(دور الآثار وبساتين النبات) لا تبخس أهل سيسليا (صقلية) حقهم فإنهم فهموا مسألة لا بأس بفهمها , وأظنهم عرفوا ذلك من إخوانهم أهل شمالي إيطاليا وبقية الأوربيين، وهي المحافظة على الآثار القديمة والجديدة، أما القديمة فتحفظ بذواتها , وأما الجديدة فتحفظ ولو بنموذج منها. بنوا ملعبًا في بلرم فصنعوا له مثالاً من الخشب ووضعوه في دار الآثار. مدينة بلرم لها مثال مجسم رسمت فيه البساتين والجبال والكنائس مجسمة مصغرة بألوانها الطبيعية وألوان الأرض نفسها , وذلك المثال في دار الآثار. حفظوا لباس امرأة مسلمة من مسلمي صقلية وهو زي يشبه الأزياء الأوربية مع ساتر للوجه يدل على أن ستر الوجه كان عامًّا حتى في صقلية، وإن كان ذلك قد يغضب قاسم بك أمين فإنه يجد له أضدادًا في مسلمي أوربا فضلا عن مسلمي آسيا وأفريقيا. يحفظ القوم في متاحفهم هذه كل ما يوجد من آثار المتقدمين من مصنوعات، وأشجار، وأحجار، ولا يدخرون جهدًا في حفظ ذلك حتى إذا وجدت اسم شيء في كتاب تاريخ مثلاً أو عرض لك اسم في علم من العلوم كان يدل على معنى في الزمن السابق؛ أمكنك أن تعرف المدلول بالعيان والمشاهدة، وتتحقق صحة الوصف والتعريف فما استعمله الأقدمون من آلات وأدوات، وأنواع ثياب، وضروب مراكب، ونحو ذلك تجد شيئًا منه في متحف من المتاحف , أو في قصر من القصور، أو في كنيسة من الكنائس، أو في داهية من الدواهي التي هناك. وهذا مما يفيد في تحقيق المعاني التاريخية واللغوية فائدة لا يعرف مقدارها إلا من يسمع اسم اللأمة، والدلاص، والدرع والخوذة، والعمامة (عمامة الحرب) ونحو ذلك من الألفاظ العربية الكثيرة الاستعمال، ثم يراجعها في القاموس أو غيره من كتب المعجمات، وبعد ذلك لا تستقر في خياله صورة لمدلول من مدلولات هذه الألفاظ، وقد يتخيل صورة لا مناسبة بينها وبين الحقيقة، وهو جهل باللغة فاضح، وكثير منا يأكلون اللوز والجوز، وينطقون باسمه في البيت، وعند البائع؛ إذا طلبوا شراء شيء منه , وهم إذا رأوا شجرة الجوز أو اللوز لا يميزون بينها وبين شجرة الجميز أو الفلفل، أما الجماعة فعندهم في بساتين النبات جميع هذه الأنواع من الأشجار، وما لا تناسبه درجة الحرارة في الهواء يحدثون له جواء تناسبه بالتسخين أو التبريد حتى يعيش في جو مثل جوه ولكل من يريد معرفة شيء أن يذهب ويعرفه بعينه ذلك. وقد رسموا صور هذا كله فيما كتبوا من كتب اللغة ومعجمات العلوم , ويتيسر للحاذق أن يعرف هذه الأشياء بصورها المرسومة في تلك الكتب؛ أما إذا قال لك صاحب القاموس: الجوز شجرم؛ أي: معروف فماذا تستفيد من هذا وأنت في مصر وليس في قرب الأزهر شيء من شجر الجوز بل ولا في الأزبكية نفسها، فكيف يصير هذا عندك معروفًا؟ وكيف يمكنك أن تحدث عن هذا الشجر إذا كنت كاتبًا أو شاعرًا أو طبيبًا أو عالمًا أو أديبًا. * * * الصور والتماثيل وفوائدها وحكمها لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج، ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك غريب حتى إن القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلاً ربما تساوي مائتين من الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهم هو التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن منها من أفضل ما ترك المتقدم للمتأخر، وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة، وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل تدري لماذا؟ إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر، وضبطه في دواوينه، والمبالغة في تحريره خصوصًا شعر الجاهلية، وما عني الأوائل - رحمهم الله - بجمعه وترتيبه؛ أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل؛ فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع , والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى. إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما ههنا طمعًا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية , ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع؟ وما الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك؟ أما إذا نظرت الى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت؛ فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك إذا نزعت نفسك إلى تحقيق الاستعارة المصرحة في قولك: رأيت أسدًا: تريد رجلاً شجاعًا فانظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الكبير؛ تجد الأسد رجلاً أو الرجل أسدًا، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها إن كنت فهمت من هذا شيئًا فذلك بغيتي، أما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا، وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المفلقين ليوضح لك ما غمض عليك؛ إذا كان ذلك من ذرعه. ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية؛ إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب، أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان؛ فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة؛ فإذا أوردت عليه حديث: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو، والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه. والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به؛ فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضع النزاع أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر [١] وأما إذا أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صور طمعًا في أن الملكين الكاتبين، أو كاتب السيئات على الأقل لا يدخل محلاًّ فيه صور كما ورد فإياك أن تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل؛ فإن الله رقيب عليك، وناظر إليك حتى في البيت الذي فيه صور، ولا أظن أن الملك يتأخر عن مرافقتك إذا تعمدت دخول البيت لأن فيه صورًا، ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصورة على كل حال مظنة بالعبادة فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب. وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من وجهة العمل. على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا أنفسهم منها وإلا فما بالهم لا يتساءلون عن زيارة قبور الأولياء، أو ما سماهم بعضهم بالأولياء، وهم ممن لا تعرف لهم سيرة ولم يطلع لهم أحد على سريرة، ولا يستفتون فيما يفعلون عندها من ضروب التوسل والضراعة وما يعرضون عليها من الأموال والمتاع، وهم يخشونها كخشية الله أو أشد , ويطلبون منها ما يخشون أن لا يجيبهم الله فيه، ويظنون أنها أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه وتعالى، لا شك أنه لا يمكنهم الجمع بين هذه العقائد، وعقيدة التوحيد، ولكن يمكنهم الجمع بين التوحيد، ورسم صور الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية، وتمثيل الصور الذهنية. هل سمعت أننا حفظنا شيئًا حتى غير الصور والرسوم مع شدة حاجتنا إلى حفظ كثير مما كان عند أسلافنا؟ لو حفظنا الدراهم والدنانير التي كان يقدر بها نصاب الزكاة ولا يزال يقدر بها إلى اليوم أفما كان يسهل علينا تقدير النصاب بالجنيهات والفرنكات، ونحو ذلك ما دام المثال الأول موجودًا بين أيدينا؟ ولو حفظ الصاع والمد وغيرهما من المكاييل أفما كان ذلك مما ييسر لنا معرفة ما يصرف في زكاة الفطر وما تجب فيه الزكاة من غلات الزرع بعد تغيير المكاييل؟ وما كان علينا إلا أن نقيس مكيالنا بتلك المكاييل المحفوظة فنصل إلى حقيقة الأمر بدون خلاف؟ أظنك توافقني على أنه لو حفظ درهم كل زمان وديناره ومده وصاعه لما وجد ذلك الخلاف الذي استمر بين الفقهاء يتوارثونه سلفًا عن خلف كل منهم يقدر للمكيال والميزان بما لا يقدره به الآخر حتى جاء في آخر الزمان أحمد بك الحسيني يخطئ بعضهم ويوفق بين أقوال البعض الآخر بدون أن يكون بين يديه صاع ولا مد من تلك الآصع والأمداد، وما أصعب التخطئة والتوفيق؛ إذا لم يكن العيان هو المميز بين فريق وفريق. لو نظرت إلى ما كان يوجب الدين علينا أن نحافظ عليه لوجدته كثيرًا لا يحصى عده ولم نحفظ منه شيئًا فلنتركه كما تركه من كان قبلنا , ولكن ما نقول في الكتب وودائع العلم هل حفظناها كما كان ينبغي أن نحفظها أو أضعناها كما لا ينبغي أن نضيعها؟ ضاعت كتب العلم وفارقت ديارنا نفائسه؛ فإذا أردت أن تبحث عن كتاب نادر، أو مؤلف فاخر، أو مصنف جليل أو أثر مفيد فاذهب إلى خزائن بلاد أوربا تجد ذلك فيها. أما بلادنا فقلما تجد فيها إلا ما ترك الأوربيون ولم يحفلوا به من نفائس الكتب التاريخية والأدبية والعلمية , وقد تجد بعض النسخة من الكتاب في دار الكتب المصرية مثلاً وبعضها الآخر في دار الكتب بمدينة كمبردج من البلاد الإنكليزية، ولو أردت أن أسرد لك ما حفظوا وضيعنا من دفاتر العلم لكتبت لك في ذلك كتابًا يضيع كما ضاع غيره وتجده بعد مدة في يد أوربي في فرنسا أو غيرها من بلاد أوربا. نحن لا نعنى بحفظ شيء نستبقي نفعه لمن يأتي بعدنا, ولو خطر ببال أحد منا أن يترك لمن بعده شيئًا جاء ذلك الذي بعده أشد الناس كفرًا بتلك النعمة، وأخذ في إضاعة ما عني السابق بحفظه له , فليست ملكة الحفظ مما يتوارث عندنا وإنما الذي يتوارث هو ملكات الضغائن والأحقاد، تنتقل من الآباء إلى الأولاد حتى تفسد العباد وتخرب البلاد ويلتقي بها أربابها على شفير جهنم يوم المعاد. (للرحلة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))