محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (١٨)
أما نوبة الملاريا فلها ثلاثة أطوار: (١) طور البرودة- يشعر المريض بتعب وسآمة وصداع وآلام في الظهر وبرودة- وتبتدئ الرِّعدة فينكمش في فراشه ويرتجف جميع جسمه وتصطك أسنانه ويزرقّ وجهه وأنامله وينتصب شعر جسمه كما يحصل من شدة البرد أو الفزع ويصغر النبض ويُسرع ويضطرب ويتوتر، ويكون التنفس سريعًا غير عميق. ويكون سطح الجلد باردًا حقيقة، ولكن إذا وُضع مقياس الحرارة في الفم أو في الدُّبر أو تحت الإبط رأينا الحرارة مرتفعة، فإنها تبدأ في الزيادة قبل الرعدة بدقائق، بل بساعة أو ساعتين أحيانًا؛ وإنما ينشأ الإحساس ببرودة سطح الجسم من انقباض أوعية الدم فيه. ويكون مقدار البول كثيرًا ولونه رائقًا وكثافته قليلة. ويستمر هذا الطور نصف ساعة أو ساعتين. وترتفع الحرارة بسرعة في آخره إلى ما بعد ٤٠ سنتيجراد. (٢) طور السخونة- يبدأ بالإحساس بالسخونة التي تعم الجسم كله فتزداد الحُمَّى، وتتمدد الشرايين، ويتوتر النبض ويسرع ويمتلئ، ويحتقن الوجه، ويتصدع الدماغ. وفي بعض الحالات يهذي المريض أو يعتريه الذهول. ويكون البول في هذا الطور قليلاً قاتمًا كثيفًا. وكثيرًا ما تظهر [النملة Herpes] حول الفم. ويستمر هذا الطور ٣-٤ ساعات. (٣) طور العَرق- يتندى الجسم أولاً بالعَرق بعد شدة جفافه ويعُم الجسم كله ثم يصير غزيرًا ويستمر ساعة أو ساعتين أو ثلاثًا فيشعر المريض حينئذ بالراحة ويترطب لسانه، وتنخفض الحرارة أولاً بالتدريج، ثم تسرع حتى تصير طبيعية ويعود المصاب إلى حالته الصحية الأولى. ويكون البول في هذا الطور كثيفًا جدًّا وتُرَسب فيه أملاح كثيرة من حامض البوليك. ولا تحصل جميع هذه الأطوار لكل مصاب، بل قد تقتصر النوبة على واحد منها أو اثنين، فمثلاً قد يشعر ببرودة خفيفة تعقبها سخونة مدة ساعتين أو ثلاث ولا يحصل عرق، وقد يبرد ويعرق ولا يشعر بسخونة، وقد يعرق فقط مع ارتفاع خفيف في الحرارة. أما الأطفال فيندر أن يحصل لهم رِعدة بل يصابون بدلها بتشنج خفيف (وقد لا يلاحظ) أو بتشنج شديد. وفي الأحوال المعتادة يكبر الطحال في طور البرودة والسخونة حتى قد يحس به تحت الضلوع. وتحصل أول نوب الحمى هذه إما في الصباح أو وقت الظهر، أما النوب التي تليها فلا تكون دائمًا في وقت النوبة الأولى بل قد تتأخر عنها شيئًا فشيئًا حتى تحصل في المساء أو في الليل، وقد تتقدم عنها شيئًا فشيئًا حتى تحصل قبل الفجر، ويسمى النوع الأول بالمتقهقر والثاني بالمتقدم. والأحوال المعتادة من هذه الحمى غير مميتة في الغالب إلا للأطفال الصغار أو الشيوخ أو السُّقماء. وقد يتمدد الطحال منها حتى ينفجر وينسكب الدم في تجويف البطن، وقد ينزف الدم في منسوج الطحال نفسه ويتكون فيه خراج فينفجر في تجويف البريتون. ومضاعفات مثل هذه الأحوال ليست بكثيرة، وأشهرها النزلة الشعبية والرُّعاف والبول الزلالي والآلام العصبية فوق الحاجب. أما الأحوال الخبيثة المسماة [بالصيفية الخريفية] فلا تكون نوبها منتظمة ولا متقطعة إلا أحيانًا قليلة تكون الفترة فيها قصيرة، ويقل حصول الرعدة للمصاب، وكثيرًا ما يعتريه اليرقان والغثيان والقيء والإسهال، حتى قد تشتبه هذه الحمى بالحمى التيفودية، وقد تطول مدتها إلى ثلاثة أسابيع وتنتهي كثيرًا بالموت الذي يسبقه الهذيان أو الغيبوبة أو الاضطرابات الهضمية أو البول الزلالي أو النزف الدموي أو الهمود (الهبوط) . ومن الأنواع التي يتأثر منها المجموع العصبي بشدة نوع يمتاز طول الغيبوبة فيه حتى تمكث نحو ١٢ ساعة أو أكثر، ويكون الشخص كأنه مصاب بنزف في مخه، ومنها نوع يشتد فيه الهذيان والهيجان. وقد شوهد بعض أحوال يركن فيها المصاب كأنه ميت حقيقة فيقف تنفسه ويضعف نبضه وضربات قلبه حتى لا يمكن إدراكهما. واعلم أن هذه الحمى إذا تكررت نوبها جعلت الشخص سقيمًا عليلاً مصفرًّا (لإبادة ميكروبها للكريات الدموية الحمراء) ويعتريه الدُّوار، وقلة الميل للطعام وآلام بالعضلات والمفاصل والضعف والاستسقاء) ، ويضخم الطحال والكبد أو يكثر منسوجه الليفي ويتيبس ويضمر، وقد يصاب الشخص بالجنون أو بالتهاب الأعصاب أو بطنين الآذان أو الصمم أو فقدان الشم أو الذوق. التشخيص- إن أحسن الطرق للتحقق من شخص هذه الحمى البحث في الدم عن ميكروبها بواسطة المجهر. وليحترس من إعطاء الكينين للمريض قبل عمل هذا البحث فإن هذا الدواء يُذهب الميكروب من الدم. ويختفي الميكروب أيضًا من الدم في الأنواع الخبيثة وقت انخفاض الحرارة، أعني في الفترات التي بين نوب الحمى وأحسن الأوقات لمشاهدته في تلك الأنواع هو أن يبحث في الدم عند ابتداء النوبة وقت صعود الحرارة. أما في الأنواع الحميدة فيكون الميكروب أكبر وأظهر في الفترات التي بين نوب الحمى. المعالجة- الغرض الذي يُرمى إليه هو قتل الميكروب وإخراج سمومه من الجسم وإراحة المريض مما يحدثه من أعراض الداء، وأحسن الأدوية وأشهرها لقتل هذا الميكروب هو [الكينين Quinine] [١] وأشهر أملاحه الكبريتات، وهي مادة بيضاء خفيفة شديدة المرارة قليلة الذوبان في الماء فتذوب فيه بنسبة ١: ٨٠٠ ولكنها سهلة الذوبان فيه بإضافة أحد الحوامض إليه. ومقدار تعاطيها في اليوم ٢٠- ٣٠ قمحة تقسم على ثلاث دفعات، والأفضل أن تكون الدفعة الأخيرة قبل ميعاد حضور النوبة نحو ست ساعات، ولا مانع من إعطائها بعد طعام الفطور والغذاء والعشاء ككثير من الأدوية الأخرى. وإذا قاءها المريض مزجت بقليل من الأفيون أو حقنت في المستقيم أو تحت الجلد، والأفضل أن تحقن داخل عضلات الألية، وأحسن الأملاح للحقن في الشرج أو تحت الجلد هو [هيدروبروميد الكينين الحمضي] فإنه سهل الذوبان في الماء ولا يتهيج منه المكان المحقون، وجرعته من قمحتين إلى عشر أو ١٥ قمحة. و [البوكينين Euquinine] وهو إتيل كربونات الكينين يكاد يكون عديم المرارة ولا يضر المعدة ولا الأعصاب، ولذلك كان أحسن دواء للأطفال والنساء. وجرعته تختلف من ٥ إلى ١٠ قمحات بحسب السن. ويجب الاستمرار على تعاطي الكينين مدة بعد زوال الحمى؛ لأن بعض الميكروبات قد ينجو من فعله ويختفي في الطحال، ثم يعود إلى الظهور ويكثر فيحدث النكس، فلذا يجب الاستمرار على تعاطيه بعد الشفاء بمقادير يعينها الطبيب (كخمس قمحات في اليوم) لمدة ثلاثة أشهر على الأقل. وهناك بعض أدوية أخرى نافعة في الملاريا، ولكنها أقل قيمة من الكينين مثل مركبات الزرنيخ. وكثيرًا ما يحدث من الكينين أعراض ضارة مثل طنين الآذان والصداع والصمم، وقد تُتقى هذه الأعراض بتقليل مقداره أو إبطاله مؤقتًا أو إعطاء حامض الهيدروبروميك أو الجويدار لمنع الاحتقان الناشئ من الكينين. الوقاية- تكون: (١) بردم المستنقعات. (٢) وبإبادة البعوض وذلك بصب زيت البترول على المياه التي توجد فيها البويضات والعلق لقتلهما، ويكون ذلك بنسبة أوقية لكل ١٥ قدمًا مربعة من سطح الماء. (٣) وباتقاء لذع البعوض بمثل الكلة (الناموسية) وخصوصًا بالليل وهو وقت لذع هذا النوع من البعوض في الغالب. (٤) وبدوام استعمال الكينين في الأقاليم التي تكثر فيها الملاريا (بمقدار خمس قمحات يوميًّا) . *** حمى البول الأسود Fever Blackwater تحدث هذه الحمى في الأقاليم الحارة التي تكثر فيها الملاريا لمن أقام بتلك البلاد سنة على الأقل فأكثر أو للذين أصيبوا بالملاريا، ويقل حصولها لغير هذين السببين. بحث الأسباب تفصيلاً- ذهب العلماء في حقيقة سبب هذه الحمى مذاهب أهمها: (١) أنها نتيجة إصابة شديدة بالملاريا. (٢) أنها ملاريا متضاعفة بإصابة الكليتين. (٣) أنها نتيجة ميكروب مجهول. (٤) أنها ملاريا مع عامل آخر كتسمم الجسم بمثل الكينين أو بسُمّ مرض من الأمراض كالإفرنجي وغيره، أو كالتعرض للبرد. الأعراض- تتقدمها آلام في الأطراف والدماغ وتوعّك ثم رعدة فقيء صفراوي فبول أحمر أو أسود بسبب ذوبان مادة الكريات الحمراء فيه، ويكون فيه زلال كثير، وترتفع الحرارة إلى ٤٠ سنتجراد فأكثر ثم تنخفض قليلاً بعد بضع ساعات، ثم ترتفع مع رِعدة أخرى، وهلم جرًّا. ويُصاب المريض باليرقان، ويضخم الطحال والكبد ويتألم المصاب من جسهما. وفي الحالات البسيطة تزول الأعراض بعد نحو أسبوع، وأما في الشديدة فيستمر القيء ويقل البول أو يبطل إفرازه ويصاب المريض بالغيبوبة أو الهمود ويموت. وعدد الوفيات بهذا المرض هو من ١٦ إلى ٥٠ في المئة. المعالجة- تكون بحسن التمريض والعناية بالمصاب والإكثار من شرب السوائل لإدرار البول، وتعطى المنعشات المقويات للقلب، ولا يعطى المريض الكينين إلا إذا وجد ميكروب الملاريا في الدم، وحينئذ يعطى أي ملح من أملاحه غير الكبريتات فإنها تساعد على إذابة الكريات الحمراء، ويكون مقدار أي ملح قليلاً متكررًا. *** الدوسنطاريا الأميبية Dysentery Amoebic قلنا: إن الدوسنطاريا نوعان: نوع ينشأ من ميكروب نباتي (وقد سبق الكلام عليه في صفحة ١٠٢ من الجزء الثاني من هذا الكتاب) والآخر ينشأ من ميكروب حيواني وهو المراد بالكلام هنا. وكلمة [أميبا Amoeba] يونانية معناها (المتغير) تطلق على حييوين دقيق ذي خلية واحدة دائم التغير لشكله بما يرسله من جسمه في جميع الجهات من الأرجل [الكاذبة [٢] Pseudopodia] التي يتحرك بها حركة ذاتية، وهو من أبسط الحيوانات المسماة [الحيوانات الأولى Protozoa] . يتسلق الإنسان ثلاثة أنواع من الأميبا: (١) نوع يوجد في فمه إذا أصاب أسنانه النقد (التسويس) (راجع ص ٦٨ من الجزء الأول) . (٢) ونوع يسكن الجزء الأعلى من الأمعاء الغلاظ، والظاهر أنه لا ضرر منه. (٣) والثالث هو أميبا الدوسنطاريا هذه. وهذا الأميبا يشاهد في براز المصاب وفي المدة التي قد تتكون في الكبد [٣] بسبب هذا المرض، وأكثر وجوده يكون في المواد المخاطية التي يتبرزها المريض وقت اشتداد المرض؛ أي في زمن حدته. قُطر هذا الميكروب الحيواني هو من ٢٥- ٣٥ ميكرونًا؛ أي أن حجمه كحجم ثلاث أو أربع كريات حمراء من كريات الدم. وهو يثقب الغشاء المخاطي للأمعاء الغلاظ ويسكن تحته ويتكاثر ويحدث المرض، وقد يصل إلى الأوعية اللمفاوية أو الأوردة فيسير فيها. أسباب الدوسنطاريا الأميبية- يوجد هذا النوع من الدوسنطاريا في الأقاليم الحارة والمعتدلة كمصر، ولا ينتشر بشكل وبائي كالنوع الآخر السابق. وتنتقل الأميبا بواسطة الماء الذي يتلوث في براز المصاب أو بواسطة الأطعمة الملوثة به أيضًا خصوصًا الخضر. ويصيب المرض جميع الأجناس البشرية إذا تعرضت للعدوى، وكذلك الصغار والكبار بلا تمييز بينهم، غير أن الظاهر أنه يصيب الذكور أكثر من الإناث لقلة تعرض هؤلاء له من أولئك , ولهذا النوع أيضًا حملة كالنوع الأول يوجد الميكروب في أمعائهم ولا تحدث لهم أعراضه. الأعراض- لا تختلف أعراض هذا النوع كثيرًا عن أعراض النوع الباسيلي الذي سبق ذكره إلا في أشياء قليلة، وهي أنه لا يكون ابتداؤه مفاجأة بل تدريجيًّا في الغالب، وتكون مدته أطول فإنه يميل لأن يكون مزمنًا، وتكون الحمى فيه أقل، وكذلك الاضطراب العام، وتكثر نكساته ولا يمنع ذلك من أن يكون أحيانًا شديدًا جدًّا ومميتًا بسرعة، وترتفع الحمى ويقلّ البول ويكثر الزلال فيه. ومن الناس من توجد في أمعاءه قروح ناشئة على هذا الميكروب، ومع ذلك لا تظهر عليهم أعراض المرض، ولكن ذلك قليل. المضاعفات- تحتقن الكبد أحيانًا وتلتهب وكذلك الكليتان، ويندر حصول النسف المعوي في هذا الشكل. وأهم المضاعفات خرّاج الكبد الذي يكون غالبًا واحدًا أو على الأكثر لا يزيد عن ثلاثة، والسبب فيه وصول الميكروب إلى الكبد بطريق الوريد الباب فيميت بسمه منسوجه. ومن العقابيل ضيق الأمعاء بسبب انقباض آثار القروح التي تحدث فيها. الإنذار- يراعى فيه مسألة خراج الكبد وشدة الأعراض. وتخشى النكسة والإزمان. والفواق علامة سيئة في الحالات الحادة؛ لأنه ينذر غالبًا بقرب الاضمحلال والموت. المعالجة- لا تختلف عن معالجة النوع الباسيلي إلا في نفع [عرق الذهب] وشدة تأثيره في هذا المرض، وهو جذور شجرة في بلاد البرازيل بأمريكة الجنوبية، في هذه الجذور مادة مقيئة تسمى لذلك باللغات الإفرنجية [Emetine] ولكنها شافية لهذا الداء. والجرعة من مسحوق هذه الجذور هي ٢٠-٣٠ قمحة، ويستحسن إعطاء قليل من الأفيون أو أحد مركباته قبلها بنحو نصف ساعة، ويستلقي المريض على قفاه ولا يعطى له شيء آخر سوى قليل من الثلج لمصه، وذلك كله لمنع القيء الذي يحدث من الدواء، وتتكرر الجرعة بعد ٨ أو ١٠ ساعات، إذا كانت الأعراض شديدة أعطيت الجرعة ثلاث مرات في اليوم، وبعد زوال أعراض الدسنطاريا يكمل العلاج بمركبات البزموت والأفيون ونحوهما. ويفضل استعمال [الأميتين Emetine] حقنًا تحت الجلد أو في داخل العضلات [٤] بمقدار نصف قمحة مرة ليلاً ومرة نهارًا عندما تتحسن الحال بحقن المريض مرة واحدة فقط في اليوم، ولا يحدث القيء بهذه الطريقة كما يحدث من إعطاء مسحوق عرق الذهب نفسه بالفم. وهذا الدواء نافع أيضًا في منع التهاب الكبد وخراجها؛ لأنه قاتل لميكروب الدوسنطاريا بسرعة عجيبة. والمعالجة بالأميتين أو بعرق الذهب نافعة أيضًا في الحالات المزمنة، وإذا تعاطت حقن المريض أيضًا بالمحاليل المطهرة أو القابضة في المستقيم، ويكون مقدار الحقن نحو لتر في المحلول الدافئ. الوقاية- تقوم بتطهير الماء بالغلي أو غيره بالامتناع عن أكل الخُضر وغيرها إلا إذا طهرت، وبإبادة الذباب بقدر الإمكان أو منعه من الوصول إلى الطعام أو الشراب. *** الحمى الراجعة أو ذات النكس Fever Relapsing مرض معد شهير ينتشر عادة بشكل وبائي، وليس له طفح مخصوص كبعض الحميات الأخرى، وإنما يمتاز بحصول حمى بضعة أيام تنتهي فجأة بعد نحو أسبوع، ثم ترجع ثانية بعد مُضي بضعة أيام وهكذا. وهي كثيرة الوجود في مصر وغيرها، وقد كانت تنتشر بشكل مريع في السجون وغيرها حيث يكثر الازدحام. ينشأ الشكل المعتاد منها في مصر من ميكروب حيواني حلازوني الشكل اكتشفه [أبرميير Obermeier] في الدم سنة ١٨٧٣ وله أنواع يختلف بعضها عن بعض قليلاً كما في بلاد الهند وأمريكا. طول هذا الميكروب يختلف من ١٦ - ٤٠ ميكرونًا وعرضه ميكرون واحد. وهو يشاهد في دم المصاب بهذه الحمى بين كرياته لا في داخلها. ويقول بعض الباحثين: إنه يمكن مشاهدته في طور التفريخ قبل حصول الحمى بنحو ٤٨ ساعة، ويقول آخرون: إنه يشاهد أولاً في اليوم الثاني للحمى ويكثر عدده كلما تقدمت الحمى، ولا يقل إلا إذا بلغت الحمى أكثر شدتها وارتفاعها قبيل البحران، فإذا انخفضت الحرارة لا يشاهد الميكروب في الدم إلى أن تقترب النوبة الثانية. وقد أمكن تلقيح الإنسان والقرد بهذا الميكروب إذا حُقن فيهما جزء من دم المصاب. وشاهد بعض العلماء أن الميكروب إذا اختفى من الدم ذهب إلى الطحال، وهناك تبتلعه بعض الكريات البيضاء وتقتله، فلذا استنتج أنه إذا أفلت بعضها من القتل وعاد إلى الدم تكاثر فيه فتنتكس الحمى. والإصابة بهذه الحمى لا تحمي الشخص من عودتها بعد زمن إلا قليلاً ولكنها تحمي غالبًا من الإصابة بالتيفوس. ومن الأسباب المهيئة للعدوى الفاقة والجوع والازدحام والقذارة. وذلك لأنها تنتقل من شخص إلى آخر بواسطة قمل الجسم فقد شُوهد فيه نفس الميكروب، وهو لا ينتقل إلى الإنسان بلسع القمل لجسمه، وإنما ينتقل بطريقة أخرى، وهي أن المصاب بالقمل يكون كثير الحك لجسمه فيتسلخ جلده قليلاً من أظافره أو غيرها فإذا سحقت قملة في أثناء الحك أو غيره كالنوم عليها وأصاب دمها بعض تلك الجروح التي بالجلد دخل منها الميكروب إلى الدم وأصاب الإنسان بالحمى. ويبقى الميكروب في جسم القملة مدة حياتها بل يصل إلى بويضاتها (الصئبان) فتتلقح به أيضًا، ولذلك وجب الاحتراس من القمل والصئبان فإنهما ينقلان هذه الحمى. وهي تصيب الإنسان في جميع الأعمار ولا تميز بين الذكر والأنثى إلا قليلاً فإن نسبة المصابين بها من الذكور إلى الإناث تكون عادة كنسبة ٣ إلى ٢ وهي كثيرة الحصول للفقراء والشحاذين ونحوهم لكثرة ضعفهم ووجود القمل فيهم، وقل أن تصيب الأغنياء إلا إذا صادفتهم قملة انتقلت إليهم من مصاب بها اقتربوا منه. وهناك نوع من هذه الحمى يحصل في إفريقيا ينتقل من شخص إلى آخر بواسطة القراد، ولكن مدة هذه الحمى أقصر فإنها تكون عادة يومين أو ثلاثة، ويوجد أيضًا ميكروبها حتى في بويضات القردان، ويجوز أن ينتقل إلى الجيل الثالث من نسله. الأعراض- يتراوح طول التفريخ بين يوم و ١٦ يومًا ولكن في أكثر الأحوال يكون أقل من تسعة أيام. وتبدأ الحمى فجأة بقشعريرة أو برعدة يعقبها سريعًا صداع في الجبهة وآلام في الظهر والأطراف. وبعد زمن يسير تزول القشعريرة ويخلفها إحساس بحرارة في الجسم ويزداد الصداع والآلام المذكورة. وتكون درجة الحرارة في اليوم الأول ٣٩ أو أكثر فيضطر المريض إلى التزام الفراش ويشتد به العطش والإقهاء وقد يعتريه الغثيان والقيء ويحتقن الوجه ويبيض اللسان وتزداد درجة الحرارة في الليل فتكون ٤٠ أو ٤١ وتنخفض قليلاً في الصباح فتكون أقل بدرجة غالبًا. وقد تتكرر الرعدة ويكثر العرق. ويسرع النقل، وكذلك مرات التنفس. ويعتري المريض في بعض الأحوال اليرقان الشديد حتى يتكون البول بلون المُرة (الصفراء) وتكبر الكبد والطحال خصوصًا، وتظهر [النملة Herpess] أحيانًا على الشفتين وقد يحصل رعاف (نزف من الأنف) . وتستمر هذه الحالة على نحو من أسبوع، ويقل نوم المريض ويشتكي كثيرًا من آلام المفاصل والعضلات، ولكنه يبقى حافظًا لقواه العقلية إلى قبيل النهاية وعندئذ يعتريه الهذيان، وتشتد الحمى جدًّا قد تصل إلى ٤٢ و ٤٩ وحينئذ تنفرج الأزمة فجأة ويحصل البحران، ويكثر العرق وتقل مرات النبض والتنفس، وتنخفض الحرارة بسرعة ويشفى المريض غير أنه قد يعتريه همود خصوصًا إذا كان شيخًا، وقد يصحب البحران إسهال أو رعاف وتكون الحرارة أقل من الدرجة الطبيعية ثم يتحسن الحال بسرعة وتشتد شهوة الطعام وتعود قوة المريض في ثلاثة أيام أو أربعة. وبعد أن يظن أنه شُفي تمامًا تعود إليه الحمى فجأة كما بدأت، ويكون ذلك بعد مضي أسبوع تقريبًا، ويصبر المريض في عين الحالة التي كان عليها في المرة الأولى، وبعد بضعة أيام تنتهي النكسة بالبحران أيضًا. وقد ينكس المريض ثانية وثالثة ورابعة، وكذا خامسة في النادر. ومن المرضى من لا ينكس ألبتة. وتكون مدة النكس في الغالب أقل من مدة المرض الأولى فتكون عادة أربعة أيام أو خمسة، وقد تكون يومين أو ثلاثة، وتكون النكسة في الغالب أخف وطأة من الحمى الأولى، ولكنها أحيانًا تكون أشد بل قد يموت منها المريض. واعلم أن جميع المدد المذكورة سابقًا هي تقريبية فإنها تتفاوت تفاوتًا عظيمًا باختلاف الأشخاص، وقد رأينا في السجون المصرية أن مدة الحمى الأولى قد تتراوح من يوم إلى ثمانية أيام أو تسعة، والفترة الأولى من يومين إلى واحد وعشرين يومًا، ومدة النكسة الأولى من يوم إلى عشرة، والثانية من يوم إلى سبعة وهلمَّ جرًّا في الاختلافات العظيمة في مدة الفترات وأيام النكس، ومن المسجونين من نُكس أربع مرات [٥] . وعدد الوفيات يختلف من ١٤ إلى ١٨ في المئة، ويحصل الموت عند اشتداد الكرب في الحمى الأولى أو عقب البحران مباشرة من الهمود خصوصًا في الشيوخ كما تقدم. وقد يحصل الموت بسبب التسمم البولي والتشنج أو بالالتهاب الرئوي أو بالزحار أو غيره. ومن المضاعفات غير ما ذكر، ضخامة الطحال وتمزقه، والحُمرة بالأطراف السفلى، والتهاب الغدد اللعابية أو تقيحها، والتهاب العين الذي يعميها، وإجهاض الحَبالا والنسف الرحمي الخطر. ((يتبع بمقال تالٍ))