(٤) أخلاقه وسجاياه: المنار لا يعنى بترجمة أحد ترجمة تاريخية محضة؛ وإنما يعنى من تراجم الناس ببيان الأخلاق الحسنة والأعمال النافعة، متى تكون مثالاً حسنًا، وقدوةً صالحةً؛ لأن غاية المنار إصلاحية فهو يعنى بكل ما يتوسل به إلى الإصلاح، ويرغّب الناس في الفضائل ومحاسن الأعمال، وإن ذكرنا ما يقابل ذلك فإنما نذكره لأن العبرة لا تتمّ إلا به، ولا يجعل ذكر المساوئ هو الأصل في الموعظة، وقد كان ما ذكرناه من ترجمة هذا الرجل دائر على هذا القطب، وأحببنا أن نختمها بهذه الكلمات التي تذكر الناسي وتنبّه الغافل لِما هو المقصود بالذات. فنقول: إن هذا الرجل نبه بعد خمول، وارتفع بهمته وأخلاقه إلى الطبقة العليا في أمته، فصار من بطانة أمير البلاد وأهل ثقته. وصاحب التأثير الأول في أفكار المصريين، والرأي المحترم في جميع الأقطار الإسلامية، وكم من متعلم نال الدرجات العلى في العلوم والفنون العربية والإفرنجية يتمنى أن يصل إلى ما وصل إليه الشيخ علي يوسف بما دون درجات علمه، وهو لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن مَن أبطأت به سجاياه وأخلاقه لا تسرع به علومه وفنونه، فأحب أن تتذكر نابتتنا أن الرجل قد ارتقى بالعزيمة وقوة الإرادة والصبر والثبات وعلو الهمة والإخلاص للملة والأمة، فمَن استطاع أن يتخلق بهذه الأخلاق، فليقصد بها ما شاء من مراتب الكمال، ومقامات الرجال. وليحذر المعتبر بسير رجال عصره من الوقوع في مثل الخطأ الذي ارتكبه هذا النابغة وأمثاله من النوابغ (كقاسم بك أمين) وهو محاولة استعجال الثروة الواسعة التي تليق بمقامهم الاجتماعي بسلوك الطرق التي ربما تؤدي إلى ضد مرادهم، والشيخ رحمه الله عصمته تربيته الدينية أن يفتتن بما افتتن به كثير من كبرائنا المتفرنجين من المقامرة، وإنما تورط في شراء الدور والقصور وعرصات الأرض المعدة للبناء في تلك المدة التي خرج فيها التغالي بالأثمان عن الحد الطبيعي الذي وصلت إليه درجة العمران في البلاد. ولما عادت (سنة ردّ الفعل) بأثمان المباني وعرصاتها إلى ما دون الثمن المعتدل لها، بعد ذلك الإفراط فيها، غرق الرجل مع مَن غرق في طوفانها، ولولا ذلك لَمَا قصرت ثروته بما يليق بمقامه الاجتماعي، على ما كان من تقصيره في إدارة المؤيد المالية. وما ذكرنا هذا - على كونه معروفًا مشهورًا - إلا ليكمل الاعتبار بسيرة فقيدنا النافعة طردًا وعكسًا، ونسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، بمنّه وفضله وكرمه.