للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها
(س١) سليمان عبد الله في (السويس) وهو رجل غريب كتب إلينا بأن
عنده شبهات في الدين يحب كشفها، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو:
الحديث المشهور: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة الإسلامية أو فطرة
الإسلام وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أصحيح هو؟ وما هي
الفطرة الإسلامية؟ أمسلمًا يولد المولود؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة،
أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى! فبالإجمال ما معنى هذا
الحديث الشريف؟
(ج) أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي
هريرة، وهو لم يدرك أبا هريرة؛ فالحديث عنده منقطع بلفظ: (كل مولود يولد
على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء
هل تحسون فيها من جدعاء) ورواه مسلم والترمذي وصححه، وفيه: (يشرِّكانه)
بدل (يمجسانه) والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث،
وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار، ونقول هنا
ما لا بد منه؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلاً:
إننا نرى جميع أهل الملل - حتى الكتابيين - يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة
مقتضى الخلقة، وأن أصوله فوق قضايا العقول، وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن
الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة، وأنه لا حق لصاحب الدين في
طلب الدليل على عقائده، ولا في السؤال عن حكمة عباداته، ولا في تطبيق أحكامه
على مصالح الأمة وخير البشر، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم
تقليدًا أعمى.
ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق مثل
ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها؛ أي أن اليهودي مثلاً يعتقد أن الله
اصطفى كل يهودي، وميّزه على العالمين؛ لأنه يهودي، فهو إذا أذنب يعفو الله
عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين؛ وإذا عذبه فإنما يعذبه أيامًا معدودات!
وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله - تعالى- إذا أحسن لا يقبل إحسانه، وإذا
أساء يتضاعف عذابه. كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة
ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها؛ فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير
بلد من بلادها، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل، ويستبيحون محاربة
قوم آمنين مهذبين، وإذلال كبرائهم، وإهانة عظمائهم، واستعباد دهمائهم، وإن
أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير، وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى
المسلمين، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة.
أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية؛ فنسفها نسفًا، وبيَّن للناس
أن الدين مع الفطرة في قرنٍ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة، وضعفه هو ضعف
الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة؛ فعقائده وُضعت لترقية العقل، وآدابه وعباداته
لترقية النفس، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع، والتعامل بين الناس؛
ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه، والبحث عن حكمه، ونظامه، وأسراره
وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله، وذكر عند طلب كل
عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس، وتحليتها بالأخلاق العالية،
كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته. وبَيَّن أن العقوبة على
الكفر، والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس، كما
أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة، والأعمال الصالحة في النفس.
والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا، وقد فسرنا في مجلدات المنار
الماضية العشرات منها في الأصول العامة، والفروع الجزئية، وإعادته هنا تطويل
لا محل له، فإذا اشتبه السائل أو خلا فليسألْ عن الشواهد يُجب. وفي باب التفسير
من هذا الجزء شيء من ذلك.
ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف، بل سمّى أهل الحق
مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين؛ لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم
وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم. لا على قبول التسمي والرضى
باللفظ والمعيشة مع أصحابه؛ ولذلك قال في بعض المسلمين: {قَالَتِ الأَعْرَابُ
آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات: ١٤) ، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: ١٢٣) الآيات، وقال: ما رأيت تفسيره في
هذا الجزء.
فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه: موافق لسنن الله
تعالى في الخلقة الإنسانية؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية
حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها. ومعنى ولادة
كل مولود على هذه الفطرة؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به
على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر
عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو
شقائه في الدنيا والآخرة، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس
الطبيعة،وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه -
على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة،
فالنصرانيان يُنشِّئان ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا
بمقتضى الفطرة، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب
القول به، والاعتماد عليه، وإن لم يعقل، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل
شيء، وبيده ملكوت كل شيء، قد اعتنى بأمرهم، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما
أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه
بجنين، فصار إلهًا وإنسانًا، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما
يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويألم مما يألمون له، ويتعب مما يتعبون، ثم
مكَّن شرارهم من صلبه، فصلبوه، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث، ثم قُبِرَ ولُعِنَ
ودخل الجحيم، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم، ومع ذلك كله لم تكن
طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم، وهم الذين
استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم، ويسلموا بهذا القول تسليمًا.
فهذا - يا سيدي - معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة، وهذا هو الفرق بينه
وبين أديان التقليد، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة؛ فإن هذا ليس من
الفطرة في شيء، وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق
والباطل ورواية مسلم هكذا: (كل مولود تلده أمه على الفطرة، فأبواه بعدُ يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم) وهو الذي جرينا عليه في كتابنا
(الحكمة الشرعية) ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة، والله
أعلم.
***
اختلاف المذاهب في الأحكام
وشهادة أوربي للإسلام
(س٢) ح. ح. في الجبل الأسود:
فقيركم هذا مشغول بالتجارة، وقبل عيد الأضحى خرجت في أوربا لأجل
التجارة؛ فاجتمعت يومًا بأحد الأوربيين؛ فقال: إن أكمل الأديان وأجملها دين
الإسلام، لكن الذي كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي
الله عنهم - فقلت: ونحن - والحمد لله - على دينهم وعلى سبيلهم. فقال: نعم،
ولكن منكم الحنفية، ومنكم الشافعية، وغير ذلك، فكل واحد من هؤلاء مخالف
لصاحبه في الأعمال والأحكام الدينية، فعند الحنفية إذا جرى دم أحدهم ينقض
وضوءه، وعند الشافعية: لا، وإذا مس امرأة أحد الشافعية ينقض وضوءه، وعند
الحنفية: لا. فهل كان النبي يفعل كما يفعل الحنفية أم كما يفعل الشافعية؟ . فبقيت
لا أقدر على رد جوابه فإن أحسنتم بالجواب فلكم من الله الثواب.
(ج) إنه لا خلاف بين أئمة الأحكام في شيء من أصول الدين وأحكامه التي
لا يتحقق الإسلام بدونها وإنما اختلفوا في مسائل فرعية للاجتهاد والرأي فيها مجال؛
إذ لم يصح فيها شيء قطعي في الكتاب العزيز والسنة المتواترة المجمع عليها؛
ولذلك كان يعذر بعضهم بعضًا في اختلاف الرأي فيها، ويعد كلٌّ عبادة المخالف له
صحيحةً، ويصلي وراءه كما بيناه غير مرة؛ ولذلك قلنا في مقالات المصلح والمقلد:
إن الطريق إلى الوحدة الإسلامية هي أن يُجعل ما أجمعت عليه جميع المذاهب هو
الأصل الذي يؤاخي به بعضنا بعضًا ونقلنا عن كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة
الإسلام الغزالي أن رأيه ترك المسائل الخلافية والعمل بما اتفقوا عليه. وإنك لتجد
المتعصبين لمسائل الخلاف لا يعملون بجميع مسائل الاجتماع والاتفاق، ولو عملوا
بها لأدوا جميع الفرائض وتأدبوا بأكمل الآداب، وتركوا جميع الرذائل والمحرمات
الضارة بأفرادهم وأمتهم ولكنهم قد أهملوا وتهاونوا في كل شيء، إلا في تعصب كل
فريق على الآخر فيما تفرقوا فيه، وإذا دَعَوتَهُم إلى الوفاق الذي دعا إليه الغزالي في
آخر عمره قالوا: (يا للغيرة! إنه يريد هدم المذاهب وإفساد الدين) .
أما طريقة الوفاق بين مَن يحبون البحث في هذه الفروع الخلافية ولا يرضون
بالبراءة الأصلية التي قال بها الغزالي - فالتوفيق بينهم لا يكون إلا بالرجوع إلى
السنة الآحادية والروايات القولية، ولم يثبت حديث يحتج به على وجوب الوضوء
من خروج الدم، بل ورد خلافه على أن الوضوء منه احتياطًا لا يضر، بل الأولى
أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة إذا لم يجد مشقة في ذلك، وأما مسألة لمس المرأة ففيها
آية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: ٤٣) ، والأرجح أن الملامسة فيها كناية عن
الوقاع، وأما الروايات فهي متعارضة، ولكن ما ورد في عدم النقض هو الذي
يصح، كحديث وضع عائشة يدها على بطن قدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم
- وهو يصلي رواه مسلم والترمذي، وحديث مسها برجله هو عندما اعترضت أمامه
وهو يصلي رواه النسائي وصححه الحافظ ابن حجر، والاحتياط لا يخفى، لا سيما
إذا كان اللمس بشهوة، والله أعلم.
***
نتف ريش الطائر
(س٣) الشيخ محمد خطاب بالأزهر: نرى قومًا من صادة السمان في
شواطئ البحر الأبيض المتوسط ينتفون ريشه قبل ذبحه؛ لأنه لا جلد له، بل
الريش مغروس في اللحم، وفي هذا من تعذيب الحيوان ما لا يخفى، ولو نتف
ريشه بعد ذبحه خرج ما فيه من الدسم مع ريشه لانتفاء حرارته بالذبح، وقد عمت
هذه البلوى كل أهالي بلادنا، فهل يجوز أكله وهل يسوغ استعمال هذه الطريقة في
تنظيفه؟
(ج) لا خلاف في أن تعذيب الحيوان محرم ولكن تحريم نتف الطائر حيًّا لا
يقتضي تحريم أكل المنتوف المذكَّى تذكية شرعية، ولعلهم لو نتفوا السماني عقب
الذبح قبل أن تبرد حرارته لتيسر لهم وإلا فلهم أن يصبوا على ريشه ماءً سخنًا من
غير مبالغة تؤثر في بطنه، وما يفعلونه من وضع الطيور في الماء المغلي زمنًا يؤثر
تأثيرًا تمازج به رطوبة النجاسة اللحم - غير ضروري لتسهيل النتف وهو جهل،
فينبغي تنبيههم له.
***
الصيد بالبندق والرَّصَاص
(س٤) ومنه: كثيرًا ما يصطاد الصيادون الطيور بالرصاص ويسمون وقت
الطلق، ولكن بعض الصيد ينزل حيًّا والبعض ميتًا؛ وما كان حيًّا بعضه به حياة
مستقرة، والبعض ليس به هذه الحياة، والصياد يذبح الجميع، وربما توانى بالتذكية
عن بعض ما فيه الحياة، فلا يدركه إلا وقد فارقته، فهل يجوز أكل هذا وهل ذكاة
فاقد الحياة واجبة؟ والمصيبة الكبرى أن كثيرًا من البيوت - بل عامتهم - يضعون
هذه الطيور، وكل أنواع الدجاج في ماء مغلي لسهولة نتف الريش قبل استخراج ما
في بطنها، وربما أوقدوا نارًا تحت هذا الماء، وهي فيه، فما حكم الله في هذا معلنًا
في المنار، للاسترشاد به شدّ الله به أواصر الدين؟
(ج) قد اختلف المشتغلون بالفقه في حِلّ صيد بندق الرصاص بعد وجوده
فحرمه بعضهم لأنه مثقل فهو بمعنى الوقذ، وأحله آخرون وجعلوه بمعنى الصيد
بالسهام وألف ابن عابدين رسالة في حله، وكذلك أحد مشايخ الإسلام في تونس.
وهو الذي أراه أقوى، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الصيد بالمِعراض،
وهو عصا في رأسها حديدة، أو سهم لا نصل له ولا ريش إذا خزق أي خدش،
وإن أدرك الصيد ميتًا، والحديث في الصحيحين والرصاص والبندق أشد خزقًا
وأسرع قتلاً، وإنما حرم الوقذ؛ لأنه تعذيب (راجع مقالات التذكية والموقوذة في
المجلد السادس) ولا حاجة لذبح الصيد الذي يرمى فيدرك ميتًا، أو يأتي به الكلب
ونحوه ميتًا بشرطه؛ لأن ذلك تذكية له بلا خلاف، وإذا جاز الصيد بالبندق
والرصاص فهو كذلك.
***
الجبر والقدر
(س٥) ومنه: طالما يخطر في بالي ويتردد في فكري قول القائل:
ما حيلة العبد والأقدار جارية ... عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
ولا أجد منه مُخَلِّصًا أو أقف على مسلك فلجأت لساحتكم مسترشدًا جعلكم الله ركنا
ركينًا للمسلمين.
(ج) هذا القائل يخاطب الرائي وهو لا يرى فإنه اكتفى بما في خياله عما
تحت نظره، إذ يرى العبد يحتال وهو يسأل ما حيلته والأقدار هي التي جعلته
يحتال ويعمل كما هو مشاهد، ومنه أن بعض الناس ألقوا أنفسهم في اليمّ، ومنهم
من لم يلقها، ولو كانت الأقدار حكمت على كل إنسان بأن يلقى في اليم مكتوفًا لكانوا
كلهم سواء وما هم بسواء. وظاهر إنه يريد بالإلقاء في اليمّ الحال السيئة التي يقع
الإنسان فيها ولا يجد له مفرًّا منها وليس كل الناس كذلك. والمسألة عقدتها كثرة
الكلام والتخيلات فيها، وهي بديهية لمن فهم معنى الإنسان، وسنن الأكوان، ومن
شدة الظهور الخفاء؛ فإن القدر والتقدير والمقدار الواردة في الكتاب والسنة معناها
ظاهر، وهو أن كل شيء يجري في العالم فهو يجري بسنن ونواميس ومقادير معينة
ثابتة. وهذا هو الذي يزيل الحيرة ويهدي الإنسان إلى كسب المنافع واجتناب
المضارّ، ولو كانت الأشياء تجري بغير تقدير ولا حساب لكان الإنسان الذي خلق
عالمًا متفكرًا في حيرة دائمة؛ لأنه لا يعرف طريقًا لشيء من مصالحه. وهذا أسهل
حل لمسألة القدر وأقربه وأخصره، ومن زاد عليه البحث في كيفية الخلق والتكوين
فهو من المجانين.