للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(٢) من أراسم إلى هيلانة في ٦ يناير سنة -١٨٥م.
حدث بالأمس بين الساعة العاشرة والحادية عشرة صباحًا ضباب كثيف غمر
الشاطئ كله، والعادة في مثل هذه الحالة أن تدق الأجراس إيذانًا بالخطر، فلذلك
طفقت أجراس القرية القريبة من السجن تطنطن، وتيسر لي أن أفهم المقصود من
هذه الإشارة، الساحل المحدق بنا ممتلئ بالأخطار لأن الرمال المتحركة
ومستنقعات الماء الراكد والمد والجزر كلها حبائل تترقب اصطياد السائح الضال،
كامنة له تحت أستار الضباب، لذلك تناديه أصوات الأجراس وتحذره من الوقوع
في الخطر، وترشده بمصدرها إلى الطريق الذي يلزمه سلوكه ليصل إلى سفح
الجبل أسرع ما يكون، وقد سألت في مساء هذا اليوم سجانًا لنا يسكن أهله القرية
عما حدث، فأخبرني بأن طفلين مسكينين قد فاجأتهما أمواج البحر في إبان المد
فأحاطت بها وكادا يغرقان لولا ما بذله من الجهد والهمة صيادو الشاطئ من ذوي
النجدة والبسالة في إنقاذهما من مخالب الموت غير مبالين بالخطر الذي كاد يذهب
بقواربهم، من هنا ترين أنني على بعدي عن العالم وحرماني من معرفة ما يحصل
فيه قد قدرت أن أتحفك بهذا الخبر السار. اهـ
(٣) من أراسم إلى هيلانة في ٨ يناير سنة - ١٨٥م
أنا في السجن تتعاقب عليّ الساعات، وكلها متشابهة لا اختلاف بينها، فليست
الحياة هنا إلا يومًا واحدًا بسبب ما يحرج الصدر ويضيق على النفس من توحد
الأشياء وتشابه الأطوار وعدم تغير شيء منها، آه لو عادت إليّ نعمة العلم بما يقع
في الخارج، وليتني أعرف شيئًا من أخبارك، قد منحتني إدارة السجن الحق في أن
أخرج من مخدعي للتنزه كل يوم ساعة أو ساعتين على رصيف مرتفع للسجن، فأنا
أصرف هذا الزمن في إجالة نظري والسياحة به فيما حولي من الأشياء لأتعرفها،
فإني للآن ما كنت أعرف شيئًا في هذا المكان، بل كنت أجنبيًّا منه بالمرة إذ كنت
كمَيتٍ أُلقي في مكان لا يدري أين هو، وقد ابتدأت منذ أسبوع أن أعرف أين
مستقري، فتجدينني الآن أهتم بتعرف شكل الأماكن المحيطة بي تعرفًا صحيحًا،
يبعثني على ذلك وجدان لا أشك في أنه عام في جميع المسجونين، لا ينفك ناظراي
عن اكتشاف ما لم أكن رأيته حال دخولي في السجن، وأخالني قادرًا على أن
أرسم في الورق صورة ما أحدثه البحر في الشاطئ من التقطع؛ فنشأت عنه الخلجان
والرؤوس التي تمتد كالألسنة امتدادًا أفقيًّا، وصورة الصخور التي تظهر قممها
أحيانًا في ضوء الشمس ويختفي نصفها أحيانًا في ظلام الضباب البعيد، وقد عرفت
أيضًا رسم البناء الذي يحويني، وأوضاعه الهندسية الجميلة، وتنظيماته الحربية،
ومعاقله الطبيعية ومنحدراته، ومناطق أسواره، لم يكن اهتمامي بمعرفة ذلك مبنيًّا
على تدبير حيلة للهرب، كلا، فقد حاول ذلك غيري من المسجونين وردوا
بالخيبة؛ لأننا إذا أمكن أن ننجو ممن يقومون على حراستنا من العساكر والسجانين
الذين يتعسر أن نخدع يقظتهم والتفاتهم، فإننا لا ننجو من المحيط والرمال
الخاتلة بوعوثتها، والعقبات الكثيرة الأخرى، وإنما أنا أبحث في ذلك عن طريقة
أُسلي بها نفسي وأشغل بها فكري، فلا شيء مني يريد الهروب والتخلص من
السجن سوى عقلي. اهـ.
(٤) من أراسم إلى هيلانة في ١٠ يناير سنة -١٨٥م
أتعلمين ما للسجن عليّ من الفضل؟ إنه ليعلمني أن أكون حرًّا ويرشدني إلى
معرفة أن الإنسان عاجز عن الاستيلاء على إنسان مثله، فإني أحس بذلك كلما
تعاقبت عليّ الأيام فيه، وأجد في نفسي نوعًا من الفرح مشوبًا بمرارة عندما أشعر
من نفسي أنها أكبر وأقوى من أن يبهظها ثقل وطأة الظلم، ليست أسوار السجن
الصوانية وأغلاقه الحديدية وحفظته الأيقاظ إلا هباء في طريق العقل، لا حوائل
تحبسه وتمنعه من الجولان، بل إن أشعة نوره تتخطى كل هذه العوائق ولا تقف
عند شيء منها، إن عزيمة المسجون لتقاوم عزيمة ساجنه ومصفده، وأنه مهما جدّل
وصرع فلا يستسلم، وأنه إذا كان على شيء من العدل والحق فهو أشرف وأسمى
مكانًا من غالبه، عبثًا يحاول هذا الغالب، فالفكر كالهواء لا يدخل في قبضة أحد،
إنه ليتيسر له أن يشد وثاق مسجون، فليصل بعد إلى أعماق قلبه، وليأسر ما هنالك
من عزة نفسه ومنعة وجدانه إن كان ذلك في قدرته، هيهات هيهات تلك المنعة التي
أجدها في نفسي تدعوني إلى الثقة العظيمة بالمستقبل، لا أقسم بمخادع السجن
الضيفة المظلمة ولا بأشباح أولئك الذين ماتوا هنا في زوايا النسيان (مخادع في
السجن مسماة بهذا الاسم معدة للمحكوم عليهم بالسجن طول الحياة) أو في أقفاص
الحديد، فإن الحق والحرية سيكون لهما النصر والظفر في هذه الدنيا.
(٥) من أراسم إلى هيلانة في ١٢ يناير سنة -١٨٥م
قد اهتديت بعد العناء إلى طريقة إيصال هذا المكتوب إليك، فسيصلك على يد
الذي تفضل عليّ بأن يكون رسولاً بيننا، على ما في ذلك من المخاطرة بنفسه، هذا
يدلك على أن الإنسان إن كان يحتف به في حالة الرخاء الجلساء المتملقون، فهو لا
يعدم في الشدة أن يرى حوله أحيانًا أصدقاء خاملين يخلصون له الود.
وأختم قولي بأنى لك طول حياتي.
((يتبع بمقال تالٍ))