للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسائل الاختيار والعلة والحكمة والحسن والقبح

نذكر ما أورد السفاريني فى هذه المسائل ليعلم قراء كتب الأشعرية ما في غيرها من الحقائق التي قد تخالفها إلى صواب، وأن الاقتصار على كتب طائفة معينة هو من قيود التقليد. قال في شرح قوله:
وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا اضطرار
لكنه لا يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى
(وربنا) تبارك وتعالى (يخلق) ما شاء أن يخلقه من سائر مخلوقاته
(باختيار) منه، فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى لم يزل فاعلاً لما يشاء وأنه
تقوم بذاته الأمور الاختيارية وأنه تعالى لم يزل متصفًا بصفاته الذاتية والفعلية فلم
يحدث له أسماء من أسمائه ولا صفة من صفاته، فيخلق سبحانه المخلوقات
ويحدث الحوادث بعد أن لم تكن سواء كان ذلك على مثال سابق أو لا. والإبداع
إحداث الشيء بعد أن لم يكن على غير مثال سابق (من غير حاجة) منه تعالى
إليه أي يخلق الخلق لا لحاجة إليه ولا (اضطرار) عليه، فالحاجة: المصلحة
والمنفعة , والاضطرار: الإلجاء والإحواج والإلزام والإكراه، فلا حاجة باعثة له
سبحانه على خلقه للخلق، ولا مكره له عليه بل خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات
لمحض المشيئة وصرف الإرادة. وهذا قول جمهور من يثبت القدر وينتسب الى
السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقال به طوائف من الحنبلية والمالكية
والشافعية وغيرهم، وهو قول أبي الحسن الأشعري وأصحابه، وهو قول كثير من
نفاة القياس في الفقه من الظاهرية كابن حزم وأمثاله، وحجة هذا أنه لو خلق الخلق
لعلة لكان ناقصًا بدونها مستكملاً بها؛ فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها
بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به؛ فإن كان الأول امتنع أن يفعل
لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملاً بها فيكون قبلها
ناقصًا، وأيضًا فالعلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية، وإن
كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد فهي متأخرة في الوجود عن المعلول كما
يقال: أول الفكرة آخر العمل. وأول البغية آخر المدرك. ويقال: إن العلة الغائية
بها صار الفاعل فاعلاً فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب
بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديمًا؛ كان الفعل قديمًا بطريق
الأولى، فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو
خلاف المشاهدة، وإن قيل: إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران:
(أحدهما) أن يكون محلاًّ للحوادث فإن العلة إن كانت منفصلة عنه فإن لم
يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإن قدر أنه عاد إليه
منها حكم كان ذلك حادثًا فتقوم به الحوادث , والمحذور الثاني أن ذلك يستلزم
التسلسل من وجهين:
(أحدهما) أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضًا مما يحدثه الله تعالى
بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كان لعلة عاد التقسيم
فيها فإذا كان كل ما يحدثه أحدثه لعلة , والعلة ما أحدثه لزم تسلسل الحوادث.
(الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كان
الأول امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن
كان الثاني فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل، فهذه الحجج من حجج
من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
(التقدير الثاني) قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية
قديمة كما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم وأصل قول هؤلاء أن المبدع للعالم
علة تامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها معلولها وأعظم حججهم قولهم:
إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود
المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع
شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما تستلزم المعلول فإذا
قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع
الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضي التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل
التي يلزم من وجودها وجود الفعل وإن لم تكن جميعها فى الأزل فلا بد إذا وجد
المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث وإلا لزم تجريح أحد طرفي الممكن بلا
مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم
التسلسل، قالوا: فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل
وإما الترجيح بلا مرجح. ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها
الفاعلة لكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية
ويقولون مع هذا: ليس له إرادة بل هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وقولهم
باطل من وجوه كثيرة مذكورة في محالها منها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية روّح
الله روحه في كتابه (حسن الإرادة) . هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء وإن كل
ما حدث حدث بغير إحداث محدث ومعلوم أن بطلان هذا بيّن وأطال في رد ذلك ,
ومما ذكر: أن يقال لهم: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكنًا في
العقل أو ممتنعًا فإن كان ممتنعًا لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقوله أهل
الحق وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك وإن كان ممكنًا أمكن أن يكون حدوث ما
أحدثه الله تعالى كالسماوات والأرض موقوف على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم
فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك
فيلزم فساد حجتكم على التقديرين ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية
مطلوبة أو لا، فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من
حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات وأيضًا فالوجود
يبطل هذا القول فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوت العد والإحصاء كإحداثه
سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه كإحداث المطر وقت
الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال
ذلك مما هو كثير جدًا وإن أثبتم له تعالى حكمة مطلوبة وهي باصطلاحكم العلة
الغائية - لزم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة فإن القول بأن الفاعل فعل كذا
لحكمة كذا بدون كونه مريدًا لتلك الحكمة المطلوبة جمْع بين النقيضين وهؤلاء
المتفلسفة من أكثر الناس تناقضًا ولهذا يجعلون العلم هو العالم والعلم هو الإرادة
والإرادة هى القدرة وأمثال ذلك.
(التقدير الثالث) وهو أنه سبحانه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة
محمودة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا قول أكثر الناس من المسلمين وغيرهم
وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم وقول
طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرَّامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر
أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وأكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم
كأبي البركات وأمثاله لكن هؤلاء على أقوال، منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة
مخلوقة ومنفصلة عنه تعالى وهم المعتزلة والشيعة ومن وافقهم قالوا: الحكمة في
ذلك إحسانه للخلق والحكمة في الأمر تعريض المكلفين للثواب قالوا: فعل الإحسان
إلى الغير حسن محمود في العقل فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من
ذلك حكم ولا قام به نعت ولا فعل فقال لهم الناس: أنتم تناقضون في هذا القول لأن
الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه إلى فاعله حكم يحمد لأجله إما لتكميل
نفسه بذلك وإما لقصده الحمد والثواب بذلك وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع
بالإحسان ذلك الألم وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان فإن النفس الكريمة تفرح
وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها فالإحسان إلى الغير محمود لكون
المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة
إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثًا في
عقول العقلاء وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من
الوجوه لا عاجلة ولا آجلة - كان عبثًا ولم يكن محمودًا على هذا , وأنتم عللتم أفعاله
تعالى فرارًا من العبث فوقعتم فيه , فإن العبث هو الفعل الذي لا مصلحة ولا منفعة
ولا فائدة تعود على الفاعل ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله ولا أحد من العقلاء
أحدًا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة
فأمر الفاعل بفعل لا يعود عليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من
الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل- لا يستحسن من الآمر ومن ثم قال: (لكنه)
تعالى وتقدس، هذا استدراك من مفهوم قوله: إنه يخلق بالاختيار أي لا بالذات خلافًا
للمعتزلة ومن وافقهم من غير حاجة إليه ولا اضطرار عليه غير أنه جل وعلا: (لا
يخلق الخلق سدى) أي هَملاً بلا أمر ولا نهي ولا حكمة ومعنى السدى المهمل
وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راعٍ (كما أتى في النص) القرآني
والسنة النبوية والآثار مما هو كثير جدًا أن الله تبارك وتعالى لا يفعل إلا لحكمة
وعلم وهو العليم الحكيم فما خلق شيئًا ولا قضاه ولا شرعه إلا بحكمة بالغة وإن
تقاصرت عنها عقول البشر (فاتبع الهدى) باقتفاء المأثور واتباع السلف الصالح
ولا تجحد حكمته كما لا تجحد قدرته فهو الحكيم القدير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
قدس الله روحه: ونشأ من هذا الاختلاف نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم
في مسألة التحسين والتقبيح العقلي فأثبت ذلك المعتزلة والكرَّامية وغيرهم ومن
وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وأهل الحديث وغيرهم
رضي الله عنهم وحكوا ذلك عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله عنه , ونفى ذلك
الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم واتفق الفريقان
على أن الحسن والقبح إذا فسر بكون الفعل نافعًا للفاعل ملائمًا له وكونه ضارًّا
للفاعل منافرًا له أنه تمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من
هؤلاء وهؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا وليس كذلك بل
جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم
وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم والحمد
والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب
المترتب على معصيته ضار للفاعل مفسدة له والمعتزلة أثبتت الحسن فى أفعال الله
تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله تعالى قال الشيخ: ومنازعوهم لما اعتقدوا
أن لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا:
القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته وكل ما يقدر ممكنًا من الأفعال فهو حسن
إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول وأولئك - يعني المعتزلة - أثبتوا
حسنًا وقبحًا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته وعندهم لا يقوم بذاته لا وصف
ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون ثم أخذوا يقيسون على ما يحسن من
العبد ويقبح فجعلوا يوجبون على الله سبحانه من جنس ما يوجبون على العبد
ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع
قصور عقلهم عن معرفة حكمته فلا يثبتون له مشيئة عامة ولا قدرة تامة فلا يجعلونه
على كل شيء قدير ولا يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يقرون بأنه
خالق كل شيء ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه فإنه سبحانه قال: {وَمَن يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْما وَلاَ هَضْما} (طه: ١١٢) : أي لا يخاف
أن يُظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ
القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (ق: ٢٩) ، وفي حديث البطاقة عند الترمذي
وغيره: (لا ظلم عليك اليوم) .
والحاصل أن فعل الله - تعالى وتقدس - وأمره لا يكون لعلة في قول مرجوح ,
اختاره كثير من علمائنا وبعض المالكية والشافعية وقاله الظاهرية والأشعرية
والجهمية , والقول الثاني أنهما لعلة وحكمة اختاره الطوفي وهو مختار شيخ الإسلام
ابن تيمية وابن القيم وابن قاضي الجبل وحكاه عن إجماع السلف وهو مذهب
الشيعة والمعتزلة لكن المعتزلة تقول بوجوب الصلاح ولهم فى الأصلح قولان كما
يأتي في النظم , والمخالفون لهم يقولون بالتعليل لا على منهج المعتزلة قال شيخ
الإسلام: لأهل السنة في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه قولان والأكثرون على
التعليل والحكمة وهل هي منفصلة عن الرب لا تقوم به أو قائمة مع ثبوت الحكم
المنفصل؟ لهم فيه أيضًا قولان، وهل يتسلسل الحكم أو لا يتسلسل أو يتسلسل في
المستقبل دون الماضي؟ فيه أقوال قال: احتج المثبتون للحكمة والعلة بقوله تعالى:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (المائدة: ٣٢) وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا
القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ} (البقرة: ١٤٣) ونظائرها ولأنه تعالى حكيم
شرع الأحكام لحكمة ومصلحة لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) والإجماع واقع على اشتمال الأفعال على الحكم والمصالح جوازًا
عند أهل السنة ووجوبًا عند المعتزلة فيفعل ما يريد بحكمته وتقدم أن النافين للحكمة
والعلة احتجوا مما احتجوا به أنه يلزم من قدم العلة قدم المعلول وهو محال ومن
حدوثها افتقارها إلى علة أخرى وأنه يلزم التسلسل قال الإمام الرازي: وهو مراد
المشايخ بقولهم كل شيء صنعه ولا علة لصنعه وما أجاب به من قال بالحكمة وأنها
قديمة لا يلزمه من قدم العلة قدم معلولها كالإرادة فإنها قديمة ومتعلقها حادث وتقدمت
الإشارة في أول البحث إلى محصل هذا كله والحاصل أن شيخ الإسلام وجمعًا من
تلامذته أثبتوا الحكمة والعلة فى أفعال الباري جل وعلا وأقاموا على ذلك من
البراهين ما لعَلَّّه لا يبقي في مخيلة الفطين السالم من ربقة تقليد الأساطين أدنى
اختلاج وأقل تخمين وأما الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم فقد أجلب وأجنب
وأتى بما يقضي منه العجب في كتابه (شرح منازل السائرين) و (مفتاح دار
السعادة) وغيرهما فمما احتج به في مفتاح دار السعادة قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: ٢١) فدل على أن هذا حكم بشيء قبيح
يتنزه الله عنه فأنكره من جهة قبحه في نفسه لا من جهة كونه أنه لا يكون، ومن هذا
إنكاره تعالى على من جوّز أن يترك عباده سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا
يعاقبهم وأن هذا الحسبان باطل والله متعالٍ عنه لمنافاته لحكمته فقال تعالى:
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة: ٣٦) ، فأنكر سبحانه على من زعم
أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن
ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين ومثله قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: ١١٥-١١٦) فنزَّه نفسه سبحانه وباعدها عن هذا الحسبان وأنه متعالٍ
عنه فلا يليق به لقُبحه ومنافاته الحكمة وهذا يدل على إثبات المعاد بالعقل كما يدل
على إثباته بالسمع ثم إن ابن القيم بسط القول ووسع العبارة في أزيد من عشرة
كراريس ثم قال: الكلام هنا في مقامين أحدهما في التلازم بين الحسن والقبح
العقليين وبين الإيجاب والتحريم شاهدًا وغائبًا والثاني في انتفاء اللازم وثبوته فأما
المقام الأول فلمُثبتي الحسن والقبح فيه طريقان:
أحدهما: ثبوت التلازم والقول باللازم وهذا القول هو المعروف عن المعتزلة
وعليه يناظرون وهو القول الذى نصب خصومهم الخلاف معهم فيه.
والقول الثاني: إثبات الحسن والقبح وأربابه يقولون بإثباته ويصرحون بنفي
الإيجاب قبل الشرع على العبد وبنفي إيجاب على الله شيئًا ألبتة كما صرح به كثير
من الحنفية والحنابلة كأبي الخطاب وغيره والشافعية كسعد بن علي الزنجاني الإمام
المشهور وغيره ولهؤلاء في نفي الإيجاب العقلي في المعرفة بالله وثبوته خلاف.
قال: فالأقوال أربعة لا مزيد عليها:
(أحدها) نفي الحسن والقبح ونفي الإيجاب العقلي في العمليات دون العلميات
كالمعرفة وهذا اختيار أبي الخطاب وغيره فعرف أنه لا تلازم بين الحسن والقبح
وبين الإيجاب والتحريم العقليين فهذا أحد المقامين.
(وأما المقام الثاني) وهو انتفاء اللازم وثبوته فللناس فيه ههنا ثلاث طرق:
أحدهما: التزام ذلك والقول بالوجوب والتحريم العقليين شاهدًا وغائبًا وهذا قول
المعتزلة وهؤلاء يقولون: يترتب الوجوب شاهدًا ويترتب المدح والذم عليه. وأما
الصفات فلهم فيها اختلاف وتفصيل فمن أثبته منهم يقولون: إن العذاب الثابت بعد
الإيجاب الشرعي نوع آخر غير العذاب الثابت على الإيجاب العقلي وبذلك يجيبون
عن النصوص النافية للعذاب قبل البعثة وأما الإيجاب والتحريم العقليان غائبًا فهم
مصرحون بهما ويفسرون ذلك باللزوم الذي أوجبته حكمته وأنه يستحيل عليه خلافه
كما يستحيل عليه الحاجة والنوم والتعب واللغوب فهذا معنى الوجوب والامتناع في
حق الله تعالى عندهم فهو وجوب اقتضته ذاته وحكمته وامتناع مستحيل عليه
الاتصاف به لمنافاته كماله وغناه قالوا: وهذا في الأفعال نظير ما يقول أهل السنة
في الصفات: إنه يجب له كذا ويمتنع عليه كذا فكما أن ذاك وجوب وامتناع ذاتي
يستحيل عليه خلافه فهكذا ما تقتضيه حكمته وتأباه يستحيل عليه الإخلال به وإن
كان مقدورًا له لكنه لا يخل به لكمال حكمته وعلمه وغناه.
(الفرقة الثانية) منعت ذلك جملة وأحالت القول به وجوزت على الرب
تعالى كل شيء ممكن وردت الإحالة والامتناع في أفعاله تعالى إلى غير الممكن من
المُحالات كالجمع بين النقيضين وبابه فقابلوا المعتزلة أشد مقابلة واقتسما طرفي
الإفراط والتفريط ورد هؤلاء الوجوب والتحريم الذي جاءت به النصوص إلى
مجرد صدق الخبر فما أخبر أنه يكون فهو لتصديق خبره وما أخبر أنه لا يكون فهو
ممتنع لتصديق خبره والتحريم عندهم راجع إلى مطابقة العلم لمعلومه والمخبر
لخبره وقد يفسرون التحريم بالامتناع عقلاً كتحريم الظلم على نفسه فإنهم يفسرونه
بالمستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين وليس عندهم في المقدور شيء هو ظلم يتنزه
الله عنه مع قدرته عليه وحكمته وعدله فهذا قول الأشعرية ومن وافقهم.
(الفرقة الثالثة) هم الوسط بين هاتين الفرقتين فإن الفرقة الأولى أوجبت
على الله شريعة بعقولها حرمت عليه وأوجبت ما لم يحرمه على نفسه ولم يوجبه
على نفسه والفرقة الثانية جوزت عليه ما يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته حكمته وكماله
والفرقة الوسط أثبتت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب والتحريم الذى هو مقتضى
أسمائه وصفاته الذي لا يليق نسبته إلى ضده لأنه موجب كماله وحكمته وعدله ولم
تدخله تحت شريعة وضعتها بعقولها كما فعلت الفرقة الأولى ولم تجوز عليه ما نزه
نفسه عنه كما فعلت الفرقة الثانية، قالت الفرقة الوسط: قد أخبر الله تعالى أنه حرم
الظلم على نفسه كما قال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي إني
حرمت الظلم على نفسي) وقال: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: ٤٩) وقال:
{وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: ٤٦) وقال: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء: ٧٧) ، فأخبر بتحريمه على نفسه ونفى عن نفسه فعله وإرادته , وللناس
في تفسير هذا الظلم الذي حرمه على نفسه تعالى وتنزّه عن فعله وإرادته ثلاثة
أقوال بحسب أصولهم وقواعدهم: (أحدها) أنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم
لبعض فشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده فضربوا له من قبل
أنفسهم الأمثال فصاروا بذلك مشبهة ممثلة في الأفعال وامتنعوا من إثبات المثل
الأعلى الذى أثبته لنفسه ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في أفعاله بخلقه كما أن
الجهمية المعطلة امتنعت من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ثم ضربوا له
الأمثال ومثلوه في صفاته بالجمادات الناقصة بل بالمعدومات وأهل السنة نزهوه عن
هذا وهذا وأثبتوا ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ونزهوه فيها عن
الشبيه والمثال فأثبتوا له المثل الأعلى ولم يضربوا له الأمثال فكانوا أسعد الناس
بمعرفته وأحقهم بولايته ومحبته وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ثم التزم أصحاب
هذا التفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قبل لهم به فقالوا: إذا أمر العبد ولم يُعِنْهُ
بجميع مقدوره تعالى من وجوه الإعانة فقد ظلمه والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالاًّ
كما زعموا أنه لا يقدر أن يضل مهتديًّا وقالوا: إنه إذا أمر اثنين بأمر واحد وخص
أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا وأنه إذا اشترك اثنان في ذنب يوجب
العقاب فعاقب به أحدهما وعفا عن الآخر كان ظالمًا إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة
التي جعلوا لأجلها ترك تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلمًا فعارضهم
أصحاب التفسير الثاني وقالوا: الظلم المنزه عنه من الأمور الممتنعة لذاتها فلا
يجوز أن يكون مقدورًا له تعالى ولا أنه تركه بمشيئته واختياره وإنما هو من باب
الجمع بين الضدين وجعل الجسم الواحد في مكانين وقلب القديم محدثًا والمحدث
قديمًا ونحو ذلك وإلا فكل ما يقدره الذهن وكان وجوده ممكنًا والرب قادر عليه فليس
بظلم سواء فعله أو لم يفعله وتلقى هذا القول عنهم طوائف من أهل العلم وفسروا
الحديث به وأسندوا ذلك وقوّوه بآيات وآثار زعموا أنها تدل عليه كقوله تعالى: {إِن
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (المائدة: ١١٨) : يعني لم تتصرف في غير ملكك بل إنما
عذبت من تملك وعلى هذا فجوزوا تعذيب كل عبد له ولو كان محسنًا ولم يروا ذلك
ظلمًا , وبقوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) وبقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم
وهو غير ظالم لهم) وبما رُوي عن إياس بن معاوية قال: (ما ناظرت بعقلي
كله أحدًا إلا القدرية قلت لهم: ما الظلم؟ قالوا: أن تأخذ ما ليس لك وأن تتصرف
فيما ليس لك، قلت: فلله كل شيء) ، والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازم باطلة
قولهم: إن الله تعالى يجوز عليه أن يعذب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه وأهل
طاعته ويخلدهم في العذاب الأليم ويكرم أعداءه من الكفار والمشركين
والشياطين ويخصهم بجنته وكرامته وكلاهما عدل وجائز عليه وأنه يعلم أن لا يفعل
ذلك بمجرد خبره فصار ممتنعًا لإخباره أنه لا يفعله لا لمنافاة حكمته ولا فرق بين
الأمرين بالنسبة إليه ولكن أراد هذا وأخبر به وأراد الآخر وأخبر به فوجب هذا
لإرادته وخبره وامتنع ضده لعدم إرادته وإخباره بأنه لا يكون. والتزموا أيضًا أنه
يجوز أن يعذب الأطفال الذين لا ذنب لهم أصلاً ويخلدهم في الجحيم وربما قالوا
بوقوع ذلك.
فأنكر على الطائفتين معًا أصحاب التفسير الثالث وقالوا: الصواب الذي دلت
عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه فعلاً وإرادة هو ما
فسر به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل عليه سيئات غيره ولا يعذب بما لا تكتسب
يداه ولم يكن سعى فيه ولا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها إذا قارنها
أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها وهذا الظلم الذي نفى
الله تعالى خوفه عن العبد بقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ
ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} (طه: ١١٢) قال السلف والمفسرون: لا يخاف أن يحمل
عليه سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، فهذا هو المعقول من الظلم ومن عدم
خوفه وأما الجمع بين النقيضين وقلب القديم محدثًا والمحدث قديمًا فمما يتنزه كلام
آحاد العقلاء عن تسميته ظلمًا وعن نفي خوفه عن العبد فكيف بكلام رب العالمين؟!.
قالوا: وأما استدلالكم بتلك النصوص الدالة على أنه سبحانه إن عذبهم فإنهم عباده
وأنه غير ظالم لهم وأنه لا يسأل عما يفعل وأن قضاءه فيهم عدل وبمناظرة إياس
للقدرية فهذه النصوص وأمثالها كلها حق يجب القول بموجبها ولا تحرف معانيها
والكل من عند الله ولكن أي دليل فيها يدل على أنه يجوز عليه تعالى أن يعذب
أهل طاعته وينعم أهل معصيته ويعذب بغير جرم ويحرم المحسن جزاء عمله ونحو
ذلك بل كلها متفقة متطابقة دالة على كمال القدرة وكمال العدل والحكمة
فالنصوص التي ذكرناها تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه ووضعه العقوبة والثواب
مواضعهما وأنه لم يعدل بهما عن مسببهما والنصوص التي ذكرتموها تقتضي كمال
قدرته وانفراده بالربوبية والحكم وأنه ليس فوقه آمر ولا ناهٍ يتعقب أفعاله بسؤال
وأنه لو عذب أهل سمواته وأرضه لكان ذلك تعذيبًا لحقه عليهم وكانوا إذ ذاك
مستحقين للعذاب؛ لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن
ينجي أحدًا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني
لله برحمة منه وفضل) فرحمته لهم ليس في مقابلة أعمالهم ولا هي ثمنًا لها فإنها
خير منها كما قال في الحديث نفسه: (ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من
أعمالهم) فجمع بين الأمرين في الحديث أنه لو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم ولم يكن
ظالمًا لهم وأنه لو رحمهم لكان ذلك مجرد فضله وكرمه لا بأعمالهم إذ رحمته خير
لهم من أعمالهم فطاعات العبد كلها لا تكون في مقابلة نعم الله عليهم ولا مساوية لها
بل ولا للقليل منها فكيف يستحقون بها على الله النجاة وطاعة المطيع لا نسبة لها
إلى نعمة من نعم الله عليه فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكرًا والعبد لا يقوم بمقدوره
الذى يجب لله عليه فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله فما نجا منهم أحد إلا
بعفوه ومغفرته ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته وإذا كانت هذه حال العباد فلو
عذبهم وهو غير ظالم لهم لا من حيث كونه قادرًا عليهم وهم ملك له بل لاستحقاقهم
ولو رحمهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم ويأتي لهذا مزيد تحرير والله أعلم.

(المنار)
أيها الأشعري إنك ترى في هذه الجملة من النقول عن أئمة الأمة ما ينبئك
بحقيقة معنى العلة والحكمة وأن كُلاًّ من المعتزلة والأشعرية أخطأوا من جهة
وأصابوا من أخرى، وأن مذهب السنة الصحيح وسط بين المذهبين وأن أخذ العلم
من كتب طائفة تؤيد مذهبًا معينًا دون النظر في كتب أهل المذاهب الأخرى لا يفك
الآخذ من ربقة التقليد ولا يهديه إلى طريقة التمحيص والتحديد وأن كتب ابن تيمية
وابن القيم أنفع كتب الكلام وأن هذين الشيخين هما الجديران بلقب شيخ الإسلام فقد
أصاب من لقبهما به من العلماء الأعلام.
وخلاصة القول الحق أن العقل والكتاب يدلان على حكمة الله تعالى وعدله
ورحمته وفضله كما يدلان على قدرته وإرادته واختياره يستحيل عليه أضدادها فكل
أفعاله حكمة ومصلحة للخلق والحكمة أو المصلحة فى الفعل تسمى في اللغة علة
وجاء ذلك في القرآن بحرف التعليل فاجمعْ بين العقل والنقل تهتدِ السبيل ولا تكفِّرْ
أو تضللْ أحدًا من أهل القبلة إذا هو خالف مذهبك بالعلة أو غير العلة.