للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مسلم غيور من مراكش


الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى
(٢)

نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم
لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي
مفتي الديار المصرية سابقًا [*]

ولكن هذا العمل من الجهة التي اشتمل عليها لا تمنع من ملاحظتنا على بعض
جمل , من ملاحظة لا تمس جوهر الموضوع الذي خرج لمَّاعًا لمعان الشمس برزت
تختال بعد احتجابها أيامًا فوق سحب كثيفة , انهملت أمطارًا وسيولاً أنطقت شاعر
البداوة أن يقول:
وحديثها كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا
فأصاخ يرجو أن يكون حيًّا ... ويقول من فرح هيا ربا
جاء في صفحة ١٣ نقلاً عن ابن خلدون: (وإذا نظرت بعين الإنصاف
عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان , واختلاف الصحابة من بعده ,
وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة) إلخ، نقول: ونحن لا نشك , ولا
نرتاب أبدًا في نزاهة الصحابة وحسن نيتهم , وسلامة طويتهم , كما هو معلوم من
ضروريات الدين , كما نعلم وجوب محبتهم على المسلمين لقوله صلى الله عليه
وسلم: (فمن أحبهم فبحبي أحبهم , ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) .
ولكن لا بأس أن يلاحظ المسلم الباحث الغيور أنهم رضي الله عنهم كانوا
مخطئين في السكوت , كما أخطأ عثمان في استسلامه للثوار , وكف جماعة من
الصحابة عن نصرته والدفاع عنه؛ لأن حق الخلافة وفائدتها غير مقصورة على
الخليفة وحده، بل الدفاع عن نصرته , وحفظه حفظ للإسلام والمسلمين , {وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: ٢٥١) .
وقد فسدت أمور المسلمين فعلاً باستسلامه , وعدم الدفاع عنه , ونشأت عن
ذلك فتن لا تزال آثارها ماثلة للعيان , فكان مقتضى الشريعة أن يقوم رضي الله عنه
لحماية الخلافة , التي هي حماية للإسلام والمسلمين , ويقابل الثوار , ويستنصر
عليهم بكل ما يمكن إن كانوا محاربين , كما هو الواقع الذي أيدته الأخبار الصحيحة ,
أو يعتزل الخلافة إن كانت معهم شبهة حق , أو عجز عن حماية بيضة الإسلام , فهو
راع للأمة , يجب أن ينظر لها بما فيه صلاحها، فقد أخرج البخاري في كتاب الأحكام
من صحيحه , عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا
كلكم راع , وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع , وهو مسؤول
عن رعيته) الحديث.
فأنت ترى استسلامه رضي الله عنه كيف جر على المسلمين رزايا متسلسلة
إلى الآن لا زلنا نرزح من شدة ثقلها.
وقد دافع الإمام أبو بكر بن العربي المعافري في كتابه: (العواصم والقواصم)
عن استسلام سيدنا عثمان دفاعًا مجيدًا بقلمه السيال , وبلاغته النادرة مستندًا في
دفاعه هو وغيره على ما جاء في الحديث الصحيح في البخاري , وغيره بأن النبي
صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وهي الشهادة , إلخ , ونقول:
إنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالاستسلام , بل غاية الأمر أنه بشره بالشهادة ,
ولو دافع عن نفسه , وقاتل الثوار المحاربين , واستشهد في قتالهم لحصلت النتيجة؛
لأنها غير متوقفة على الاستسلام , فهو رضي الله عنه مجتهد (مخطئ) في
استسلامه.
وأما سكوت الصحابة رضي الله عنهم , فهم مخطئون فيه أيضًا؛ لأن الله
جلت عظمته بين لنا ما نفعل في مثل هذه الأزمة في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ
مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: ٩) , ثم أكد ذلك بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: ١٠) , وفي
صحيح مسلم , عن عرفجة , عنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أتاكم , وأمركم
جميع على رجل واحد , يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم , فاقتلوه) .
فكان الواجب كما هو صريح الآية والحديث أن يدافعوا عنه بقوة السيف , أو
بحكمة السياسة والموعظة الحسنة، ولا يساعدوه في الاستسلام؛ لأن الدفاع عنه كما
قلنا دفاع عن الإسلام والمسلمين، فظهر بذلك أنهم مخطئون في سكوتهم , والله أعلم
بغيبه.
وإننا نحمد الله على أن المسلمين ابتدأوا يفهمون سر هذه الآية , ويعملون
بها، فمن ذلك ما حصل من اجتماع قادة الأحزاب المؤتلفة في مصر السعديون ,
والوطنيون والدستوريون , فلو لم يوفقوا لذلك الاتفاق المحبوب ويسقطوا الاتحاديين
أو الاحتلاليين؛ لكانت حركة مصر الناهضة ذاهبة إلى الشلل والانحلال ,
أدام الله وفاقهم وتوفيقهم.
ومن ذلك ما قيل - ولا نظنه إلا صادقًا - من اتفاق السلطان عبد العزيز بن
السعود والإمام يحيى صاحب اليمن , فقد انشرحت الصدور لهذا الاتفاق المتين الذي
سيكون بمثابة سياج لجزيرة العرب , حقق الله الآمال.
ومن ذلك ما شاع من تأسيس عصبة أسيوية في بلاد آسيا تضاهي عصبة
الأمم الغربية في جنيف لربط أواصر الشرقيين , وإحياء الحضارة الآسيوية من
الوجهتين العقلية والمادية إلخ.
وفي صفحة ١٥ نقلاً عن ابن خلدون أيضًا: (وهكذا كان شأن الصحابة في
رفض الملك , ونسيان عوائده حذرًا من التباسها بالباطل، فلما استحضر رسول الله
صلى الله عليه وسلم , استخلف أبا بكر على الصلاة؛ إذ هي أهم أمور الدين،
وارتضاه الناس للخلافة , وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة، ولم يجر للملك
ذكر.. إلخ) .
(نقول) : إن قوله: (ولم يجر للملك ذكر) إلخ، إن كان المراد به الملك
الطبيعي الذي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة , فقد كان يذكره دائمًا
بالذم والتنفير منه , ومحاربته للملك الطبيعي المبني على القسوة معروفة في غير ما
حديث، ومنذ مكاتبته لقيصر , وكسرى , وغيرهما يدعوهم {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: ٦٤) إلخ، وإن كان المراد به الملك السياسي المندرج في الخلافة ,
فقد جرى ذكره في أحاديث كثيرة لو امتثل المسلمون ما جاء فيها؛ لما أصيبوا
بشيء مما أصيبوا به، فقد أخرج البخاري في باب: الأمراء من قريش، عن
معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا الأمر - أمر
الخلافة - في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدين) ،
وأخرج في باب: الاستخلاف، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
من حديث قد جاء في آخره: (لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، فأعهد، أن
يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون) , قال
القسطلاني: قوله: (فأعهد , أو أوصي بالخلافة لأبي بكر) كراهة أن يقول
القائلون: الخلافة لفلان أو لفلان، أو يتمنى المتمنون الخلافة، فأعينه قطعًا للنزاع ,
وقد أراد الله أن لا يعهد ليؤجر المسلمون على الاجتهاد.
وجاءت أحاديث كثيرة في هذا الباب , فأنت تراه كما اعتنى بالخلافة جدًّا ,
واهتم بها في حال صحته وفي مرضه , وأوصى بالخليفة ممن يكون، وأوجب
طاعته , وشرط فيها وفي ولايته إقامة الدين , وهو قوله: (ما أقاموا الدين) أوصى
بذلك , وكرر الوصاية بالخلافة في مناسبات كثيرة، وفي أحاديث شهيرة، بلغت
بمجموعها حد التواتر.
... ... ... ... ... ... ... ... من مراكش
... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غيور
(المنار)
الظاهر أن عثمان رضي الله عنه كان يحسن الظن بالذين ثاروا عليه , كما
أحسن الظن بعترته من بني معيط المفتونين بحب الرياسة والملك، ولذلك كان
يرى أن إقناع الثائرين بما يجب اتباعه ممكن، وكان جمهور الصحابة مخالفين له
في ظنه ورأيه , فوقعوا في الحيرة: لا يمكنهم القتال بدون أمره؛ لما فيه من سنن
الخروج والافتيات على ولي الأمر , وهي أم المفاسد، ولا يسهل عليهم خلعه إجابة
لمطالب الثوار؛ لأنهم مفسدون، ولأن بني أمية يقاتلون دونه، كما فعلوا في
القتال بعده لمن هو دونه , وما فعله المصريون ألجأتهم إليه الضرورة، وليس من
العمل بالآية , وأما الإمامان يحيى وعبد العزيز فيحبان الاتفاق دينًا وسياسة،
ولكن المفسدين من الأجانب , والروافض , ومفسدي الهنود يغرون الأول بقتال
الثاني, وعسى الله أن يسلمه من وسواسهم وخناسهم.
((يتبع بمقال تالٍ))