي العربي بلسان عربي مبين. وما يتبع ذلك من الكفر والضلال.
كانت الخطوة الأولى لإلغاء الخلافة أن وضعوا قانون الدولة الأساسي في
أول سنة ١٣٢١ الميلادية , وصرحوا في المادة الأولى منه بأن (السيادة للشعب
بلا قيد ولا شرط) وفي المادة الثانية (باجتماع القوة التنفيذية والقوة التشريعية
في الجمعية الوطنية الكبرى) فلم يبحث معهم أحد: ألا يجب أن تكون السيادة
والسلطة التشريعية مقيدتين بالشريعة الإسلامية التي يدين بها الشعب صاحب
السلطة ربه، ويعتقد أنها مناط سعادة الدنيا والآخرة؟!
أولاً يجب أن يكون بعض أعضاء الجمعية - على الأقل - عارفين بأصول
هذه الشريعة وفروعها , بتلقيها عن أهلها فيشترط ذلك في قانونها؟؟
ربما يكون الناس قد استغنوا عن هذا السؤال بما في المادة السابعة من أن
تنفيذ الأحكام الشرعية خاص بالجمعية الوطنية كسن القوانين وتعديلها، ومن أن
الأحكام الفقهية والحقوقية الموافقة لمعاملات الناس , وحاجيات الزمان والمكان
والآداب تتخذ أساسًا لوضع القوانين والنظم. وإن كان هذا يحتاج إلى البحث فيه
كالذي سبقه , ولكن هذه السلطة المطاعة للجمعية تقتضي إلغاء الخلافة , وإن لم
تذكر في ذلك القانون ألبتة، فلم لم يسأل عنها أحد؟
وكانت الخطوة الثانية أنهم قبل مضي سنتين على وضع هذا القانون وضعوا
قرارًا في الجمعية الوطنية , ونشروه في أول نوفمبر سنة ١٩٢٣ من التاريخ
الميلادي , صرحوا فيه بتأييد ذلك القانون , وبأنه قد ترتب عليه أن الشعب التركي
يعتبر أن الحكومة التي في الآستانة المستندة على السيادة الشخصية قد زالت
وانتقلت إلى التاريخ انتقالاً أبديًّا من يوم ١٦ مارس سنة ١٩٢٠ , وأن الخلافة في
آل عثمان فتنتخب الجمعية الوطنية لها من آل هذا البيت أرشدهم وأصلحهم علمًا
وأخلاقًا. والدولة التركية سناد مقام الخلافة.
وقد تلقى جماهير المسلمين في البلاد التركية وغيرها هذا العمل بالقبول , ولم
ينتقده إلا أفراد منهم كما بيناه في المنار (ج١٠ م٢٣) بل زعم بعضهم أنه إحياء
لخلافة الراشدين، وتجديد لمجد الدين (!!!) حتى فسره أعلم الناس بمعناه من
أساطين الكماليين؛ إذ كان هو المقترح الأول له مع جماعة من أصحابه في الجمعية
الوطنية وهو الدكتور رضا نور بك , فإنه بعد أيام من وضع القرار مر بالآستانة
في طريقه إلى لوزان؛ إذ كان عضوًا مع عصمت باشا في مؤتمر الصلح، فسأله أحد
محرري الصحف أسئلة في الموضوع أجاب عنها بصراحة، ومما قاله: (من
الحقائق الثابتة أن الأمة التركية لا تعيش في داخل دائرة امتزج فيها الدين بالدنيا) .
ثم صرحت الحكومة بفصل الدولة من الدين، وجعل الحكومة بمعزل من
الخلافة، وسموا عبد المجيد أفندي بن السلطان عبد العزيز خليفة , ثم أقاموا له
حفلة سموها حفلة المبايعة , بأن مر أمامه الكبراء والوجهاء والعلماء مسلمين،
وذهب إلى صلاة الجمعة باحتفال جميل، ولكن لم يقل له أحد: بايعتك على السمع
والطاعة، ولا على السنة والجماعة؛ إذ لا أمر له فيطاع، بل قرروا التصريح
بجعل حكومتهم جمهورية وبفصل الخلافة منها، فهنأ الخليفة رئيسها مصطفى كمال
باشا بها، مقرًّا له عليها، داعيًا لهم بالتوفيق فيها، ولم يسم خليفة إلا بعد إقراره
ورضاه بإبطال مسمى الخلافة وتحليته بلفظها، وماذا فعل غيره من المسلمين؟
ضجت أكثر البلاد الإسلامية لهذه المبايعة بالتهليل والتكبير والفرح والسرور،
وتجاوبت أسلاك البرق من أقطار العالم الإسلامي بتهنئة (الغازي مصطفى كمال
باشا بطل الإسلام) بإحيائه لسنة الخلفاء الراشدين , في إقامة كل من الدولة
والخلافة على أساس الشورى، وبالمبايعة لعبد المجيد أفندي بالخلافة الكبرى
والإمامة العظمى، وتلقيبه بأمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين،
وبالسلطان الأعظم، وبحامي الحرمين الشريفين. وكان أسرع الناس إلى هذه
التهاني وأشدها مبالغة فيها مسلمو الهند , وفي مقدمتهم أعضاء جمعية الخلافة،
وجمعية العلماء، ومسلمو مصر وجمهور الجماعات الراقية فيها كالعلماء ,
وأساتيذ المدارس , والمحامين الشرعيين , والقانونيين وفي مقدمتهم علماء الدين في
الأزهر والمعاهد الملحقة به في الإسكندرية وطنطا وأسيوط وغيرها، اللهم ماعدا
الرؤساء الرسميين كشيخ الجامع الأزهر رئيس هذه المعاهد كلها، ومفتي الديار
المصرية ومن تبعهم. وربما كان في الساكتين من كان سبب سكوتهم العلم ببطلان
هذه المبايعة , وكونها من العبث والاستهزاء بالإسلام وأهله، ولكن لم نسمع لأحد
منهم صوتًا بذلك، وقد كلمت شيخ الأزهر في الأمر وسألته السعي لمنع العلماء من
هذه المبايعة الباطلة فلم يجب. وأردت مخاطبة الملك بذلك وبسوء عاقبته , فلم
يسمح لي رئيس الأمناء بذلك.
نعم كتب في بعض الجرائد شيء من الإنكار على ذلك، بعضه بقلمنا أو
بإيعاز منا، وهو غير ما كتبنا في المنار ثم في جريدة الأهرام بإمضائنا، وبعضه
بإمضاء مستعار وأقله بإمضاء صريح.
كان الكتاب الذين خاضوا في المسألة أزواجًا أربعة:
(١) الذين يقولون: إن هذه البيعة صحيحة شرعًا، وإن اشتراط الحكومة
التركية على الخليفة أن لا يكون له في الدولة أمر ولا نهي - فاسد، ويجب على تلك
الحكومة طاعته. سمعت هذا القول من بعض الأزهريين وقيل لي: إن الذين بايعوه
يرون ذلك ولأجله بايعوا.
(٢) الذين يقولون: إن البيعة صحيحة , وإن الخليفة لا يجب أن يكون
صاحب نفوذ ولا أمر ولا نهي بدليل ما فعله سلف هؤلاء الترك , الذين غلبوا الدولة
العباسية على أمرها، بقوة الجند الذي اعتز به بعض خلفائها، فسلبوا منها السلطة
والنفوذ، وكانوا يكرهون الخليفة على ما يطلبونه، وإذا غضبوا عليه يقتلونه، وقد
بلغ من أمر الخليفة في مصر في بعض الأوقات أن صار يعيش من النذور والهبات.
وأكثر هؤلاء من الجاهلين بأحكام الشرع، ولكن أيدهم الشيخ محمد الخضري بك
المفتش في وزارة المعارف , فزعم أنه يكفي في صحة الخلافة أن يكون الخليفة
إمامًا في صلاة الجماعة، ولم يدر أن عبد المجيد أفندي لم يعط هذه الإمامة
أيضًا.
(٣) الذين يقولون: إن ما فعلته الحكومة التركية من الفصل بين الدين
والدولة , هو الصواب الموافق لما جرى عليه أحرار الأوربيين من الفصل بين
الكنيسة والحكومة، ومن هؤلاء من صرحوا بوجوب تصريح تلك الحكومة بأنه لا
دين لها ألبتة.
(٤) الذين يقولون: إن هذا العمل باطل، وإن هذه البيعة باطلة، وإن
الخلافة بهذا المعنى كخلافة مشايخ الطرق وهي مبتدعة , ليست من الإسلام في
شيء.
فالفريق الأول أيد حكومة أنقرة وهو لا يدري من أمرها ولا من أمر العالم
شيئًا، وأكثر أفراده لم يكونوا يعرفون أحكام الخلافة الشرعية معرفة تامة وإن كانوا
معممين، ومن عرفها منهم فهو لا يعرف وجه انطباقها على النوازل.
والفريق الثاني أيدها بغير علم أيضًا , وإنما قصارى احتجاجه لها أن سلفها
من الترك جنوا على الخلافة العباسية مثل جنايتها على الخلافة العثمانية، وهي
أولى منهم بذلك، وهذا رأي مصطفى كمال وحزبه , كما يعلم من خطبته التي
جعلها مقدمة لهذا العمل، وعلى هذه القاعدة تباح كل جناية وفاحشة ومنكر في العالم؛
لأنه وجد في المتقدمين من فعله، ولا سيما القتل. فإن أحد أولاد آدم قتل أخاه بغيًا
وعدوانًا، فسن القتل لكل قادر عليه، ولكن الباعث لهؤلاء على هذه الأقوال هو هوى
السياسة الذي يفسد كل شيء دخل فيه.
والفريق الثالث أيدها وهو يعلن كُنه ما عملت ويوافقها عليه؛ لأنه غير متدين
ويكره أن تكون الحكومة مقيدة بدين أو منسوبة إليه، لا يخاف في ذلك عذلاً ولا
إنكارًا.
والفريق الرابع هو الذي خطأها على علم بما فعلت، وعلى علم بأحكام الشرع
ومصلحة المسلمين العامة، ولعله لم يصل إلى حكومة أنقرة إلا أسماء معدودة من
أفراد هذا الفريق لقلة من كتب في الجرائد منهم , ولم يكتب أحد فيه ما كتبنا , فقد
بلغت مقالاتنا في المنار وحده أن صارت مصنفًا حافلاً، فلم ندع للذين على رأينا
مجالاً واسعًا للكتابة فيه، وإلا فهم - ولله الحمد - كثيرون.
إلغاء الخلافة والمصالح الإسلامية الكبرى من الدولة:
لهذا كله اعتقد هؤلاء الكماليون أن العالم الإسلامي يؤيدهم في كل ما يعملون:
إما عن جهل , وإما عن هوى وخضوع لسلطة القوي، وأن الفرصة سانحة لإتمام
تنفيذ برنامجهم باستسلام شعبهم الفقير المنهوك لهم، وتأييد العالم الإسلامي إياهم،
إلا من شذ من الأفراد الذين لا تُحْبِطُ العملَ مُعَارَضَتُهُمْ، بل أقول: إنهم أصبحوا لا
يبالون بالعالم الإسلامي رضي أم سخط , إذا كان رضاه أو سخطه لا يؤثر في
الشعب التركي تأثيرًا يحمله على معارضة الحكومة , وقد صرحوا بعدم مبالاتهم به
مطلقًا.
يقول بعض علماء الاجتماع والباحثين في أخلاق الأمم والشعوب: إن الترك
إذا ظفروا بطروا، وإذا غُلِبوا وخُذِلوا استكانوا واستخذوا، فإذا ربحوا في الحرب
يخسرون في الصلح.
فعلى هذا لا يكثر على الكماليين - وقد ربحوا في هذه المرة في الحرب والصلح
معاً - أن ينتفخوا عجبًا وغرورًا، وأن يطمع زعيمهم أن يفعل في الخلافة الإسلامية
فوق ما فعله نابليون الأول في البابوية، وأن يحدث في الشعب التركي أكبر مما
أحدثه بطرس الأكبر أو لينين وتروتسكي في الأمة الروسية، منتهزًا الفرصة
السانحة باضطراب الشرق والغرب من دوار الحرب، مغترًّا بظهور أفراد تمكنوا
بقوة العزيمة أن يتصرفوا بإرادتهم في أرقى أمم الغرب، آمنًا من كل مقاومة من
الداخل، محتقرًا كل معارضة من الخارج - بعد أن اغتيل أحد أعضاء الجمعية
الوطنية اغتيالاً خفيًّا لإظهاره الإنكار على ما تقرر من فصل الخلافة من الدولة -
وبعد أن قضي على الحركة التي ظهرت في الآستانة تجاه الخلافة الاسمية، بنصب
محاكم الاستقلال الممنوحة حق الحكم بالقتل على كل معارض للجمهورية، فسيق
إليها أكبر أصحاب الصحف ومحرريها وغيرهم من قادة الأفكار كلطفي بك نقيب
المحامين. وبعد أن اتهم أحد أركان الدولة الجديدة ورئيس وزارتها السابق رؤوف
بك بالخيانة لزيارته الخليفة عند إلمامه بالآستانة، فنوقش الحساب لدى إخوانه من
أعضاء الشعب في الجمعية الوطنية، حتى آل أمره إلى مغادرة البلاد إلى أوربة
بصفة اختيارية.
بعد هذا كله جمع حزب الشعب أعوانه وأنصاره للخطوة الثالثة، فأجمعوا
أمرهم وهم يمكرون، ووضعوا قرارهم وهم يأتمرون، وأعلنوا إلغاء الخلافة وطرد
الخليفة وعشيرته من المملكة، وإلغاء المصالح والأركان الكبرى للدين وهي التعليم
الديني والمحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية.
قد مهَّد مصطفى كمال باشا للفصل بين الحكومة الجمهورية والخلافة الإسلامية
بخطبة كتبها له الأستاذ سيد بك الأزميري , الذي هو وكيل (وزير) العدلية
(الحقانية) في حكومته اليوم، كما مهدوا لإلغاء الخلافة بكتاب (خلافت
وحاكميت مليه) الذي لفقه لهم سيد بك هذا , ونشروه في بلاد الترك وغيرها من
الأقطار الإسلامية على نفقة الحكومة التي طبعته , ولم تكتب عليه اسم المؤلف ,
وتولت توزيعه (إدارة الاستخبارات التركية في أنقرة) .
وسيد بك هذا رجل عليم اللسان جريء الجنان ذكي الذهن , اشتغل أولاً
بالعلوم الدينية , ثم تعلم علم الحقوق وصار محاميًا في المحاكم العدلية , ونزع
العمامة ثم انتخب مبعوثًا، واتفق أن التقيت به في الباخرة (إسماعيلية) من بواخر
الشركة الخديوية عندما جرت بنا من ميناء أزمير في رحلتي إلى الآستانة سنة
١٩٢٣ , وكنت كلما رأيته في الآستانة يسألني عما تم في مشروع الدعوة والإرشاد
مظهرًا الاهتمام به والرغبة في تنفيذه. ثم بلغني أن الاتحاديين استعملوه في وضع
ما يريدون من الصيغ والتوجيهات , والتأويلات لما يريدون التصرف فيه من أمور
الشرع الإسلامي , وأنه هو الذي وضع لهم (قانون العائلة) كما أنه هو الذي نقحه
للكماليين.
وقد رددت على خطبة مصطفى كمال باشا عند نشرها في أواخر المجلد
الثالث والعشرين (ج١٠ ص٧٧٢ - ٧٨٥) , ثم رددت على كتاب (خلافت
وحاكميت ملية) في المجلد الرابع والعشرين (ص٦٩٢) , وسأعود إلى رد
شبهات أخرى لهم في الخلافة وفي مسائل التعليم الديني والمحاكم الشرعية والأوقاف.
ليس سيد بك وحده هو الذي يعمل للكماليين ما كان يعمل للاتحاديين , بل أوى
إليهم سائر دعاة الانقلاب الديني ودعاة تحويل الترك عن القواعد الإسلامية إلى
القواعد التورانية والإفرنجية: كضياء كوك آلب صاحب ديوان الشعر الذي سموه
(قرآن الترك) وأحمد أغايف، ويوسف أقشورا، وآغا أوغلي أحمد، وحمد
الله صبحي وكذا جلال نوري، فهم الآن يتولون إدارة رحى الانقلاب الديني
والاجتماعي، ولهم من المكانة والحرية في الطعن في الإسلام والصد عن سبيل الله
وابتغائها عوجًا فوق ما كان لهم في عهد الاتحاديين.
وقلما يعرف لأحد من هؤلاء المفسدين نسب صحيح وعرق راسخ في الترك،
ولكن نعلم أن منهم من قذفته البلاد الروسية إلى عاصمة الترك لأجل هذه الأعمال.
وكل من قال للترك: إنني منكم. يعدونه منهم إذا كان يتكلم بلغتهم. وإنما عني
زعماء الاتحاديين فالكماليين بما أشرنا إليه من عمل هؤلاء لأجل سل الشعب
التركي من الإسلام ليكون الانقلاب بتغيير الأمة ما في أنفسها فيدوم. فإنهم علموا
أن ما وجد بقوة خارجية يزول بقوة مثلها معارضة لها وفاقًا لما بيناه في المقدمة
التمهيدية، وأما مراعاة شعور العالم الإسلامي فلا قيمة لها عند هؤلاء , بل يظهر
لنا أنهم وازنوا بين ما لهم من الفائدة السياسية والمادية من عطف العالم الإسلامي
عليهم مع تقيدهم بالإسلام والخلافة التي تمثل حكومته أو هدايته، وبين فوائد
الانطلاق من هذا القيد , فترجح عندهم هذا الانطلاق، وقد خطأهم في هذا الترجيح
العالم الإسلامي والعالم الأوربي , كما علم مما نقلته البرقيات وصحف الأخبار من
آراء العاملين في إلغاء الخلافة، وإننا ننشر نموذجًا منها للاستدلال والاعتبار.
***
تأثير الانقلاب التركي في العالمين
لقد رجفت في الترك الراجفة، وتبعتها الرادفة، فإذا قلوب أهل الشرق واجفة،
وأبصارهم خاشعة، يقولون أئنا لمردودون في الحافرة؟ ذهبت خلافة النبوة،
فانقطع سلك الجامعة الإسلامية، وستبدها الحكومات الضعيفة أو المحمية بددًا،
ويفرقون بها المسلمين طرائق قددًا....
وإذا عيون أهل العرب شاخصة، وأذهانهم حائرة، يتساءلون عن النبأ العظيم،
متعجبين من تهوك الترك المغرورين، مراقبين لما يكون من أمرهم وأمر المسلمين.
لم تبق جريدة من جرائد الشرق والغرب للمسلمين أو الكتابيين أو الوثنيين إلا
وقد استكبرت هذا الخطب جدًّا، وعدته أمرًا إدًّا، وإن سر أقوامًا وساء آخرين،
ولكن كان أغرب أنبائه أنه أحدث هزة في جميع العالم إلا في البلاد التركية التي
فيها حدث وعنها صدر، وهذا دليل على إحداثه بقوة الجندية، وعلى فقد الحرية
من البلاد التركية، كما بيناه آنفًا، فنسبته إلى الشعب التركي باطلة؛ إذ لا يعقل أن
يتجرد شعب من الشعوب في أيام أو أعوام معدودات مما رسخ في نفسه مدة بضع
قرون من عقائد ونظم وأحكام وحكام، توارثت إجلالها الأجيال بعد الأجيال.
إن زعماء هذا الانقلاب يعترفون بأن أدنى شعوب أوربة أرقى من الشعب
التركي في علوم الحقوق وملكات الحكم الديمقراطي , وفي الحرية بأنواعها , ولذلك
يريدون بكل ما عملوا ويعملون اللحاق بالأوربيين في ذلك وفي ثمراته. ولا يزال
أكثر هذه الشعوب عددًا، وأرقاها أحكامًا ونظمًا، وأرسخها في الديمقراطية قدمًا،
راضية بأن يكون رئيس حكومتها عاهلاً وملكًا، وأن يكون حامي الإيمان ورئيس
الكنيسة فيها كالشعب الإنكليزي وكذا الشعب الألماني , الذي فاقه في العلوم
والفنون، وإنما جمهوريته الحادثة عرض من أعراض الخذلان في الحرب، تحافظ
عليه الدولة الظافرة المسيطرة على هذا الشعب، ولم تكن هذه الدولة ولا تلك
كدولة آل عثمان فيما كان لها من النفوذ الديني والدنيوي، لو كانت ذات أمة تحسن
الانتفاع بهذا النفوذ، وتقيده بما شرعه الإسلام من الشورى وسيطرة أهل الحل
والعقد.
ليس من موضوعنا الإطالة في هذه المسألة , ولا ننكر أن الحكم الإسلامي
أقرب إلى الجمهورية منه إلى الملكية المطلقة، وإنما موضوعنا تأثير الانقلاب
التركي في العالم، وإننا نذكر هنا بعض الشواهد على تأثيره في مصر، ونرجئ
الشواهد على تأثيره وآراء غير المصريين فيه إلى جزء آخر.
***
رأي المصريين في الانقلاب التركي
أرسل أفراد كثيرون وجماعات كثيرة برقيات إلى مصطفى كمال باشا يصفونه
فيها بضد ما كانوا وصفوه عند الصدمة الأولى , التي لم يفقهوا المراد منها، فقد
وصفوه الآن بالكفر والإلحاد، وعداوة الإسلام والظلم والطغيان، وقد نصح له
بعضهم بوجوب الرجوع عن غيه وضلاله، وهدده آخرون بما هو جدير بأن
يضحك منه، وكتب كثيرون مقالات في جميع الصحف نختار منها هنا بعض ما
كتبه أشد كتاب المصريين المشهورين تأييدًا للترك ومبالغة في الدعوة إليهم والدفاع
عنهم: الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش - وقد صار أوسعهم بهم علمًا - والأستاذ
أمين بك الرافعي والأستاذ محمد شاكر.
رأي الشيخ شاويش في كمال والكماليين والاتحاديين:
مما كتبه في جريدة الأخبار ثلاث مقالات عنوانها (القنبلة الكمالية) , افتتح
المقالة الأولى وقد نشرت في عدد الأخبار الذي صدر في ٣ رجب الموافق ٦ مارس
بوصف ما ناله مصطفى كمال باشا من الشهرة والعظمة الإسلامية والعسكرية
والسياسية , بحيث لو مات أو اعتزل شؤون الدولة بعد ختام مؤتمر الصلح؛ لكان
له مقام لا يبلغه زعيم في التاريخ - وهذا رأي قد شارك الشيخ فيه كثير من
المفكرين ثم قال ما نصه:
(لقد كان يمكن أن يكتفي مصطفى كمال في مسألة الخلافة بالنحو الوسط
الذي كان قائمًا لعهد جلالة الخليفة عبد المجيد , ذلك الحل الذي منع الخليفة من
التدخل والاتصال بأمر الدولة التركية السياسي , والذي لم يحدث من الخليفة ولا من
أسرة البيت العثماني ما يدعو إلى تغييره بله محوه.
خرج الخاقان السابق وحيد الدين على النحو المعروف فكتب الغازي إلى ولي
العهد عبد المجيد خان يقترح بيعته بالخلافة، على شريطة ألا يمس شؤون الدولة
السياسية , فلم يلبث عبد المجيد أن قبل البيعة على هذا الشرط , وظل صادقًا لوعده
موفيًا لعهده. حتى لقد أكد الخليفة لي ذات يوم أنه قطع على نفسه ألا يفكر في شيء
من أمور تركيا وأن كل همه أن ينقطع لخدمة الإسلام. ولقد أعرب لي عن
ضرورة إيجاد مجلس للخلافة , تمثل فيه الشعوب الإسلامية؛ ليتمكن بذلك من
إصلاح شؤون المسلمين وترقيتهم ومحاربة البدع والخرافات والضلالات التي
وجدت سبيلها بينهم، وأذهبت ريحهم.
كان يذكر جلالة الخليفة ذلك وهو مطمئن القلب , لا يحلم بما كمن له وراء
آكام أنقرة , فالخليفة كما أعلم يقينًا لم يدر بخلده أن يكيد للجمهورية , ولا أن
يشخص ببصره إلى التدخل في شيء من أمورها , ولكن أبى الله لحكمة يعلمها إلا
أن يتقدم الغازي بما قرره اليوم فيصيب كبد الإسلام بتلك القنبلة القتالة , ويزلزل
صرح الوحدة الإسلامية ذلك الزلزال الشديد.
لقد طمح الغازي ذات يوم أن يكون الخليفة كما علمت عند هبوطي أنقرة , فلم
يمنعه من ذلك سوى خشيته أن يحدث اضطراب داخلي يهدد المملكة قبل تمام
الصلح , لما يعلمه من فرط تعلق الأمة التركية بالبيت العثماني وبالخلافة الإسلامية
فهل تبدلت اليوم ميول الأمة التركية وعواطفها إزاء خليفتها والبيت الذي أورثها هذا
الملك العظيم؟ إن الغازي يعلم - فيما أعتقد - أن خطوته التي خطاها محفوفة
بالأخطار في الداخل. وهذا يفسر لنا ما نشرته التلغرافات العمومية الخصوصية،
من أنه قرر تكثير محاكم الاستقلال ومنحها حتى الحكم بالقتل , وامتدادها حتى فوق
ضفتي البسفور. ولكن هل يغني حذر من قدر؟! إن الأمة التركية - فيما نعلم -
أمة مسلمة ومحاربة , وإذا اعتمد الغازي على بعض اللادينيين ممن حوله فإن في
الضباط من لا يزالون يعتصمون بالإسلام , وينقشون على (قلابقهم) كلمة
(يا غازي يا شهيد [١] ) .
إن الذين يزينون لمصطفى ما فعل إنما هم فئة التتار التي دستها روسيا
القيصرية بين الترك لا لغرض سوى القضاء عليهم، وإفساد أمرهم وقطع ما
يصلهم بالمسلمين.
ذلك النفر من التتار لم يترب تربية إسلامية قط , ولا أثر للروح الإسلامية في
أفئدتهم , ولكنهم مسلمون منبتًا وروسيون روحًا.
جاء هؤلاء المفسدون إلى الآستانة قبل الدستور العثماني , فزينوا للاتحاديين
مسألة العنصرية والتباعد عن الإسلام.
وسوسوا للاتحاديين أن سبب تألب أوربة على تركية إنما هو الإسلام وقيام
الخلافة فيها , ثم أخذوا يزينون لهم أن تعتبر غير البلاد التركية من الإمبراطورية
العثمانية مستعمرات محكومة، وأن يكون للعنصر التركي وحده حق الحكم غير
مشارك. ساقوهم إلى الطورانية، وزينوا لهم أن ذلك يمكنهم من ضم عشرات
الملايين من الأتراك القاطنين في آذربيجان والتركستان إليهم.
كما استدرجوهم إلى محاربة اللغة العربية بعد إذ صارت نحو ٧٠% من اللغة
العثمانية , وإلى استبدال الحروف اللاطينية بالحروف العربية، مع أن اللغة التركية
لم تكتب - فيما نعلم - بغير الحروف العربية منذ دخل الترك في الإسلام.
لم يقف وسواس تلك الطائفة وإفسادها للأمة العثمانية عند هذا الحد , بل
خاضوا في الشريعة ومسألة المرأة , وجرؤوا الترك على الفساد وإعلان الإلحاد.
ولما لها من سعة الاطلاع والدرس , استطاعت أن تسوق ذوي الرأي من الترك ,
وجلهم قليل التحصيل محدود الدراسة , لم تثقفه التربية , ولم تنضجه التجارب , ولم
تفقهه بأمر الدين أو التاريخ مدرسة ولا كتاب.
ولقد كادت تنجح تلك الفئة الضالة في زمن الاتحاديين لولا وجود المرحومين
البرنس سعيد حليم وأنور باشا , فإن امتلاء قلوب هذين الرجلين بالإسلام ووفرة
محصولهما التاريخي , ويقينهما أن سلامة تركية لا تتحقق إلا بارتباطها بالعالم
الإسلامي , وأن عظمتها لا تقوم إلا على دعائم الخلافة , كل ذلك حمل هذين
الرجلين العظيمين على القيام في وجه أولئك الهادمين ومن حذا حذوهم من الترك
الغافلين، ولكن - ذهب الناس وبقي النسناس - فقد حرمت المملكة العثمانية
المصلحين المفكرين , وخلا الجو لذلك النفر من التتار المارقين، فما لبثوا أن
بطشوا بيد مصطفى بطشتهم بالإسلام وبتركية جميعًا. (ثم قال بعد كلام في تعظيم
وقع الخطب وخطره على المسلمين) .
(أما تركية فقد مادت بها أنقرة ميدًا هدم أركان عظمتها وهبط بها في
الدول السياسية إلى ما دون منزلة بلغاريا. فلقد كانت معدودة من الإمبراطوريات لا
بواقعة سقاريا ولا بخرائب أنقرة , ولكن بقيام مقام الخلافة في ربوعها - ذلك المقام
الذي ملك الترك القلوب والأبصار من ثلاثمائة مليون من المسلمين - ذلك المقام الذي
جعل مسلمي الأرض يدخلون في الإمبراطورية التركية , ويدعون سليمًا وغير سليم
لاستلحاق ممالكهم راغبين، فلم يكن يجد هؤلاء في آسيا وإفريقيا الشمالية ما
يضطرهم إلى امتشاق الحسام وسوق الفيالق , بل كانوا يدعون إلى دخولها كما
يدعى الأخ إلى منزل أخيه، ولولا ما كان لبعض أمراء تلك البلاد من المقاومات
التي لم يؤيدها شعوبهم؛ ما وجد الترك في صدر دولتهم - ببركة الخلافة - عقبة ما
في نشر رواق سلطانهم على تلك الممالك.
فقدت تركية اليوم ذلك المقام (مقام الخلافة) , ففقدت بفقده تلك الرابطة
القدسية التي كانت سياجًا لها في أحرج أوقاتها , فهل تستطيع جمهورية مصطفى
كمال اليوم - وهي ذات خمسة ملايين من النفوس - أن تحمي نفسها أمام
مطامع الطامعين بعد إذ حرمت عطف العالم الإسلامي؟) اهـ.
ثم ختم المقال بتهديد الكماليين بانفصال الكرد عنهم , وتألب العنصر التركي
عليهم , وتهديد تركية بالتردي في الحفرة التي حفرها لها سادتها وكبراؤها.
***
القنبلة
رواية الشيخ شاويش عن مصطفى كمال:
ومما قاله في المقالة الثانية التي نشرت في الأخبار بتاريخ ٣ شعبان الموافق
٩ مارس:
(هبطت أرض أنقرة في السابع عشر من شهر ديسمبر سنة ١٩٢٢ , وبعد
بضعة أيام ذهبت مع صديق لي من الوزراء إلى دار المجلس الوطني الكبير؛
لزيارة مصطفى كمال باشا , وقد كنت عاهدت نفسي ألا أتكلم معه في أمر الخلافة ,
لما اتصل بي من نيته تجاه البيت الشاهاني قبل ذلك بأيام؛ أي: يوم هبطت
مدينة أزمير , ولكن لم نكد نأخذ مجلسنا في حضرته حتى استقبلني بهذا السؤال. ما
رأيك يا فلان في أمر الخلافة وفصلها عن سياسة الدولة؟ فاستقلته الجواب معتذرًا بأن
في المجلس الوطني الكبير من العلماء وذوي الرأي ما يغنونه عن رأيي , ولكنه أصر
علي إلا أن أبسط له ما لدي من الرأي , ولقد علمت من بعد أنه ما كان يريد
من استفتائي الوقوف على ما حف به ذلك الأمر الخطير من المحاذير والأخطار ,
أو العلم بما جاء في الشريعة من أحكام الخلافة والخلفاء , ولكن كان كل همه أن
يسبر غوري , ويعرف مجرى فكري , ولذلك ألح في سؤالي وأبى إلا أن أصارحه
برأيي , فلما لم أجد بدًّا من القول أجبته أنه (ليس في الإسلام خلافة بلا قوة ,
كما أنه ليس في الإسلام خلافة مستبدة) أجبته بهذه العجالة الوجيزة وكنت أرجو
أن يجد فيها من المعاني والمغازي ما يصدفه عن الاسترسال في المساءلة ,
ولكنه عاد فسألني: إذن بم تفسر ما فعله عبد الحميد وغيره من الخلفاء العثمانيين؟
وإلام تعزو ما أصابوا به الدولة من النكبات والأرزاء؟ أليس أولئك الخلفاء هم
الذين كانوا مصدر شقائنا وبلائنا؟ أو ليسوا هم الذين ساقونا إلى تلك الحرب
الطاحنة , وضاعفوا مصابنا بما أصدروا من فتوى الجهاد وأمثالها؟ فلما فرغ من
أسئلته هذه قلت: إن الخلفاء الذين قاموا في السنوات الدستورية لم تطلق أيديهم في
تدبير البلاد , ولا كانوا مستبدين بأمرهم , بل كانت تجري الأمور في المملكة لا
يحيطون بها علمًا. وكلنا يعلم كيف تقرر إعلان الجهاد , وكيف كانت حادثة البحر
الأسود التي انتهت بإعلان الحرب , وكيف جرد المرحوم السلطان محمد الخامس
من القوة , حتى لقد رأينا الدكتور ناظم بك أحد أركان الاتحاديين يذهب إلى سراي
الخليفة عام ١٩١٦؛ لينقص أعطية من فيها من الرجال والنساء , ويفرض لهم من
الرزق مثل ما كانوا يفرضون للعامة والآفاقيين، على أنه إذا كان لهؤلاء الخلفاء
في زمن الدستور شيء من الامتيازات القانونية، فما ذلك إلا لكون الدستور جعلهم
خلفاء على الأصول الرومانية، لا خلفاء وفق الشريعة الإسلامية.
فلما بلغت هذه العبارة تخلّجتْ عينَا الباشا , وأخذه ما يأخذ المستفسر العجل
من الحركات المضطربة , وسألني متخازرًا: وكيف ذلك؟
قلت: ذلك أن الإسلام أنكر الفروق الطائفية وامتياز الطبقات والأفراد بعضها
على بعض في الأحكام والتكاليف الشرعية , بل أقام سائر العوالم البشرية في
مستوى من تكاليفه تتحاذى فيه الأقدام والرؤوس , فلا يمتاز في أحكام دين الإسلام
رجل عن امرأة , ولا أمير عن سوقة , ولا فقيه عن غيره , بل كلهم خاضعون
للقانون السماوي] ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به. ولا
يجد له [٢] من دون الله وليًّا ولا نصيرًا [بذلك سوى الإسلام بين الرعاة والرعايا
في سائر الأحكام والتكاليف , فقضى بمجازاة من يعتدون حدود الله بلا تفرقة ولا
تفاوت، فإذا أصاب أمير أو سلطان أو خليفة أي فرد بأذى؛ كان عليه من الجزاء
مثل ما على غيره من عامة الناس، سواء كان ذلك الأذى عدوانًا على نفس أو
جارحة أو عرض أو مال. فليس في دين الإسلام فوق الشرائع والأحكام أمير ولا
خليفة ولا سلطان، ولكن تركية التي قلدت أوربا اقتبست من القوانين الرومانية
قاعدة أن الخلفاء فوق القانون والشرائع , فأصبح الخلفاء بهذا خلفاء رومانيين لا
خلفاء إسلاميين، ولو عقل رجال النهضة الدستورية إذ ذاك؛ لأدركوا ذلك الفرق
البعيد بين دين يقول: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) ويقول:
{إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ} (الأنعام: ٥٧) ويقول:
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وبين شرائع قامت في أقوام , كانت
تعبد الملوك والبراطرة , وتعدهم مصدر الاشتراع والحكم , فرفعتهم إلى مستوى
الإله الحق الذي هو وحده يحكم لا معقب لحكمه.
أوجب دين الإسلام طاعة أولي الأمر ولكن على شريطة ألا يأمروا بما يخالف
أوامر الخالق، ثم أبان لنا أنه إذا وقع تنازع بين الراعي والرعية؛ وجب أن
يتحاكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله , فلم يبح لأحد مهما بلغ سلطانه وصولته أن
يحكم الناس بما تهواه نفسه وتستطيعه شهوته , حتى لقد أجاز للناس الخروج على
غير العدول الذين لا يقفون عند حدود الله من السلاطين والأمراء مبيحًا لأولي
الأمر مقاتلتهم، بل وقتلهم , ولقد قتلت طائفة من المسلمين اجتهادًا منهم الخليفة عثمان
ابن عفان ومنزلته من الدين وبلاؤه في نصرة الرسول ما نعلم. وكذلك ألزم الناس
علي بن أبي طالب أن يقبل التحكيم عندما رفعت المصاحف على أسنَّة الرماح ,
وطلب خصومه التحاكم إلى كتاب الله , فلم يسعه - وهو يعلم أن ذلك خدعة
منهم دبروها لبلوغ حاجاتهم - لم يسعه إلا أن ينزل على ما طلبوا من الرجوع إلى
كتاب الله؛ ليفصل فيما شجر بينهم , ولم يغنه أن كان خليفة الرسول , وزوج
ابنته , وصاحب الحق في ذلك المقام.
(وبينا نحن كذلك دخل علينا أحد النواب فقال: يا حضرة الباشا إن أعضاء
المجلس قد اختلفوا أمن قيام يقرأ تلغراف الخليفة الذي أرسله بقبول بيعته أم من
جلوس؟ فسأله الباشا: وكم القائلون بالقيام؟ قال النائب: فوق الثمانين. فما لبث
مصطفى أن أقبل علي وقد قطّب غضبًا يسألني: أحكومة شعب هذه التي تريد
قراءة تلغراف الخليفة من قيام؟ فأجبته: (إنه ليس في الشريعة يا حضرة
الغازي ما يوجب القيام ولا يمنعه , وإنما يرجع في أمثال هذه الحالة إلى ما يجري به
العرف والعادة في الناس. وهنا أحس مصطفى باشا عين ما أحسست أننا لا نتفق
أصلاً. فهَمَّ بالوقوف إيذانًا بالانصراف , فخرجت من عنده وأنا أذكر ما قصه علي
صديق لي في برلين خلال الحرب الكبرى أيام كان مصطفى باشا ياورًا لولي
العهد إذ ذاك وحيد الدين أفندي؛ إذ قال له: إن الاتحاديين دعوني ذات يوم للدفاع عن
جبهة العراق فأجبتهم إلى ذلك وكنت أضمر أن أستقل بالعراق , إذا ما أمكنوني من
السلاح والأموال الكافية. قال: ولكنهم - فيما أظن - شعروا بذلك يوم عرضت
عليهم مطالبي. فإنهم بعد إذ تدبروها أعرضوا عن تعييني في ذلك الميدان ,
واستبدلوا بي غيري. فهم الغازي مما دار بيننا كنه رأيي وفكري , ولكنه لم يكتف
بذلك , فلقد أوعز إلى فرقته في المجلس أن تدعوني ذات يوم للاستفتاء
رسميًّا. فجاءني كتاب من أحد أعضاء هذه الفرقة جلال نوري بك لأكون بمركزها في
يوم ٢ يناير سنة ١٩٢٣ , وهنالك جرى ما سأقصه على العالم الإسلامي فيما
يلي، مما يتبين منه جليًّا أن سبب شقاء الترك وتأخرهم لم يكن دين الإسلام , ولا
قيام الخلافة في ديارهم كما يزين لهم التتار الواغلون ويتوهمه الرهط المارقون،
ولكنها الأمراض الاجتماعية والجهالة الفاشية الفاعلة فيهم ما تعجز عنه الأوبئة
القتالة مما سنأتي بعد على شيء من تفصيله.
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز جاويش
(المنار)
إنما بدأنا بإيراد بعض ما كتبه هذا الأستاذ لثلاث:
(١) إنه كتب عن علم وخبرة؛ لأنه عاشر كبار الاتحاديين , وخدمهم بضع
سنين في عاصمة الدولة خدمة سياسية , ثم خدم الكماليين وأحاط خبرًا بنشأتهم وكنه
حالهم.
(٢) إنه غير متهم في انتقاد هؤلاء ولا أولئك؛ لأن كلاًّ منهما أكرم مثواه ,
وقلده أعمالاً عظيمة كان يأخذ عليها راتبًا كبيرًا.
(٣) العبرة بما كان من الخلاف بيننا وبينه في الاتحاديين في المسألتين
الإسلامية والجنسية , فإننا قد سبقناه إلى معرفة كنه حالهم وما يكيدون للإسلام , وما
يسيئون به إلى الأمة العربية المشاركة لهم في الجنسية العثمانية السياسية , وكتبنا
في ذلك منتقدين وناصحين , فأنكر ذلك علينا الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش ,
وأساء فينا الظن بقدر ما كان يحسنه في الاتحاديين , ورد علينا وطعن فينا، بل كان
خصمًا لكل العرب المستائين من معاملة الاتحاديين، وعونًا لهؤلاء عليهم. ثم ظهر له
أنهم شر مما كنا نقول فيهم. وأكبر وجوه العبرة في هذه المسألة ما نبهت عليه من
قبل , وهو أننا - معشر العرب أو المسلمين أو الشرقيين - لا نزال بعداء عن
العمل المنظم المشترك؛ إذ لا يكاد أحد منا يهتم بأن يبني عمله في خدمة أمته على
اختبار من سبقه من قومه في تمحيص بعض الأمور، بل يعمل كل متصد
للعمل عملاً مستأنفًا , فإذا دمنا على هذا فلا يمكن أن نتقن عملاً ولا أن نرتقي فيه؛
إذ لا يمكن لكل فرد منا أن يحيط علمًا واختبارًا بكل شيء بنفسه، ولو استفاد
المصريون والهنود من اختبارنا السابق , واختبار الشيخ شاويش اللاحق لما
رأيتهم اليوم يطمعون في تحويل مصطفى كمال عن رأيه في الخلافة والدين والدولة.
***
ما هذه العاصفة الهوجاء
أول مقالة للأستاذ الشيخ محمد شاكر في الانقلاب نشرها في المقطم
خليفة يخلع، وخلافة تلغى، وأموال تصادر، وأوقاف تضم إلى أملاك الدولة
وتعليم ديني يمحى، ومحاكم شرعية تغلق، وأسرة عثمانية تطرد من آفاق البلاد،
وتحرم حتى من جنسيتها التركية، فما هذه العاصفة الهوجاء؟ عاصفة الجنون التي
تهب على العالم في مشارق الأرض ومغاربها , من عاصمة الجمهورية التركية
بقرارات الجمعية الوطنية في أنقرة كما تقول جريدة الجورنال الباريسية.
رحم الله زمانًا كنا نعطف فيه على هذه الفئة إبان تمردها على السلطنة
العثمانية , وهي تجالد مجالدة الأبطال؛ لطرد الأعداء من الأناضول، وزحزحة
الحلفاء عن دار الخلافة. والله يشهد أن الذي حدا بنا إلى العطف على هؤلاء
المتمردين , إنما هو الإشفاق على الخلافة العظمى أن تمتد إليها يد المهانة
والاستذلال. وهي البقية الباقية من مجد الإسلام , وعهد النبوة الأولى , وهي
العزاء الوحيد الذي كنا نتعزى به في نكبات الأيام وصروف الليالي {فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد: ٢٢) {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) .
عاصفة جنون هذه التصرفات التي بها دمر المجلس الوطني في عاصمة
الجمهورية التركية مجد السلطنة العثمانية , حتى جردها من تاج الخلافة العظمى
وقد احتملته رؤوس العظماء من آل عثمان أكثر من أربعة قرون.
عاصفة جنون هذه التصرفات التي ألغى بها المجلس الوطني نظامًا كان ولا
يزال من مقومات العالم الإسلامي في تكوينه الحيوي. وأنى لهؤلاء المتمردين على
النظام الديني أن يقتطعوا من مقومات الحياة الإسلامية نظام الخلافة فيقرروا إلغاءه.
حقًّا إن التمرد إذا انتهى بالبطولة استحال إلى العبث بكل نظام يعترضه في
طريقه. فالأبطال من المتمردين ينقلبون مدمرين , إذا لم تقلم أظفارهم هيمنة الأمم والشعوب بقوتها القاهرة. وسوف يرى هؤلاء المدمرون من المتمردين
كيف تقلم الأمم الإسلامية أظافرهم، وكيف يرتدون على أعقابهم خاسرين
أمام العالم الإسلامي حتى من الشعب التركي نفسه {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: ٤٥-٤٧) . {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ} (الأعراف: ٩٩) .
عجيب أمر هؤلاء الذين تسللوا في جنح الظلام إلى كهوف الأناضول , وظلوا
يهتفون باسم الإسلام , حتى حازوا فخار النصر. كيف ارتدوا على أدبارهم ,
يحاربون الإسلام بأسوأ أداة ملكتها أيديهم في أعز عزيز على العالم الإسلامي وهو
نظام الخلافة؟
ما كانت الخلافة يومًا ما نظامًا قوميًّا , تتقاذفه أيدي المتسلطين في الجمعيات
الوطنية , حتى يتسنى لزعماء الجمهورية التركية أن يقرروا إلغاءه.
إنما الخلافة نظام ديني عام لا يحل لرجل يؤمن بالله ورسوله أن يتخلى عن
الاندماج في دائرته المرنة. كذلك كان نظام الخلافة منذ تولاها أمير المؤمنين أبو
بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم. إلى أن تقلدها بالبيعة العامة أمير المؤمنين عبد المجيد بن عبد العزيز {فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: ١٠) .
ماذا تركته حكومة الجمهورية التركية من التقاليد الإسلامية لم تنقضه رأسًا على
عقب بعد خلع الخليفة وإلغاء الخلافة , وهي تضم أوقاف المسلمين إلى أملاك الدولة
وتقرر إلغاء المحاكم الشرعية , وإغلاق معاهد التعليم الديني , وتضع للنظام العائلي
قانونًا يهدم أصول الشريعة الإسلامية في كثير من أحكامه , ويذهب بتلك الفضائل
والآداب التي أفاضها الإسلام على المستمسكين بعروته الوثقى والمستعصمين في
حرز صيانته الحصين؟! {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياً مُّرْشِدًا} (الكهف: ١٧) .
عاصفة جنون هذه التي هبت على العالم الإسلامي من عاصمة الجمهورية
التركية في نظامه الدولي، ونظامه الحكومي، ونظامه العائلي. ولكنها ستنقشع
بتوفيق الله , وحكمة عظماء الإسلام وقادته المحنكين في مشارق الأرض ومغاربها
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: ٥٤) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد شاكر
... ... ... ... ... ... ... ... وكيل الجامع الأزهر سابقًا
***
كلمة الأستاذ أمين بك الرافعي
(من مقالة له في جريدة الأخبار بتاريخ ٢٩ رجب الماضي)
يعمل الكماليون بسرعة على تنفيذ قرارهم الطائش بإلغاء الخلافة وعزل
الخليفة، وقد استعملوا في أقوالهم عبارات تدل على غرورهم وجهلهم بعاقبة ما
ارتكبوه ضد الإسلام والمسلمين. فعصمت باشا يزعم في خطبته التي نقلت إلينا
التلغرافات خلاصتها ونشرناها في باب التلغرافات: أن العالم الإسلامي لم يصادق
تركيا إلا لأنها قوية، لا لأنها دولة الخلافة. فهل بعد ذلك جهل وغرور؟!
وقد ذهبوا إلى جلالة الخليفة في ساعة متأخرة من الليل , وأمروه بالجلوس
فوق العرش , وبعد أن تلوا عليه قرار العزل أنزلوه وساروا به في سيارة إلى
الحدود، ومنها إلى سويسرا. فعلوا به ذلك في جنح الظلام؛ لأنهم يعلمون أنهم
يرتكبون جريمة شنيعة , ومن أجل ذلك تراهم أيضًا يعقدون محاكم التفتيش في
جميع أنحاء البلاد , ويخولونها سلطة الحكم بالإعدام؛ ليملؤوا النفوس إرهابًا حتى
لا تثور على قرارهم.
ولكن هل مثل هذه التدابير الإرهابية تحول دون إظهار الاستياء العام من
فعلتهم القبيحة؟
وبهذه المناسبة لا نرى بُدًّا من توجيه نظر علمائنا الأفاضل إلى ضرورة
قيامهم بواجبهم الديني في هذه الحادثة الخطيرة. فقد سبق لهم أن أعلنوا بيعتهم
لجلالة الخليفة , ولما كانت البيعة قائمة بالرغم من قرار أولئك الملحدين الخارجين
على الإسلام , فيجب على العلماء أن يعلنوا ذلك في اجتماع كبير يعقدونه ,
ويبرقون بقراراته إلى حكومة أنقرة؛ لتعلم أن العالم الإسلامي ساخط على أعمالها
المنكرة.
كما نرجو من علمائنا أن يدعوا جلالة الخليفة للحضور إلى مصر ليعيش
وأسرته في بلد إسلامي , ويكون متصلاً بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛
لأن فكرة إبعاده إلى سويسرا لا يقصد منها سوى الحيلولة بينه وبين المسلمين.
وبالجملة! فإن على علماء المسلمين في الظرف العصيب الذي يجتازه الإسلام
الآن فروضًا مقدمة , يجب عليهم أن يقوموا بها بلا توان ولا تردد لدرء الخطر
الذي يتهدد الإسلام والمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين الرافعي