الحمد لله الذي جعل العربية أشرف لسان، وأنزل كتابه المحكم في أساليبها الحسان، والصلاة والسلام على من بهر البلغاء بلهجته البارعة، وعلى آله وصحبه العاملين على منوال حكمته الرائعة، أما بعد، فقد كنت أيام دراستي لعلم العربية أَمُرُّ على أحكام تختلف فيها آراء علمائه فيقصرها أحدهم على السماع ويأذن الآخر في القياس عليها، دون أن يذكروا الأساس الذي قام عليه الخلاف، فأرى التمسك بمثل هذه الأقوال من التقليد الذي لا ترتاح إليه النفس، ولا سيما حين أذكر أن كثيرًا من أصحاب هذه الأقوال قد تلقوا العربية من كتب يمكننا الاستقاء منها، فأخذت ألفت نظري إلى الأصول العالية التي يراعونها في أحكام السماع والقياس حتى ظفرت بقواعد وقفت على تفاريق منها في صريح كلامهم وانتزعت شذورًا أخرى من موارد أحكام جزئية تقصيت آثارها في أبواب شتى. ولمَّا شرعت في مدينة دمشق بمطالعة بعض الكتب العربية (كمغني اللبيب) بمحضر طائفة من أذكياء الطلبة، كنت أذهب في تقرير مسائل السماع والقياس على تلك الأصول التي لم تدخل بعد في سلك التأليف، وعند هذا اقترح عليَّ أولو الجد منهم جمعها وتحريرها ليكونوا على بينة منها خلال المطالعة، فطاوعتهم على ما اقترحوا حتى تكاملت في مقالات تشرح حقيقة القياس وتفصل شروطه وتحرر مواقعه وأحكامه. *** تمهيد لا يكون الكلام عربيًّا فصيحًا إلا إذا صحَّت مفرداته واستقام تأليفها، أما صحة مفرداته ففي النطق بحروفه على مقتضى الوضع من غير أن تُغيَّر بنقص أو زيادة أو إبدال أو قلب في هيئة ترتيبها أو حال حركتها وسكونها، وأما استقامة تأليفها فبانطباقها على أسلوب نسجت عليه العرب في مخاطباتها، ولا تتحقق هذه المطابقة إلا برعاية أحكام التقديم والتأخير والاتصال والانفصال والحذف والذكر. وهل نتوقف في إطلاق الكلم وتأليفها على معرفة وضعها الخاص ونظمها الوارد بحيث لا نستعملها حتى يثبت لدينا من طريق الرواية كيف نطق بها العرب، أو أبقى واضع اللغة طريق القياس مفتوحًا فيسوغ لنا أن نلحق الكلم بأشباهها في هيئة مبانيها أو نسق تركيبها ونُسَوِّي بينها في الأحكام إذا أعوزنا السماع. هذا موضع تشعبت فيه أنظار الباحثين في العربية، فبعد اتفاقهم على العمل بالقياس وتضافر عباراتهم على أنه من مآخذ اللغة غلا بعضهم في التعلق به واتسع في مجاله إلى ما يخرج بالكلام عن صبغته العربية، وضيَّق آخرون الغاية إلى حد يقرب من موقف الجامد على الرواية في أوضاع الكلم وتصرفاتها. وقد انتبذ المحققون بين هذين الطرفين مسلكًا يبقي على اللغة شعارها ويبسط في نطاقها بمقدار ما يتسوغه ذوق آكل الشيح والقيصوم. ولا تجد عالمًا مفردًا أو أهل بلد اطردوا في هذه الجادة ولم يحيدوا عنها في قضية فكانت جميع أقوالهم في محل الاعتدال، بل ترى القول الحق والقياس الوسط يدور بين مذاهبهم فيصيبه هذا تارة ويحرزه مخالفه تارة أخرى، وذلك شأن العلوم التي يُستند في تقرير قوانينها إلى اجتهادات العقول. *** الحاجة إلى القياس وضعت اللغات ليعبر بها الإنسان عما يبدو له من المآرب ويتردد في ضميره من المعاني، ومن البَيَّن جليًّا أن المعاني تبلغ في الكثرة إلى أن تضيق عنها دائرة الحصر، وتنتهي دونها أرقام الحاسبين، فلم يكن من حكمة الواضع سوى أن وضع لبعض المعاني ألفاظًا عينها كالسماء والمطر والنبات، ولوح إلى البقية بمقياس تصاغ الكلم في قوالبها فتدخل في زمرة ما هو عربي فصيح. ولولا هذه المقاييس لكانت اللغة أضيق على المتكلم بها من مفحص قطاة، فيقع في نقيصة العي والفهاهة، ويكثر من الإشارات التي تخرج به عن حسن السمت والرصانة، ويرتكب التشابيه محاولاً بها تقريب المرام من فهم المخاطب لا كما يستعملها اليوم حلية للمنطق ومظهرًا من مظاهر البلاغة. ولو فرضنا صحة أن يوضع لكل معنى لفظ يختص به كأن نجنح إلى أن منشئ اللغة هو مبدع الخليقة لكان الحرج الذي تقع فيه اللغة أن تضيق المجلدات الضخمة عن تدوينها، وتعجز النفوس الناطقة عن حفظ ما فيه كفايتها. فالقياس طريق يقرب به تناول اللغة ووسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والتراكيب دون أن يقرن سمعه أو يحتاج في معرفتها إلى مطالعة القاموس أو اللسان. وربما يلوح لك أن الألفاظ المرادفة تغني عن القياس في الكلم المفردة لو صرفها الواضع إلى المعاني التي لم يعين لها أسماء. فنقول: إن للمترادفات مجالاً فسيحًا وأثرًا بليغًا في الفصاحة والبلاغة، فلا يصح أن تكون العربية عارية منها، ثم إنها على كثرتها لا تبلغ أن تسد مسد القياس في مثل المصادر والأفعال والأوصاف المشتقة وجموع التكسير، فضلاً عن كون الكثير من هذه المترادفات إنما نشأت من لغات متعددة. *** ما القياس؟ يُسند القياس أحيانًا إلى العرب أنفسهم فيكون من قبيل التنبيه على علة الحكم الثابت عنهم بالنقل الصحيح، كما قال النحاة: أُعرب الفعل المضارع قياسًا على الاسم، وعَمِلَ اسمُ الفاعل قياسًا على الفعل، ودخلت الفاء خبر الموصول في مثل قولهم: (من يأتيني فله درهم) قياسًا للموصول على الشرط. ويضاف تارة إلى الباحثين عن أحوال اللفظ العربي، فيراد منه أحد معانٍ ثلاثة: (أحدها) : أن تعمد إلى اسم ورد استعماله في معنى يشتمل على وصف يناسب التسمية كالخمر، فتعديه إلى معنى آخر تحقق فيه ذلك الوصف وتجعله من مدلولاته كالنبيذ تعده فيما يتناوله اسم الخمر حيث كان يخمر العقل ويستره، وهذا النوع من القياس هو الذي يعنيه المحققون من الأصوليين بقولهم: لا تثبت اللغة بالقياس. (ثانيها) : إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب حتى انتظمت منه قاعدة عامة كصيغة التصغير والنسب والجمع ورفع الفاعل وبناء العلم والنكرة المقصودة في النداء. (ثالثها) : إعطاء الكلم حكم ما ثبت لغيرها مما هو مخالف لها في نوعها كما أجاز الجمهور ترخيم المركب المزجي، قياسًا على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث، وأجاز ابن مالك حذف العائد المجرور في الصلة إذا تعين حرف الجر؛ قياسًا على حذفه في الجملة الخبرية، والمعنيان الأخيران هما موقع النظر ومجال البحث في هذه المقالات، وآثرت للفرق بينهما التعبير عن الأول بالقياس الأصلي وعن الثاني بقياس التمثيل. وللكلم أحوال في نفسها، وأحوال من جهة ما يقترن بها، فيتوجه النظر في القياس إلى الأحوال العارضة لها من حيث مبانيها المفردة كاشتقاقها ووسعها ثم إلى الأحوال الجارية عليها من جهة نظم بعضها في سلك بعض، وترجع أحوال النظم إلى الاتصال والانفصال والتقديم والتأخير والحذف والذكر والعمل والإعراب والبناء والاستعمال، فكان المقصد من هذا التحرير يدور على البحث في القياس الأصلي والقياس التمثيلي ومباحث مشتركة بينهما. *** المقالة الأولى في القياس الأصلي ما يقاس عليه: يَجمع اللسان العربي تحت اسمه لغات شتى، ولكنها تختلف فيما بينها اختلافًا يسيرًا مثل اختلافها في بعض أحوال الكلم من حركة وسكون، أو إعراب وبناء، أو إعمال وإهمال أو ترتيب حروفها أو إبدال بعضها من بعض، أو الزيادة والحذف. تتفاوت هذه اللغات بالجودة وفصاحة اللهجة، وجميعها مما يصح القياس عليه. قال ابن جني في الخصائص: اللغات على اختلافها كلها حجة والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وقال أبو حيان في شرح التسهيل: كل ما كان لغة لقبيلة صح القياس عليه، وقال البطليوسي في شرح الفصيح: المشهور في كلام العرب: ماء ملح، ولكن قول العامة: مالح، لا يعد خطأ وإنما هو لغة قليلة. ومن اعتمادهم على هذا الأصل كان الصحيح عندهم جواز القياس في تقديم عامل (كم) الخبرية عليها؛ لأنه لغة حكاها الأخفش عن بعض العرب. ويعتمد في تقرير الأحكام اللفظية على أقوال الجاهلية كامرئ القيس وزهير، والمخضرمين كحسان ولبيد، والإسلاميين كالفرزدق وجرير وذي الرمة، أما المحدثون ويدخل في زمرتهم بشار بن برد وأبو نواس وأبو تمام فلا يعول في الاستشهاد على أوضاع الكلم وأحوالها التركيبية على شيء من منشآتهم أو منظوماتهم، ولهذا ترى النحوي يسومهم سوء التخطئة والتلحين حيث وقعوا فيما يخالف القواعد المسلَّمة وإذا كان الحكم الذي لم تطابقه عبارتهم من مواقع الخلاف أقام لهم العذر بأنهم قد بنوا كلامهم على المذهب الضعيف، ثم إذا عثر على صنيعهم الصادر من الجاهليين أو الإسلاميين لا يسعه إلا أن يقضي فيه بالشذوذ أو يقتحم في تصحيحه طريقة التأويل. وقال الزمخشري في كشافه بعد أن استشهد بشعر لأبي تمام: وهو إن كان محدثًا لا يُستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. وتلقى هذه المقالة الشهاب بسماع المقلد فقال في شرح الدرة: اجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه. وقد كشفنا فيما كتبناه في حياة اللغة العربية عن وجه الخطأ في هذه المقالة، وكيف يحتج بأقوال هؤلاء وقد عثروا في أغلاط كثيرة لا يستطيع أحد السبيل إلى تخريجها على محمل صحيح، فهذا أبو نواس يقول: وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس والصواب في مصدر نزع عن الشيء: إنما هو النزوع وهذا أبو تمام يقول: لعذلته في دمنتين تقادما ... ممحوتين لزينب وسعاد والصواب: تقادمتا وهذا المتنبي يقول: فإن يك بعض الناس سيفًا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول والصواب في جمع بوق: بُوَق - كصُرد - أو أبواق. ومن لا يعتمد في تقرير أحكام اللفظي على استعمال المحدثين يرى أن استناد بعض المتأخرين في تصحيح بعض الكلم إلى استعمال أحد أهل العلم غير سديد، يرد بعضهم على صاحب القاموس في قوله: (الأنموذج لحن) بأن الزمخشري سمَّى كتابًا له بالأنموذج، والنووي عبَّر به في المنهاج عند قوله (أنموذج المتماثل) وهو رد غير مبني على أصول العربية؛ إذ لا حجة إلا في كلام من ينطق بالعربية عن سليقة، وهذا الشرط لا يتحقق في أبناء المائة الخامسة كالزمخشري أو المائة السابعة كالإمام النووي رضي الله عنه، وكم من إمام في العربية ينطق أو يؤلف بعبارة تخالف مذهبه الصريح، أفلم يشترط ابن هشام في كتاب (المغني) لدخول هاء التنبيه على الضمير كون خبره اسم إشارة؟ ولم يحتفظ بهذا الشرط، فقال في خطبة الكتاب نفسه (وها أنا بائح) ووقع صاحب القاموس في هذه الهفوة بعينها فشرط لاتصال حرف التنبيه بالضمير ما شرطه ابن هشام من الإخبار عنه باسم إشارة ولم يقم على ما شرط فقال في خطبة كتاب القاموس (وها أنا أقول) . ويؤكد لك عدم صحة الاحتجاج بما يستعمله علماء العربية أن صاحب القاموس صرَّح بأن كلمة (بعض) لا تدخلها اللام وهو يعلم كما نقل عقب هذا الحكم أن سيبويه والأخفش قد استعملاها في كتابهما. ونحتج بالكتاب الحكيم ونعمل بالقياس على ظواهره ما طابقت مقتضى البلاغة ولا نتبع سبيل الذين يحيدون به إلى جانب التأويل انتصارًا لما سبق إلى ظنونهم وتقرر في مذاهبهم من أحكام فقهية أو عربية. قال الفخر الرازي في تفسيره: إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول فجواز إثباتها بالقرآن العظيم أولى، وكثيرًا ما نرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن دليلاً على صحته كان أولى. وقال ابن حزم في كتاب (الفِصَل) : ولا عجب أعجب ممن إن وجد لامرئ القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح أو لأعرابي أسدي أو سلمي أو تميمي أو من سائر أبناء العرب لفظًا في شعر أو نثر - جعله في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلامًا لم يلتفت إليه ولا جعله حجة وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه. ومن أمثلة ما أشار إليه ابن حزم أنه ورد الفصل بين المصدر المضاف وفاعله المضاف إليه بالمفعول به في قوله تعالى: {قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (الأنعام: ١٣٧) كما قرأ ابن عامر بنصب (أولادهم) وخفض (شركائهم) فقضى عليها الزمخشري بالخطأ وقال: الذي حمل ابن عامر على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف (شركائهم) مكتوبًا بالياء. وذهب السكاكي في مفتاحه إلى تلقي القراءة بالتسليم وفاقًا لمن يقول: إن القراءات السبع متواترة، ولكنه تأول الآية على تقدير مضاف إليه يتصل بقوله (قتل) ومضاف عند قوله (شركائهم) والمقدر في الموضعين من نوع المنطوق به فيكون سبك الآية بعد التصريح بالمقدرة (قتل شركائهم أولادهم قتل شركائهم) ثم قال: وهذا وإن كان فيه نوع من البعد فتخطئة الثقات والفصحاء أبعد. والذي نعتمده في مثل هذا أن نتلقى القراءة المتواترة بالقبول، ولا نحمِّل الآية ما لا تطيقه بلاغتها من أعباء هذه التقادير وتعسفها كما صنع السكاكي، بل نبقيها على ظاهرها ولا نسلم أن الفصل في مثل هذا مخالف للفصاحة، ولا سيما بعد أن أورد له ابن جني في (الخصائص) شواهد متعددة. ولا أخال أحدًا يعول في مثل هذا على ذوقه فيقول إن الذوق ينفر من صورة المعنى الذي يفصل فيه بين المضاف والمضاف إليه بأحد معمولات المضاف، فإن مثل هذا لا يرجع فيه إلى ملاءمة الطبع، بل مداره على ما يجري به الاستعمال ويثبت في الرواية، فما نجده واردًا في الكلام الفصيح نعلم أنه لا يكدر من مشرب الفصاحة العربية ولا يثلم من سور البلاغة فتيلاً. ومما يقرب لك أن حكم الفصل بين الكلم لا يرجع فيه إلى الذوق وأنه عائد إلى ما يسمع من كلام المشهود له بالفصاحة في تلك اللغة - أن اللغات تختلف فيه اختلافًا كثيرًا، ففي اللسان الألماني مثلاً يفصلون بين أداة التعريف والمعرف بجمل كثيرة، وربما كان الفعل مركبًا من قطعتين فيضعون القطعة الأولى في صدر الكلام ويلقون الأخرى في نهايته، فيتفق أن يكون بين القطعتين كلمات فوق العشرة، وتراهم يفصلون بين علامة الاستقبال والفعل بجمل متعددة، ولا شبهة أن ارتباط أداة التعريف بالمعرف أو بعض أجزاء الكلمة ببعض أو علامة الاستقبال بأصل الفعل أشد من ارتباط المضاف بالمضاف إليه، فلا حرج على اللغة أن تبيح الفصل بين المضاف والمضاف إليه، ولا سيما حيث تكون علاقة الفاصل بالاسم المضاف ليست من علاقة المضاف إليه ببعيدة كالمفعول به. وأما الحديث النبوي فقد جرى الجمهور على عدم الاحتجاج به لكثرة ما وقع فيه من الرواية بالمعنى واعتد به ابن مالك وأخذ بالقياس عليه في أحكام شتى معتمدًا على أن روايته باللفظ هي الأصل، فنعمل بموجبها إلى أن يثبت أنه نُقل بالمعنى، ومن أمثلة ما احتج عليه ابن مالك بالحديث أنه ورد في أبيات متعددة فعل الشرط مضارعًا والجزاء ماضيًا فأجاز الفرّاء وابن مالك العمل على هذا الأسلوب، ومنعه الأكثر بدعوى أن ما وقع في تلك الشواهد من قبيل ما دفعت إليه الضرورة، فاستدل ابن مالك على جوازه في حال السعة بما روى الإمام البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام: (من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) . وقال ابن حزم عقب الكلام الذي نقلناه عنه في الاحتجاج بالقرآن: وإذا وجد - يعني الباحث في العربية - لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا فعل به مثل ذلك - يعني الصرف عن وجهه والتحريف عن موضعه - وتالله لقد كان محمد ابن عبد الله قبل أن يكرمه الله بالنبوة وأيام كونه بمكة أعلم بلغة قومه وأفصح فيها، فكيف بعد أن اختصه الله للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه؟ وكلام ابن حزم هذا لم يصادف المفصل في رد مذهب الجمهور؛ إذ هم لم يمتنعوا من الاستشهاد بالحديث لقلة فصاحته وإنما لم يأخذوا به في العربية لما عرفت من احتمال روايته بالمعنى. والحق أن الأحاديث التي تعددت أسانيدها ولم يختلف لفظها يبعد فيها احتمال الرواية بالمعنى فيصح الاحتجاج بها من غير شبهة. *** القياس على الشاذ للحكم الذي ورد به السماع النادر أربعة أنواع، أحدها: ما لا يعارضه قياس ولا سماع آخر، وهذا يكتفون في اطراده بالشاهد الواحد ولا يشترطون له السماع الفاشي، ومن هذا قولهم: (شنأي) في النسب إلى شنوءة، فقد اكتفى بها سيبويه وغيره وجعلوا القياس في النسب إلى (فعولة) على الإطلاق الفعلي، ولم تقع إليهم من شواهده غير هذه الكلمة المفردة. ثانيها: ما يخالف القياس والسماع، وهذا لا يغني فيه المثال النادر قطعًا، وقد حاد الأخفش عن قصد هذا السبيل حين سمع قولهم: (هداوي) في جمع هدية فجلعه مقيسًا في كل ما كان لامه ياء، والحال أنه لم ينقل منه إلا هذه الكلمة الشاذة عن السماع والقياس؛ إذ المسموع والموافق للقياس في مثل هذا بقاء الياء بحالها فيقال: هدايا وعطايا ومزايا وبلايا وسرايا ودنايا. ثالثها: ما يخالف القياس ولا يكون السماع مصادمًا له كما ورد في تصغير فعل التعجب في قولهم: ما أميلحه، وما أحيسنه، فهذا وارد على خلاف القياس إذ التصغير من خصائص الأسماء ولم تضرب فيه الأفعال بسهم، وصيغة التعجب من قبيل الأفعال الماضية، وإنما كان تصغير الفعل غير مصادم للسماع لأن العرب لم يدلوا على معنى التصغير فيه بصيغة أخرى حتى يقال: هذه الصيغة - أعني أميلحه وأحيسنه - مخالفة للمسموع. رابعها: ما يطابق القياس ويخالف السماع كما ورد خبر (عسى) صريحًا في قولهم: (عسى الغوير أبؤسًا) وقولهم: (إني عسيت صائمًا) . وهذا مطابق للقياس - لأن الأصل في الخبر الإفراد - ومخالف للسماع؛ إذ المعروف في خبر (عسى) مجيئه مضارعًا مقرونًا (بأن) أو مجردًا منها. وهذان القسمان - أعني ما خالف القياس فقط أو السماع دون القياس - هما محل الخلاف بين علماء العربية، فالكوفيون يعتدون بما ورد من ذلك على سبيل الندرة ويعملون بالقياس عليه، قال صاحب الإفصاح: عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظًا في شعر أو نادر كلام جعلوه بابًا أو فصلاً، والبصريون يمتنعون من القياس على الشاذ ويذهبون في مثله إلى أن قائله نحا به خلاف ما يظهر منه ويردونه إلى الأصل المعروف عندهم على طريق من التأويل، وبعض النحاة كابن مالك لا يكلف نفسه تأويله ولا يقبله في موضع المطرد بل يصفه بالشذوذ أو أنه خرج مخرج الضرورة، وإلى هذه الطريقة أومأ ابن السراج في الأصول بقوله: ليس البيت الشاذ أو الكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجمع عليه وتأويل هذا كتأويل ضعفة الحديث واتباع القياس في الفقه، ومن أمثلة هذا أنهم ذكروا في شروط أفعل التفضيل أن لا يكون أصل الوصف على وزن أفعل نحو أبيض وأسود ولما جاء قول الشاعر: جارية في درعها الفضفاض ... أبيض من أخت بنو أباض أنزله الكوفيون منزلة المقيس عليه، وتأوله البصريون على أنها من (باض فلانًا) إذا غَلَبه وَفَاقَه في البياض، وأبقاه ابن مالك على ظاهره وألقاه إلى قسم المسموعات الشاذة. والأصوب في كثير من الشواهد طريقة من يقضي عليها بالشذوذ ولا يذهب فيها مذهب التأويل، فإن من التأويلات التي يرتكبها بعض البصريين ما يكاد الناظر - لتعسفاتها عن نظم اللفظ - يقطع بأنها لم تقع في قصد الشاعر ولا حامت حول قريحته. ومن الأقوال الشاذة ما لا تجد للتأويل فيه مدخلاً، ومن شواهده أن البصريين يمنعون أن تجمع الصفة التي لا تقبل تاء للتأنيث جمع مذكر سالم نحو أسود وأحمر، وأجازه الكوفيون تمسكًا بقول الشاعر: فما وجدت نساء بني تميم ... حلائل أسودين وأحمرينا ولا يتخلص البصريون من هذا الشاهد إلا بطرحه إلى النادر الذي لا يقوم عليه القياس. والتأويل إنما يقتحمه البصريون إذا كان الحرف المخالف للمعروف في اللسان واردًا عن فرد أو فردين ممن يتكلم باللغة العربية المألوفة، وأما إذا ثبت أنه لغة قبيلة فلا وجه لتأويله والخروج به عن ظاهره، ولهذا أبطل ابن هشام تأويلات أبي علي الفارسي وأبي فزار لقولهم: (ليس الطيب إلا المسك) برفع المسك؛ لأن أبا عمرو بن العلاء أثبت أن رفع خبر (ليس) الواقع بعد (إلا) لغة تميم. والتحقيق أن الشاذ على قسمين: أحدها: أن يكون كلام العرب سائرًا على سنة معروفة ووضع عام فتسمع الكلمة أو الكلمتان ممن لا يعرف بالفصاحة وهي تخالف المعروف في الأسلوب، فهذا لا نقيس عليه قطعًا، بل الكلمة ونحوها لا تنقض بها القاعدة التي يجري عليها الفصحاء في عامة مخاطباتهم ولو نقلت عن فصيح؛ إذ يجوز أن تكون صدرت منه على وجه الغلط أو القصد إلى تحريف اللغة، فإن ألسنة الفصحاء قد تقع في مزلة الخطأ وتطوع لهم متى قصدوا إلى تغير الكلمة عن وضعها المألوف لهزل ونحوه. ثانيهما: ما يرد في الكلام الفصيح ونتحقق أنه لم يصدر عن خطأ أو تلاعب في أوضاع اللغة مثل آيات الكتاب الحكيم والأحاديث التي تعددت أسانيدها، فهذا يصح لنا أن نضعه بمكان القياس وننسج على مثاله وإن أباه البصريون والكوفيون، فلا نبالي أن نؤكد بلفظ (أجمعين) منفردة عن لفظ (كل) وإن منعه أكثرهم لوروده في قوله تعالى: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: ٣٩) {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: ٤٣) {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: ١١٩) . *** القياس فيما يفتقر إلى التأويل قد يستعمل نوع من الكلام على وجه شائع ولا يستقيم المعنى إلا بتأويله، ومقتضى مذهب الجمهور المنع من القياس عليه ولو كان وجه تأويله مما يسعه القياس، وهذا كما قالوا في المصدر الذي كثر مجيئه نعتًا وحالاً أنه مقصور على السماع، مع أنهم يؤولون ما ورد منه على تقدير مضاف أو تخريجه على مجاز، وقالوا: إن اسم الزمان لا يخبر به عن الذات، وأوَّلوا نحو قولهم: (الليلة الهلال) على تقدير لفظ (طلوع) مضافًا إلى الهلال، والحق أن المنع من القياس في مثل هذا مشروط بما إذا لم يقصد المتكلم إلى تأويل قريب ووجه مقيس وهو مذهب ابن مالك، أما إذا نوى اسم معنى يضيفه إلى ما بعده واستقام به المراد فإنه يلتحق بسائر الجمل التي يحذف فيها المضاف لقرينة تشير إليه. ومن هذا القبيل إنكار الحريري لقولهم: (هو قرابتي) وليس بمنكر من القول متى علم المتكلم بأن القرابة مصدر وعمد إلى إطلاقه على ضرب من المجاز أوالتقدير، ويدخل في هذا الصدد حكم صاحب المصباح على قولهم: (أُذن العصر) بالخطأ مع أن إسناد الفعل إلى زمانه على وجه المجاز ليس بعزيز، وإنما يحكم عليه بالخطأ إذا لم يصدر من بليغ ينحو بالكلام نحو خلاف الظاهر. ويشاكل هذا قول ابن قتيبة في أدب الكاتب (الملة: يذهب الناس إلى أنها الخبزة، فيقولون: أطعمنا ملة، وذلك غلط إنما الملة موضع الخبزة) قال ابن السيد في شرحه: وليس يمتنع عندي أن تسمى الخبزة ملة؛ لأنها تطبخ في الملة كما يسمى الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب، أو يخرج على حذف المضاف، أي: خبز ملة. والصحيح ما عرفته من أن التخطئة في مثل هذا أو التصويب مما يرجع فيه إلى حال المخاطب؛ إذ الذي يطلق الملة على نفس الرغيف ويظهر لك من قرينة حاله أو صريح مقاله أنه أطلقها عن اعتقاد أنها موضوعة له بوضع حقيقي - لا يخلص من سهام التخطئة ولو احتملت عبارته وجوهًا في التأويل متعددة. وحكم ابن قتيبة على قول العامة (تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها) بأنه خطأ، والصواب: بثدييها، فقال ابن السيد: أما ما يذهب إليه العامة من أن المعنى لا تأكل لحم ثدييها، فهو خطأ، ولكن يجوز على التأويل بحذف المضاف، أي أجر أو ثمن ثدييها، أو على المبالغة بجعل أكلها لأجر ثدييها بمكان أكل الثديين أنفسهما، والتفصيل الذي سبق من النظر في مثل هذا إلى حال المتكلم يجري هنا لولا أن العبارة مَثَل، فمن قصد بها ضرب المثل على ما ورد فقد أخطأ من جهة تحريف المثل وإن كان التركيب نفسه صحيحًا. *** وجه اختلافهم في القياس من الجلي أن العرب لم يُصرِّحوا بعمل القياس في شيء من أوضاع كلامهم وإنما علماء اللسان يتتبعون موارده ويتعرفون أحواله، فإذا وقعوا على حال في مفردات الألفاظ أو مركباتها قد عمل العرب بها على وجه منضبط ركبوا منها قاعدة ليقاس على تلك الموضوعات المسموعة ما لم ينقل من نظائرها. فمن أسباب اختلافهم في القياس أن يتوفر لدى العالم من استقراء الآحاد ما يكفي لتركيب القاعدة فيجيز القياس، ولا يبلغ الآخر بتتبعه مقدار ما يؤخذ منه حكم كلي فيمنع أن يكون مقيسًا. وقد يتساوى الفريقان فيما عرفوه من الشواهد ويكتفي به أحدهما في فتح باب القياس عليه، ويستقله الآخر فلا يتخطى به موضع السماع، وهذا كاختلافهم في فعل المعتل العين، فيظهر من كلام سيبويه أن جمعه على (أفعال) مطرد، وذهب ابن مالك في التسهيل إلى أنه غير مقيس، ويرجع خلافهما إلى أن ما ورد من نحو مال وأموال وخال وأخوال وحال وأحوال وناب وأنياب وباب وأبواب، هل بلغ مقدارًا يكفي لأن يجعله مطردًا أم لا؟ ومن هذا القبيل اختلافهم في جمع الجمع، فقد ورد منه نحو العشرين كلمة، وسبب اختلافهم في جعله مقيسًا إنما هو تفاوت أنظارهم في أن ما سمع، هل هو من الكثرة بحيث يقاس عليه أو أنه لا ينهض به حتى يجعله مطردًا؟ وقد يختلفون في القياس نظرًا إلى ما يقف لهم من الأحوال التي تعارض السماع، فالكوفيون الذين يكتفون في بعض الأقيسة بالشاهد الواحد قالوا: إن صيغة المبالغة (فعال ومفعال وفعول) لا تعمل عمل اسم الفاعل، وأخذوا يؤولون الشواهد التي سردها البصريون واعتذروا عن عدم قبولها والأخذ بظاهرها بأن اسم الفاعل إنما عمل لشبهه بالفعل المضارع في وزنه، والصيغ المذكورة لم تحرز الوزن الذي قرب اسم الفاعل من أصله الذي هو المضارع، وألحقها البصريون بمنزلة اسم الفاعل حسب ما شهدت به الرواية وهدموا ما اعتذر به الكوفيون إذ قالوا في جوابهم: إن المبالغة التي قوي بها المعنى في تلك الأبنية جبرت ما نقصها من الشبه في اللفظ، فنقابل مشابهة اسم الفاعل للمضارع في اللفظ بزيادة المعنى الذي اختصت به أبنية المبالغة فتحصل الموازنة والتساوي في طلب العمل من غير تفاوت. *** تعارض السماع والقياس إذا تتبعنا جملة من أقوال العرب حتى قامت لنا من استقرائها قاعدة، ثم وقعت إلينا أمثلة نطقوا فيها على خلاف ما تقتضيه هذه القاعدة، فهل نأخذ في هذه الأمثلة بالقياس أو نقف فيها عند حد السماع؟ هذا النوع تعددت صوره وتشعبت مقالات العلماء في حكمه وسنلقي عليك ما نراه صفوة آرائهم وخلاصة بحثهم. للأمثلة الواردة على خلاف ما تقرر في الأصول أربعة أقسام (أحدها) : كلمة أو كلمات قليلة تدور في مخاطباتهم كثيرًا ولم ينطقوا فيها على وفق القاعدة ولو مرة، مثل (استحوذ واستصوب) اللذان وردا على خلاف القاعدة القاضية بقلب واوهما ألفا نحو استقام واستعاذ، وهذا القسم يجب استعماله على ما سمع من العرب ولا تنقض به القاعدة ولا يقاس عليه غيره. (ثانيها) : ما يجيء مخالفًا للقاعدة في أكثر مخاطباتهم وورد على وفق القاعدة في أمثلة قليلة، كإيرادهم اسم الفاعل من (أبقل) على وزن (فاعل) فقالوا: (مكان باقل) وقياسه (مبقل) وقد تكلموا في بعض الأوقات، ومن هذا قولهم في أفعل التفضيل من الخير والشر (خير وشر) وقياسه (أخير وأشر) وقد نطقوا به في بعض الأحيان، وهذا يجوز لك العمل فيه على الوجهين، بيد أن الوجه الأكثر في السماع أرجح لأنك تتكلم بلهجة قوم رجحوه ولأنه مألوف عند المخاطبين أكثر من الوجه الذي قل في السماع. وما يرد في القراءة الصحيحة مخالفًا للقاعدة والمسموع من كلام العرب فيما يظهر كقراءة (معائش) بالهمزة، نعطيه حكم هذا القسم فنستعمل (معايش) مهموزة وغير مهموزة ولا نقيس على المهموزة غيرها مما كان على وزن مفعلة. (ثالثها) : ما لم يدُر في كلامهم كثيرًا وإنما هي الكلمة أو الكلمات ترد في شعر أو نثر نادر مخالفة للقاعدة مثل ما حكي من قولهم: فرس مقوود ورجل معوود من مرضه، فهذا لا يؤخذ به في استعمال الكلمة نفسها فضلاً عن أن يتخذ قياسًا. (رابعها) : أمثلة كثيرة تجيء على خلاف ما وضعوه قاعدة، وهذا يحتمل ثلاثة أنظار (أحدها) طرح هذه القاعدة وعدم العمل عليها؛ لأنها ركبت على استقراء ناقص جدًّا. (ثانيها) الاعتداد بها وإجراؤها فيما لم يسمع فقط، ثم الاقتصار فيما خالفها على ما ورد به السماع. (ثالثها) التمسك بها والعمل عليها فيما سمع مخالفًا لها أيضًا بحيث يكون اللفظ ذا وجهين، وهما الوجه المسموع والوجه الذي تقتضيه القاعدة. ومن مواقع هذه الأفكار مصادر الفعل الثلاثي، قال أحد النحاة: إنما يعتمد فيها على السماع ولا يصح القياس على ضوابطها، ولو عدم السماع لأنها كثيرة الانتقاض وذهب سيبويه إلى القياس عليها فيما إذا ورد فعل ولم نسمع كيف تكلموا بمصدره ولا يصح أن نقيس مع وجود السماع، وأجاز الفرَّاء القياس عليها ولو فيما ورد السماع على خلافها. ومقتضى مذهب الفراء حيث أجاز القياس في قواعد كثيرة الانتقاص وهي مصادر الثلاثي، ولو فيما ورد السمع بخلافها أن يجيز القياس فيما ورد به السمع مخالفًا للقواعد الثابتة كقاعدة التصغير واسم الفاعل بأحرى، فيصح على هذا أخذ اسم الفاعل من (شاب) في صيغة فاعل، وإن كان المسموع (أشيب) وتصغير (ليلة) على (لييلة) كما قال المتنبي (لييلتنا المنوطة بالتغادي) . وإن كان الوارد في تصغيرها (لييلية) ويستفاد من عبارة صاحب التاج أن هذه الطريقة - أعني طريقة الفرَّاء - تجري في مصادر ما فوق الثلاثة أيضًا حيث قال عند قول صاحب القاموس (التبيان - ويُفتح - مصدر شاذ والفتح غير معروف إلا على رأي من يجيز القياس مع السماع وهو مرجوح. *** القياس في الاشتقاق لا يجب على الناظر في المشتقات من اسم فاعل ومفعول وأفعل تفضيل واسم مكان وزمان وآلة عندما يريد إنشاء قواعدها - أن يستقر في جميع آحادها فإنه يتعذر عليه الوصول إلى هذه الغاية نظرًا إلى سعة اللغة وانتشارها إلى ما لا يمكن الإحاطة به، وإنما يتتبع من جزئياتها إلى أن يأتي على مقدار يفيد ظنًّا قويًّا وثقة بأن اللغة جارية في مثله على اعتباره قاعدة، والذي لا يبلغه استقراؤه يكون قاصدًا لإجرائه في الكلام على ما يطابق هذه القاعدة، فيصح لنا أن نعمل على شاكلتها في كل لفظ يتفق دون أن تتوقف على سماع. وها هنا إشكال لا يزال يتردد على ألسنة طلاب العربية، وهو أن واضع القاعدة إذا لم يلزمه استقراء جميع جزئياتها ويكفيه أن ينقص جملة منها، فما باله يصرح في بعض الأفعال والمصادر، مثل (ويح وويل ونعم وبئس وعسى وليس ويذر) بأنها لا تتصرف ولا يصح أن يشتق منها اسم فاعل أو اسم مفعول أو أفعل تفضيل؟ وأي فرق بينها وبين ما لم يبلغه استقراؤه من المصادر والأفعال فيسوغ لنا أن نأخذ منها أوصافًا ولا يجوز لنا أن نأخذ مثل ذلك من (ويل ونعم) وما شاكلهما من المصادر والأفعال التي يصفونها بالجمود. وجواب هذا أن الأفعال والمصادر التي لم يسمع لها فروع في الاشتقاق جاءت على ضربين: (أحدهما) : ما يكثر استعماله في موارد كلام العرب من غير أن يتصرفوا فيه مثل (ويل وويح ونعم وبئس) وما يماثلها، وعدم تصريفهم لها مع كثرة ترددها في محاوراتهم ومخاطباتهم دليل على قصدهم لإبقائها على هيئاتها، فمن تصرف فيها فقد أتى بها على وجه قصد العرب إلى تركه، والناطق بما يقصدون إلى إهماله ناسج على غير منوالهم وناطق بغير لهجتهم. (ثانيهما) : ما لا يكثر في مخاطباتهم ولا يدور على ألسنتهم حتى يستفاد من وروده بهيئة واحدة أنهم قصدوا إلى ترك تصريفه، وهذا هو الذي نعمل به على طبق القاعدة وإن لم يبلغنا أو يبلغ الواضعين للقواعد أن العرب تلفظوا فيه بصورة موافقه لها، فيصح لواضع القاعدة أو مقلده متى اطلع على فعل أو مصدر من هذا النوع أن يشتق منه وصفًا بمقتضى القاعدة وإن لم يره مستعملاً في العربية الفصحى. قال أبو عثمان المازني: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول، وإنما سمعت بعضها فقست عليه غيره؟ وقال ابن جني بعد أن سرد أمثلة من اسم المكان والمصدر الوارديان على وزن اسم المفعول: هذا كله من كلام العرب، ولم يُسمع منهم ولكنك سمعت ما هو مثله وقياسه. فإذا اشتق العرب صيغة للدلالة على معنى واستعملوها في أمثلة كثيرة فإنا نأخذ فيها بمذهب القياس، ولهذا ترى سيبويه يصرح باطراد ما كان على وزن (فعال) من أسماء الأفعال (كنزال ودراك) وخالفه المبرد فقال: هو مسموع فلا يقال: (قوام وقعاد) إذ ليس لأحد أن يبتدع صيغة لم تقلها العرب، وقد عرفت أن الذي يفرغ الكلمة في قالب أبرزت فيه العرب أمثلة كثيرة على وجه منتظم لا يقال عليه أنه ابتدع صيغة لم يقلها العرب، وليس للمبرد سوى أن ينازع في المقدار الذي سمع من صيغة (فعال) فيرد القياس بأن المقدار المسموع فيها لا يكفي في الدلالة على قصدهم لاطرادها. وجرى الشيخان في صيغة (فعال) الواردة في النسبة نحو (بزاز وعطار) على عكس هذه المسألة، فذهب سيبويه إلى أنها غير مقيسة مع اعترافه بكثرة مواردها، ورأى المبرد أن المقدار الوارد من أمثلة هذه الصيغة يكفي لجعلها قياسًا، فيقال - عنده - لصاحب الدقيق: دقاق، ولصاحب الفاكهة: فكاه، ولصاحب الشعير: شعار، وقول صاحب القاموس ويقال لصاحب الحبر: حبري - لا حبّار - مطابق لمذهب سيبويه. (يتبع) ((يتبع بمقال تالٍ))