كان الله ولا شيء معه إلهًا في ذاته منزهًا بألوهيته، فليس بكم ولا كيف محتجبًا في أزله منزهًا عن التحديد فليس بالجسم التعليمي الذي تحده الأبعاد، ولا بالشيء المفروض الموهوم الذي تكيفه الأفكار تخيلاً وافتراضًا، وإنما هوالكائن في ذاته لا تحيط به العقول ولا تصل إليه الحواس، وكيف والحواس لا تدرك إلا أعراضًا لا تلبث أن تزول، سبحانه لا يعلم شأنه إلا هو. كان الله ولا شيء معه فلا سماء ولا أرض، ولا طول ولا عرض، كان مصدر الخير ومفاض النعمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (كنت كنزًا مخفيًّا لا أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني) أراد الله أن يُعرف بنفسه ويمتاز بألوهيته التي يظهر فيها مظهر الكمال المطلق من قدرة غالبة وإرادة حكيمة وعلم واسع فأبدع من الخلق ما شاء وكون مملكة متأثرة بتلكم الصفات الثلاث: فالإرادة رتبتها، والقدرة أبرزتها، والعلم حفظها من عبث الجهل الذي هو سبب الفساد في كل شيء. نعم فطر الله الكون على قواعد ونواميس كلية وأقام عليه هذا العالم الأكبر: عالم الحياة الحادثة والحركة المتجددة، فأوجد مقوماتها قوًى وكتلاً مختلفة التركيب والعناصر، وقد أثبت العلم أن خلقه البارئ سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: مادة ونفس، فالمادة عبارة عن الأجسام، والجسم عبارة عن كل كتلة أشغلت فراغًا سواء أمكن النظر إليها أم لا كالهواء والماء فإنهما لا لون لهما فلا تدركهما الأبصار. والنفس عبارة عن معانٍ مجردة لا تشغل فراغًا ولا تتزاحم مع غيرها من أنواعها، ولا يزاحمها أيضًا غيرها، والدليل على ذلك قريب وهو أنه يوجد في الإنسان طريقان: طريق خاص بالأشياء الجسمانية هو الفم يوصل الغذاء إلى قاعة جسمانية أيضًا هي المعدة بحيث لا يمكن أن يشغل فراغها شاغل لا يصح أن لا يقف عند حد محدود في كميته، وذلك كالغذاء النازل فيها فمتى امتلأت دفعت، وطريق نفساني مورده الحس المشترك، وقاعه الحافظة تقبل من المعلومات ما لا يتناهى لا تضيق بعلم دون آخر بل هي قابلة لأن تتناول كل المعلومات التي تصل إليها مهما بلغ مبلغ كميتها. وقد قيل في النفس آراء كثيرة لا حاجة بها هنا، ومن المادة والنفس كان التكوين، فكانت هذه المجموعة وأودعت السلطة أرقى نفس فيها أفيض عليها من لدن البارئ جل وعلا صفة العلم فكان الإنسان بها خليفة وملكًا سخر له غيره من عالم المخلوقات. وانقسمت المادة باعتبار مميزاتها إلى ثلاثة أقسام: حيوان، ونبات، وجماد، وهي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا يقتضي أن يكون وجود الثلاثة في آن واحد؛ إذ لا غنى للحيوان عن النبات ولا للنبات عن الحيوان، والكل تقلّه الأرض وتعطيه من خواصها ما يحتاج إليه، ويظهر من ذلك أن الكائنات كلها لم توجد دفعة واحدة كما هو رأي الفلاسفة، وإنما وجدت بترتيب حيث كانت العوالم العلوية الفياضة، ومنها سار التأثير في العالم السفلي ومن ذلك ربما يصدق قول بعض المنجمين الذين يرصدون الأفلاك فيستنتجون من أشكالها حوادث جوية ووقائع أرضية [١] . قد يظن إنسان أن النبات ليس محتاجًا إلى الحيوان، كلا فإن النبات محتاج في حياته إلى الحيوان؛ فإنه يتنفس كالحيوان وبينهما في هذه الصفة ارتباط شديد فالحيوان ينقي الهواء للنبات والنبات ينقي الهواء للحيوان. وإليك الغابة دليل وهي المكان الطبيعي الذي لا يخلو من وجودهما فهما يتبادلان منفعتهما، والغرض من هذا الارتباط العظيم بقاء ذلك الكون إلى أجله المحدود تتوارد عليه عوامل الترقي كلما كشف العلم عن أسراره، وأبان البحث والتنقيب خفاياه {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) . أيها السادة: الترقي في الكون لا يقتضي تغييرًا ولا تبديلاً في نواميسه {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: ٣٠) وإلا لانقلبت الحقائق، وذلك ضرب من المحال وإنما ترقي الكون عبارة عن تحسين مادة اجتماع العناصر التي تتآلف منها كتناسب الأوضاع وتوفيق الألوان واتحاد المشارب، واقتراب ما تنافر منها بالمعالجة بالعلم والتربية، انظروا إلى الإنسان الأول واحتياجاته فكم علم حتى عمل حتى وصل إلى ما هو عليه الآن من المدنية الباهرة، والذي يكفل ذلك إنما هو العلم الصحيح، هذا مبدأ صحيح وقاعدة يجب الاعتماد عليها وإلا ساءت الحال وقبح المآل، فإذًا يجب على المتعاونين والمتعاقدين قبل دخولهما في التعاون والعقد الاتحاد والائتلاف، وما أحرى الزوجين أن يكونا كذلك، فهما إن لم يأتلفا كانا مدرسة شقاء لأبنائهما ومهيع فساد لذريتهما، فتعارف الرجل وامرأته قبل الاقتران بها أمر ضروري طبيعي حتى يتم ذلك التقسيم الشرعي في قوله تعالى: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور: ٢٦) فالخبيث يرى الخبث فضيلة في غيره، والطيب لا يرى فضيلة في غير الطيب، وإلا وجب حل العقدة وفك الشركة، وقد جاء في الحكم عن العرب (إن لم يكن وفاق ففراق) فمهما تغيرت تلك المبادئ الطبيعية أو تنكرت فعلى ممر الزمان يضطر إلى الرجوع إليها. هذا ما حدا بالأوربيين الآن إلى أن يحلوا عقدة الزواج بمجرد اختيار أحد الزوجين وقد بلغ التنافر بعضهم إلى حد مدهش هو ما روته بعض الصحف من طلاق امرأة زوجها لكون لون شعره لم يأتلف بصبغ أثاث منزلها الذي أنفقت فيه مبلغًا طائلاً! وما أظلم تلك المرأة التي لم تر بيع أثاثها أولى من بيع بعلها! بل ما أظلم الشريعة أو القانون الذي يقرها على صنعها، فعقدة الزواج عندنا يا حضرات الإخوان عقدة ذنب عقدت مصالح أسرية كثيرة يجب أن نضعها دائمًا على خارتة البحث والتفكير. والترقي في الكون له أسباب كثيرة، وأول أساس فيه المال وما ورد في شريعتنا الغراء من مقال الزهد في المال والتحذير من فتنة الدنيا، فإنما الغرض منه البعد عن أكبر رذيلة تلصق بالإنسانية ألا وهي الحرص الذي هو عبارة عن حب المال لذاته، وهذا أقبح ما يكون في الإنسان. ومن الترقي في الكون الاقتصاد في المادة للمحافظة على قوتها النامية؛ لأن الاقتصاد هو التوسط، فإذا أضعف الأرض نبات ضروري كالقطن مثلاً وجب أن يستنبت فيها عامًا بعد عام حفظًا لحياة الأرض ويمكننا أن نقيس على هذا المثال الكبير غيره حتى نصل إلى أقل الخلائق. النملة تدخر قوت شتائها من صيفها فمخالفة هذه القاعدة عصيان للترقي وجفاء للتقدم، والفلاح الذي يزرع الأرض قطنًا عامين متواليين طمعًا في سعة الرزق جاهل غبي يختار كثيرًا ينقطع عنه على قليل يدوم عليه، وقد قالت العقلاء: (قليل تدوم عليه خير من كثير تنقطع عنه) . ومن الترقي في الكون المدنية العلمية وذلك بإيجاد الصناعات والصعود بها إلى مدارج الترقي حتى تصل إلى تسخير الجماد ليأخذ عن الحيوان ما يجهده كاستخدام البخار والكهرباء لإراحة الحيوان واتجاه قوى الإنسان الجسمانية إلى مساعدة القوى العقلية، وهذا سبب صحيح لترقي العمل والصناعة، فإن الصانع المفكر لا يشك في أنه يأتي بصناعة متقنة لا يوفق لها الصانع المسخر وشتان بين من يعمل بواسطة عقله ومن يعمل بما اعتادت عليه يداه، إني لا أغلو في هذه المكان إذا قلت: إن في خبايا الكون إلى الآن أسرار تستخرجها العقول على مدى الأيام، وقد أثبت العلم أن عقول أهل الطينة الحارة أذكى من عقول أهل الباردة. فأحتسب على الشرق إن استعمل عقله أن يأتي بما لم تستطعه الأوائل. ومن الترقي في الكون العمران، والإنسان وإن كان مكلفًا بهذه الوظيفة السامية إلا أنه من العجيب أنه إذا اتسع به الفضاء أدركته الوحشة ومال إلى الأنس فانضم إلى غيره من بني جنسه ليعاونه أولاً على مصالحه، وليأتنس به ثانيًا فإذا ضاق به المكان كره الزحام ومال إلى الأثرة وحب النفس وتنازع البقاء مع أقرب الناس إليه، وود لو كان هو كل الإنسان فما أعجب هذا الإنسان، نعم يوجد في المزاحمة كبير فائدة من حيث العمران، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرزق عند تزاحم الأقدام) إلا إنه يلزم أن يكون الناس على نظام يكفل لكل حقه فيقف الأجشع عند حده، ويساق العالة إلى العمل متى قدر عليه، وذلك بحرمانه من الصدقة والإعانة. وقد ورد عن أبي مسلم الخراساني زعيم الدعوة العباسية أنه مما أوصى به أولاده عند قرب منيته: أن لا يعينوا كلاَّ ولا يعطوا عالة فيكون في جسم الأمة أعضاء تألف الكسل في العمل وحتى لا يوجد دجال ولا ذو عرافة وشحاذ قادر على العمل. هذا القانون هو النظام الذي يسنه الله لعباده إما بطريق الوحي وإما بإلهام حكماء الأمة وعقلائهم وضعه لذلك، تجد عالم الوثنية قائمًا في بعض الجهات على قواعد وقوانين وضعها الرؤساء لا تخرج عن النظام والترتيب في المعيشة بل قد تكون أشد في التكليف من الأوضاع الإلهية وقد أكد لي خبير أن اليابان على ما هم عليه من الوثنية على كعب عالٍ في الأخلاق، ويؤيد ذلك بزوغ شمس الحكمة من الهند من قديم الزمان؛ أي: قبل أن يصل إليهم الإسلام وعلى أثر ذلك نقول: إن فطرة كل مخلوق هي قيامه بالعمل لنفسه أولاً، ولما خلق لأجله ثانيًا فالمعادن متى أخذت قسطها من خواص الأرض وظلت نافعة كان ذلك لفائدة غيرها، وكذلك النبات. ترى النخلة تبحث بجذورها على الماء فقد تدركه على بعد مائة ذراع أو أكثر وذلك بجهد لو قام به حيوان لأَنَّ أنين التعب الكادح. وكثيرًا ما شوهدت جذور النخلة تساقط من بين جدران الآبار إلى الماء وبينها وبين تلك الآبار مسافة واسعة، كل ذلك الغرض منه حفظ حياتها لتؤدي وظيفتها التي خلفت لأجلها، ألا وهي تقديم الرطب الجني لبني الإنسان. وكذلك الحيوان يعمل أولاً لقوام حياته ومنه ما يبذل تلك الحياة الثمينة التي تعب في نموها ويتقدم بها إلى غيره ضحية لينتفع بها ذلك الغير كدودة القز المعلومة التي تظل تعمل لتقدم لنا مادة من أنفس المواد لطافة وأغلاها قيمة؛ ألا وهي الحرير، ومنه ما يتفضل علينا بما يخرجه من بطنه شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس كما أخبر بذلك خالق النحل وموفقها إلى هذا العمل الكبير الذي لا يطابق بنيتها حيث قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: ٦٨-٦٩) . أيها السادة ما الذي ترونه في هذا الترتيب؟ هل في هذا الترتيب خرق؟ حاشا. هل في هذه الفطرة ظلم وشر؟ كلا، فمن أين يجيء الشر ومتى يكون المخلوق شريرا؟ انظروا إلى الترتيب الآتي أيضًا: تتكون المعادن من مادة الأرض فتنقصها، وكذلك النبات والحيوان ثم تعود تلك الأشياء إليها ولو باستحالة الصورة فتسد موضع النقص منها، وهذا سر البقاء للكون، فإذا أراد الله إذهابه اختلفت هذه النسب فيحصل الفساد، ذلك ما جنح له كبار علماء التفسير في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد: ٤١) فإذا أراد الله القضاء على العالم أنقص الأرض، والإنقاص من الطرف مبدأ طبيعي عند إرادة إبادة الشيء. وذهب قوم إلى أن طرف الأرض عبارة عن قطبيها. ولكني أقول: إن طرف الأرض هو مجموع سطحها فكل نقطة فيه تسمى طرفًا فكأن مجموع سطحها أطراف لها. ولذلك عبر سبحانه وتعالى بلفظ الجمع فقال: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (الرعد: ٤١) ولو كان النقص من القطبين كما فهم بعضهم لعبر الله تعالى بلفظ المثنى؛ أي: من طرفيها كما هي سنة القرآن الكريم في الإخبار. على أن الجزء الذي فيه الانقلاب والتغيير من الأرض إنما هو سطحها، وهو الذي يعقل أن يعتريه النقص. جعل الله بقاء هذا الكون بتبادل الأشياء الثلاثة، وغذاء بعضها من بعض، فالأرض تأكل نباتًا وحيوانًا، والنبات يأكل أرضًا وحيوانًًا، والحيوان يأكل من الثلاثة. وهذه الثلاثة تنقسم إلى مراتب بحسب القوة والضعف بحيثيات مختلفة؛ فمن حيث إن الحركة والقوة في العمل ظاهرة للحيوان كان هو أقواها وأرقاها ومن حيث إن الأرض هي أم الكل منها تخرج وإليها تعود كان الجماد أقواها وأبقاها وإذا بحثنا في الأشياء الثلاثة نجد في كل منها شيئًا من الضرر في غير ذاته؛ أي: بالنسبة لغيره، فقد يكون الجماد سامًا كالمعادن الحريفة الشديدة القبض وكذلك بعض النبات والحيوان، ومن الغريب أن للحيوان الغير الناطق خاصة يميز بها من النباتات السام من غير فيجتنبه والطيب من الخبيث فيرعاه ولا يعقل أن تكون الأجسام السامة عديمة الجدوى، بل قد تكون نافعة لكذا وضارة بكذا. على أن العمدة في الطب القديم والحديث على الجواهر السامة ومن يصدق منا أن البقدونس وهو النبات الطيب المفيد للمعدة والمثانة يقتل الببغاء بمجرد تعاطيه. علم مما تقدم أن الكائنات الثلاثة متماسة، وأن منها ما لا يجد قوته إلا بالافتراس، وأن الإنسان على ترقيه العظيم ما هو إلا حيوان مفترس، إلا أن ما أوتيه ما من الذكاء والتدبير جعل طبيعة الافتراس فينه منتظمة: الإنسان يصطاد الحيوان فإن كان دينه يلزمه بتذكيته (ذبحه) ذكاه، وإلا خنقه أوعبطه أو وقذه. وفي الذبح بالطريقة الشرعية تخفيف على الحيوان بشرط مراعاة أحكام الذبح الواردة، ولذا كان الذبح من أهم المقاصد الشرعية والديانة الموسوية لها فيه شروط مؤكدة، ولا يعد الذبح تعذيبًا للحيوان فإنه يؤدي به وظيفة خلق لها قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (النحل: ٥) والطبيعة الغذائية في الحيوان كله تشهد بأن الإنسان من الحيوانات أكالة اللحم ولو امتنع عن أكل اللحم أربعين يومًا ضعف مزاجه جدًّا، وربما يمرض مرضًا شديدًا لو استمر أكثر من ذلك. اللهم إلا إذا تعود الأمر وحينئذ يصير أكل اللحم ضارًّا له، الذبح عبارة عن قطع الودجين وإنما يقطعان في لحظة فلا يكاد يحس الحيوان؛ لأن الجسم حينئذ يكون انفصل عن المخ الذي هو مركز الإحساس. نعم ليس في ذبح الحيوان تعذيب، وإنما التعذيب هو أن يعيش عاملاً فوق طاقته، أو يكون على خلاف طبعه وهي الحال التي تقضي على ذوي العقول بالانتحار تخلصًا من شر الحياة، ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة) ، وجاء عن بعض الفلاسفة أنه ترفع عن أكل اللحم مدة حياته كأبي العلاء المعري. وقد فهم قوم أن الذي حمله على ذلك رأفة منه وشفقة على الحيوان. هذا إن لم نعتقد أنه ناشئ من فاقة كان عليه ذلك الحكيم، كما جاء في بعض رسائله، ومثل هؤلاء من يضرب على نفسه بسور من حديد حتى لا تلزمه الحاجة الواسعة فيشقى في طلبها، على أن الأمر ليس كذلك فحاشا أن يجهل المعري ومن نحا نحوه من الفلاسفة أسرار التكوين وإنما الغرض من ذلك أن يكسر سورة نفسه فتتجرد من حجاب الجسم الكثيف الذي تزيده الشهوات واللذات ظلمة، فتصفو صفاءها الذي ظهر في شعره الحكيم، وهذا هو السبب الحقيقي الذي فرض الشارع لأجله الصوم تقليلاً لتلك الشهوات. إذا تقرر هذا المبدأ أقول: ليس في الحيوان شر قط خصوصًا ما كان منه أبله؛ إذ لا فكر توجد به أمراض القلب كالحقد والحسد والغرور والأثرة وغير ذلك من أمراض الإنسان. فكما أن العقل زينة له، كان هو مصيبة عليه، ذلك مذهب عامة الفلاسفة، يدلك على ذلك ترفع الأسد عن العودة إلى فريسته مهما نهكه الجوع؛ لكونه يأنس من نفسه قوة تهيئ له طعامه متى شاء. ربما ائتنس الإنسان بوحوش الحيوان ورافق الثعبان فلا يرى منه إلا المسالمة المطلقة ويأمن له أكثر من أخيه الإنسان، قال أبو العلاء المعري رحمه الله: عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصَوَّت إنسان فكدت أطير وهذه الحكمة مبنية على ما تقدم من أنه قد يوجد الإنسان بين جماعات أدنياء، من الناس، فلا يأمن على حياته منهم ويفضل وجوده مع الوحش على وجوده مع هؤلاء الناس، وما كان خلقه من الحيوان الأذى والضرر كما تظن فإنه لا يخرج أيضًا بهذا الخلق عن كونه يؤدي وظيفة اضطرته إليها الطبيعة فيه كالفأرة مثلاً تترقب فرصة الليل السادل خيمته على العباد فتبيت تقرض طول ليلها فتفسد الأثاث والرياش، ويعلم الله أنها لا تعلم له قيمة ولا تتصور له لطافة، وما ذلك إلا لكونها خلقت حادة الأسنان ترتاح كثيرًا لتشغيلها. وكذا العقرب ليس بينه وبين غيره ثأر فيخرج ليأخذ به بذنبه، ولكنه لكونه خلق أعمى تراه يخشى دائمًا في سيره فيتحصن بذنبه وهذا خلق فيه فلا لوم عليه. فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فكيف أباحت الشريعة الرشيدة لنا قتل هذه الحيوانات؟ قلت: إن هناك مبدأً عمرانيًّا ضروريًا هو إتلاف الحقير لحفظ العظيم. ويقابله في ذلك قاعدة أصولية هي: إتلاف الثلث لإصلاح الثلثين جائر. فإذا كان من خلق الفأرة العبث بالأشياء الصالحة وجب قتلها حتى تحفظ تلك الأشياء من التلف كما إذا كان عضو من الأعضاء ضارًّا بالجسم وجب قطعه وعلى ذلك أباح الشارع أيضا الحكم بالإعدام على القاتل، وهو ذلك العمل الذي هوعبارة عن إزهاق الروح ومصادرة البارئ جل وعلا في منحه عباده صفة الحياة؛ فكيف يصح للشارع وهو الذي ينكر ذلك العمل الفظيع بالأمس أن يأتي به اليوم وقد استفظعه من غيره؟ يقال ذلك إذا كان الغرض من الإعدام الأخذ بثأر المقتول فقط ثم إنه لا فائدة تحصل للمقتول أو لأهله من قتل القاتل. كلا إنما الغرض من القصاص تأديب من كان في نفسه مطمح إلى هذا الجرم، فيرى أنه مقتول لا محالة والنفس عزيزة خصوصًا إذا كانت الجرأة على القتل بعامل ليس له كبير تأثير فيها كالاختلاس مثلاً أما إذا ضاق بها الأمر وكرهت البقاء عليه كالذل والضيم والظلم وهتك العرض ورد الصائل تقابلت الصدور بالسهام ورأت اللذة في آلام الحمام: يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول وهذه حالة استثنائية عسى ألا يؤاخذ القانون مرتكبها؛ لأن النفوس في ذلك تفقد رشدها بخلاف القتل بأسباب سافلة ولا يتأتى ذلك إلا من الجبناء فكان القصاص لأحدهم أعظم رادع. هذا هو معنى الحياة الذي استنتجه عقلاء التشريع من قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٧٩) لولا هذا النظر ما استفاد أهل المقتول من القاتل شيئًا، أما أخذ الدية فهو أمر ثانوي قد يكون فيه سلوان لأولياء الدم متى كانوا فقراء وليست بمتيسرة في كل الأوقات، على أن المروءة والإباء يأبيان أخذ الدية خصوصًا متى كان القتل حاصلاً بسوء القصد وذلك يشفي صدر أهل القتيل بموت عدوهم، وليس هذا بشيء ولا بمبدأ عمراني متى قصر النظر عليه فلو قابلنا كل شيء بشيء مثله في التلف لما مكثت الدنيا أكثر من مائة عام، مثلاً: عمرو هدم بيت زيد وزيد يهدم بيت عمرو وخالد مزق ثوب بكر وبكر يمزق ثوب خالد. أما إذا كان القتل اتفاقًا وهو ما يسمونه بالقضاء والقدر أو كان بمحض الخطأ فإن الدية لا بأس بها متى تيسرت. ومن الترقي في الكون التمتع بحرية العدل وإقامة قانون تدين إليه جميع الرؤوس يكفل التساوي بين الناس في حقوقهم، ذلك القانون كان في قديم الزمان عبارة عن أحكام اصطلاحية تتفق عليه الأمة سواء أكانت حكيمة؛ أي: مطابقة للناموس العام كالشرائع السماوية والأحكام الديمقراطية أم موافقة لأجواء البلاد وأجسام سكانها كالأحكام العرفية التي تختلف كثيرًا باختلاف الأجيال واستعداد الأجسام، يأتي في الأمة جيل لا يردع إلا بالسوط، كما يأتي فيها عينها جيل يؤدبه الصوت. هنا توجد قاعدة ينبغي أن نذكرها لمناسبة ذكر العدل ألا وهي قولهم: (التساوي في الظلم عدل) كيف يكون التساوي في الظلم عدلاً؟ وكيف يصح أن يكون الظلم مصدرًا للعدل والعدل مصدرًا للظلم مثلا؟ نعم قد يضطر الإنسان أحيانًا إلى استعمال الظلم معتقدًا أنه ظلم إذا لا بد منه ولكنه حينئذ لا يسمى ظلماً وإنما يسمى سياسة وهذه القاعدة واسعة الدائرة تشمل القيام على حقوق الإنسان والدخول في شخصيته متى كان لا يحسنها وذلك كالحجر على السفهاء والقيام على اليتامى والوصايا على القاصرين ومصادرة السكارى والضرب على أيدي المقامرين ومنع الربا واحتسابه إلى قدر معلوم وغير ذلك كما هو خاص بالأحوال الشخصية التي ربما يقال: إن الاتفاق فيه يبررها. نعم إنه يوجد في قواعد التشريع أيضًا قولهم: لا مشاحة في الاصطلاح ولا حكم بعد الاتفاق، والملك يتصرف في ملكه كيف يشاء. وبنيت على تلك القواعد أحوال أهمها: إباحة القتل للمتبارزين كما هو قانون نابليون إلا أن مثل تلك الاتفاقات قد تضر بالمجموع الكلي؛ إذ إنه مركب من الأفراد فساغ إذًا للحكومة القائمة عليه المسؤولة عنه أن تضرب على ما يتطرق إليه من الفساد ولو أدى ذلك إلى مصادرة الأفراد. بقي لنا في هذا المركز نقطة يجب أن تعرض لها لأوافيكم علمًا بها، حاشا فإنكم عالمون متمدنون أعلم مني بها، وإنما أرجو أن تنشروها فيعرفها الجاهل ألا وهي كلمة الحرية التي كثير من جهالنا ينطقون بها ولا يفهمون معناها الحقيقي. نعم كثير من الناس من يجهل معنى هذه الكلمة، بل بعضهم يفهم منها عكسها عكسًا مضطردًا ويرى أن الحرية في إطلاقه يعني في الأرض بسكر وعربدة وتهتك وابتذال، وأن الرجل والمرأه في ذلك سواء. فتحرج متبرجة على ما يخالف جميع أجناس النساء الكاملات تحجب وجهها وتكشف زنديها، وتستر رأسها وتكشف عن ساقيها , وإذا كست زندها بالقفازين (الجوانتي) أظهرت جبينها. ولبعض الرجال معايب ربما ساوت هذه المعايب المتقدمة مما يدل على الإنسان المصري في هذه البلاد معكوس الحال ولو أمكنه أن يمشي برأسه لانقلب يمشي عليه حبًّا في العكس المضطرد ما هذه الحرية؟ ! أيها السادة: إن الحرية كما لا يخفى عليكم عبارة عن التساوي الممكن بين أفراد الناس. وهو المبدأ الذي يجب المحافظة عليه، ومحب الحرية أول من يحترم حقوق الغير محافظة على حقوقه هو أيضًا، وهو أول من يقول الآداب وتربية النفس لتتمثل الناس بأحاسن العادات ومكارم الأخلاق فتتمتع بمواهبها وتطلق عنان فكرها في ميادين حريتها بما لا يخرج عما وضعه قانون عمرانها وأقره عقلاء أمتها. الإنسان - أيها السادة - مطلق مقيد وليس هذا بعجيب، بل هذا من لوازمه، وليس ذلك حاطًّا من كرامته ولولا ذلك لأشبه الحيوان لأنه لو كان مطلقًا فقط لأشبه سوام الماشية وعمل الحيوان كالكلاب والقطط، ولو كان مقيدًا فقط لأشبه أذلاء الحيوان كالحمار والبغل والجمل، فجهة إطلاقه هي جهة حريته يتصرف فيها كيف يشاء لا يسأل عما ملك ولا عما وهب بشرط أن لا يخرج ذلك عما ترضاه. وجهة تقييده هي قيامه بواجباته كإدانته لأمه وأبيه وزوجه وبنيه، وفصيلته التي تؤويه وملازمته عادات قومه الضرورية التي قد يختل النظام بتركها كترك لغته باستعمال غيرها واحتقاره مصنوعات بلاده وغير ذلك مما نراه سببًا في انحطاط كثير من الأمم. وإدانته أيضًا لجامعته ووطنه حتى يعمل هو أيضًا لغيره كما قدمناه في قسيميه الحيوان والنبات. أيها السادة: إني أذكر لكم نتيجة استنتجتها مما كتبه العلامة ابن خلدون في هذا المقام تحت عنوان (المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض وأن الربع الشمالي منها أكثر عمرانًا من الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك) أفاض الحديث هذا العالم الجليل، وبعد أن عرف الأرض وخططها، وذكر منها خطوط الطول والعرض، ومدار الكواكب، واختلاف مسقط أشعة الشمس باعتبار الزوايا الثلاث؛ برهن على أن الجزء الشمالي منها كثير العمران؛ وذلك بسبب توفر الرطوبة فيه حيث قال: (وإفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفًا ويبسًا يمنع من التكوين؛ لأنه إذا أفرط الحر جفت المياه والرطوبة وفسد التكوين في المعدن والحيوان والنبات؛ إذ التكوين لا يكون إلا بالرطوبة) ولا بأس هنا بذكر جملة فلكية عن هذا الأستاذ إتمامًا للموضوع قال: (إذا مال رأس السرطان عن سمت الرؤوس في عرض خمسة وعشرين فما بعده؛ أي: بعد هذا العدد نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى الاعتدال أو يميل عنه قليلاً فيكون التكوين ويتزايد على التدريج، إلى أن يفرط البرد في شدته لقلة الضوء وكون الأشعة منفرجة الزوايا، فينقص التكوين ويفسد، إلا أن فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد؛ لأن الحر أسرع تأثيرًا في التجفيف من تأثير البرد في الجمد؛ فلذلك كان العمران في الإقليم الأول والثاني قليلاً، وفي الثالث والرابع والخامس متوسطًا لاعتدال الحر بنقصان الضوء، وفي السادس والسابع كثيرًا بنقصان الحر، وإن كيفية البرد لا تؤثر عن أولها في فساد التكوين كما يفعل الحر؛ إذ لا تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس، كما بعد السابع؛ فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر وأوفر والله أعلم) اهـ. هذا الربع هو عبارة عن قارة أوربا، وهي حقيقة أعظم القارات عمرانًا ونتيجتي من موضوع هذا العمران الكبير هي أن الحضارة والعمران الغربي إنما هو نتيجة طبيعة القارة، لا أن للأوربيين عقولاً استثنائية تتفاوت عن غيرها كما يفهم بعض المفتونين بالغرب، وإذا كنا نحن - أيها السادة - لا نجد من طبيعة جونا معينًا كهؤلاء، أفلا يجمل بنا أن نعاض ذلك من أنفسنا قوة وشجاعة حتى نتساوى مع أولئك الأوربيين ولعل ذلك سر ذكاء أهل البلاد الحارة، فإن الله الحكيم العليم يبعث بالمعونة على قدر المؤونة، فأعطانا ما أنقصه منا من خاصة أرضنا ذكاء، وجلدًا حبذا لو قدرناه واستعملناه. ومن أسباب الترقي في الكون المطاوعة لمقاديره والتصرف في حوادثه، وذلك ما يعبرعن ضده بالجمود. قال أفلاطون: (لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم) ، وهذا أمر ضروري إن لم يكن طوعًا فليكن كرهًا، ولشريعتنا فيه نظر حكمة ورشاد، قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: ١٠٦) يعني: إذا نسخ الله حكمًا أنى لنا بأحسن منه أو بمثله في زمان أو حال يناسبه حيث كان لا تناسبه حاله الأولى وليس ذلك بكبير على الله؛ لأنه ليس الغرض منه أن الله تعالى يجهل موافقة الأحكام لأوقاتها حاشا فهذا شيء مستحيل عقلاً، إنما الغرض من ذلك وضع مبدأ للمكلفين يتصرفون فيه بحسب ضروراتهم. والنسخ بالبداهة لا يتأتى إلا في المعاملات المبنية على الأوامر والنواهي. وليس بمعقول أن ينسخ توحيد بغيره، ولا أن تبدل صلاة بصلاة، بل قد يتبدل الحكم بغيره للتخفيف أو التشديد كنسخ الوصية للأقارب بالميراث وعدة الوفاة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، ذلك كما قال العلامة الخطيب الشربيني؛ لأن الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلاً من الله ورحمة. وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كأسباب المعاش فإن النافع في عصر قد يضر في غيره , اهـ. وكان لسيدنا عمر - رضي الله عنه - في ذلك أحكام خاصة منها: إيقاع الطلاق ثلاثًا دفعة واحدة، وإقامة صلاة التراويح في عشاء رمضان. وأحكام استثنائية كثيرة في معاملة أهل الذمة لا تخرج عن كونها سياسية أكثر منها شرعية. ومن الترقي في الكون إيجاد قوة الجماعة كاشتراك الأفراد في الأعمال، وأهمها: عقد الشركات ومن يكن في ريب من ذلك فليسأل عنه الجالية الأوربية النازلة بنا حيث إنا لم نوفق لها حتى الآن. نسأل الله حسن التوفيق. هذا أيها السادة ما حضرني من أسباب الترقي الضرورية، وهناك أسباب كمالية لا تخرج عن تحسين ذلك النظام البديع منها الجمعيات والمنتديات والمتنزهات، وهي وإن كانت كمالية إلا أنها لا بد منها لكل أمة بغية الوصول إلى الكمال، والله الهادي إلى سواء السبيل.