للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


محادثة بين
صاحب جريدة الحاضرة ورئيس تحرير جريدة فرنسوية

اجتمع صاحب جريدة الحاضرة العربية الوحيدة في تونس بموسيو ترديون
رئيس تحرير جريدة الدبيش تونزيان، وتكلما في موضوع التعليم الذي تبغيه فرنسا
بتونس. فرأينا أن نلخص ما دار بينهما لما فيه من العبرة للمسلمين الذين استعمر
بلادهم الأوربيون، أو احتلوها باسم الحماية أو غير ذلك.
(الصحافي الفرنسي) : ما قولك أيها الرصيف في المقالة التي نشرت اليوم
في جريدتنا تحت عنوان (ما هي النسبة التي علينا أن نعلمهم - أي التونسيين -
عليها؟) جوابًا على مقالة في هذا الشأن نشرت في التونزي فرانسيز تحث على
حرمان التونسيين من نعمة التعليم العالي الموصل إلى النتائج الفكرية النافعة من
طب وهندسة وخصام (كذا ولعله يريد الحقوق) وتحرير إذ رأى محرر هذه
الجريدة أن نظام الحماية قاض بإبقاء التونسي دائمًا في دياجير الجهل حتى لا يهتدي
إلى الصواب والترقي الفكري سبيلاً، وبمعاملته كما تعامل البهائم حتى لا يطمح إلى
الاستقلال ولا يتوصل إلى إنكار ما يلحقه من الأذى والظلم.
(الصحافي التونسي) بعد جملة في مدح العلم: هل تنكرون أن فرنسا
اختلت هذا القطر لبثِّ أنوار العرفان ونشر راية المدنية بين أهالي المملكة فكيف
يمكن الجمع بين هذه الدعوى وبين قضية حرمان شبان التونسيين من التعليم.
(الفرنسي) : نحن لم نقل بحرمان التونسي من كل تعليم بل زدنا على
السماح له بالتعليم الابتدائي أن أجزنا أن يتعلم بعض الأفراد العلوم العالية بصفة
استثنائية خاصة لا عامة؛ لأن انتشار العلوم العالية يثقف العقول ويفتح البصائر
ويولد الطمع بالاستقلال في نفوس المسلمين لما هم عليه من صفات الرجولية
والشجاعة وحب الجلاد والمحافظة على شعائرهم بخلاف اليهود فإنهم لا وطن لهم
ولا مطامع، سياسية وهم بكثرة تقليدهم وميلهم لمجانسة الأوربي كادوا أن يكونوا على
صبغته فنحن على خلاف رأي التونزي فرانسيس ترى تقييد نشر العلوم العالية
وتخصيصه ببعض الشبان لا حرمان جميع الأفراد منه بالمرة.
(التونسي) : لعلكم سلكتم هذا المسلك مصانعة لأصحاب الأسهم من
التونسيين (وفي الأصل مراعاة لخاطر أصحاب الأسهم) .
(الفرنسي) : ربما كان ذلك من جملة الأسباب ولكن هذا هو رأينا الخاص.
(التونسي) كيف يسوغ ذلك التقييد، والعلم نور ساطع لا يمكن إخماده
وفي محاولة حجبه عن الناس خصوصًا القادرين منهم على اقتباسه بأنفسهم من
إيغار الصدور وجلب البغضاء ما لا يليق بدولة حرة هي قدوة الأمم في ترقي
الفكر.
(الفرنسي) : لقد ضيق الإنكليز من قبل دائرة تلقي الشبان المصريين للعلوم
العالية في مدارس الحكومة.
(التونسي) : لكنهم لم يتمكنوا من منع النهضة المصرية التي أغنت الأمة
عن مدارس الحكومة بما أقامه أفراد نبهائها ونبلائها من المدارس في كل علم وفن
وعدلوا عن هذه السياسة في ممالك الهند حيث أقام أشراف القوم وسراتهم المدارس
الكثيرة للعلوم العالية من قديمة وحديثة وذلك؛ لأنهم رأوا هذه السياسة أكفل للولاء
وتعلق رعاياهم بحكمهم.
(الفرنسي) : نحن نود أن لا تثقف أذهان التونسيين عامة بالعلوم العالية
وأن لا يتخرجوا فيكونوا أساتذة قادرين على النفع والانتفاع بتحصيلهم حتى نأمن
مقاصدهم فلا يسلكوا مسلك المكي كمون في التحامل على الحكومة والنظامات
التونسية.
(التونسي) : هذا كلام فيه نظر فإن كمال التعليم يقي الكامل من الجنوح إلى
الباطل ويسلك به طرق الجد والعمل النافع له ولقومه وإن تطرف المكي كمون من
ثمرات التعليم الابتدائي الناقص الذي تجيزه.
(الفرنسي) : لو تجنس كل نابغ في العلوم العالية بالجنسية الفرنسية لما
أوحينا منه خيفة؛ لأنه حينئذ يكون عضوًا فرنسيًّا يؤدي واجب الخدمة العسكرية
من عهد الشبيبة.
(التونسي) : هل يتساوى بهذه الجنسية التونسي والفرنسي في جميع
الحقوق والمصالح؟ إننا رأينا من خواص الفرنسيين من لا يرى هذه المساواة مطلقًا
ويعيب مجانسه بحداثة التجنس.
(الفرنسي) : ذلك لأنهم مع التجنس وبعد أداء الخدمة العسكرية في الجيش
يعودون إلى عوائدهم كلبس الطربوش، وربما لبسوه عثمانيًّا وارتداء لباس البادية
والإقبال على الصلوات والأذكار! ! !
(التونسي) : لعلكم تقصدون بالتجنس ترك شعائر الدين وتغيير الأزياء ولو
شاطركم المتجنس في أعز الامتيازات الوطنية كمشاطرة اليهود لكم في الحقوق
والمصالح الحيوية بتغييراتهم الصورية، فهل المخلص لكم من يَتَزَيَّا بأزيائكم مع العلم
بأن لبس الزُّنار لا يقتضي الترهب وهل تنطبق هذه الأفكار على حرية (التدين)
إن لم نقل ترك التدين؟ ألا يُعد هذا لو صدر من مسلم من التعصب الذميم والتغالي
الممقوت في عرف مدنية هذا العصر الذي ضيقت الحكومة فيه على مدارس الرهبان؟
(الفرنسي) : إنما نقصد نحن امتلاك القلوب، ولذلك نود أن يتنازل لنا
المسلم عن أحكام دينه الذاتية كالأنكحة والمواريث مما هو مصداق الحالة الشخصية.
(التونسي) : إذا كان القصد من التجنس هو تغيير الدين وأصوله الأساسية
بما يخرج عن دائرة دينه وملته فهو مما لا يرغب فيه مسلم ذو مروءة؛ لأن المارق
من دينه ممقوت عند الله وعند الناس ولو كان دخيلاً فيهم. ثم إن في التجنس بهذه
الصفة قلب الهيئة الإسلامية بتغيير الأنساب والنسب في المواريث وحقوق الزوجية
في التصرف؛ إذ المرأة عندنا حرة لا يتوقف تصرفها على إذن زوجها إلى غير
ذلك من مسائل الأرحام والأنساب التي جاءت بها أحكام الشريعة الإسلامية المنزلة.
فلماذا لا تتغير أحكام القانون الفرنسي إلى الأحكام الإسلامية؟
(الفرنسي) : الحق لكم في هذا المبحث فإن نسبة المواريث مقصودة لأجل
إبقاء الميراث بيد الذكور أعمدة البيوت وهو ما قصده الإنكليز من أحكامهم في هذا
الباب. على أنه لا مانع من البحث عن طريقة للتوفيق بين مصالح الهيأتين الأهلية
والفرنسية لدوام الألفة وحسن المعاشرة في هذه الأوطان.
(التونسي) : ذلك أحسن مرغوب تتجه إليه القلوب وترتاح له النفوس ويا
حبذا لو سعت الجرائد المحلية في تحقيقه. غير أني أقول بالإجمال: إن أكفل
وسيلة لبلوغ هذه الأمنية هي توزيع الفوائد والمغانم وتقسيم المنافع المادية بصورة
عادلة توفر للأهالي حظًّا من فوائد القطر ومغانمه حسية كانت أو معنوية كالوظائف
والمساعدات المادية والأدبية والحث على الترقي الفكري الذي هو ثمرة المدنية.
(قال) ثم وادعنا رصيفنا المومى إليه قانعًا بما وضحنا له من
الخطاب. اهـ
... ... ... ... * * *
(المنار) نقلنا هذا الخطاب بتصرف لفظي قليل لا يغير شيئًا عن المعنى
ولا نستنبط منه شيئًا بل ندعه للقارئ يفهم منه ما يفهم. ونعرف رصيفنا الفاضل
صاحب الحاضرة بأن الإنكليز لم يحاولوا مقاومة التعليم الأهلي فيقال: (إنهم لم
يتمكنوا من منع النهضة المصرية) إلخ وأن المدارس التي حدث عنها لم تغن عن
مدارس الحكومة ولا قاربتها في حسن التعليم، ولو أن المصريين عرفوا قيمة حرية
الإنكليز في العلم والدين وكل ما يحتاجه من يتولون أمورهم لكانت لهم مدارس كما
وصف الرصيف ولكنهم رزئوا بأحداث يبغضون إليهم الإنكليز وأعمالهم ويمنونهم
بأن فرنسا ستخرجهم من وادي النيل بهذيان أولئك الأحداث ولغطهم فاشتغلوا بهذا
عن كل شيء حتى علمهم الزمان بحوادثه حقيقة غرور الأحداث وتغريرهم والآن
صار يُرجى منهم النهوض الحقيقي والتعليم النافع فإن فعلوا فإن الإنكليز يساعدونهم
كما يساعدون إخوانهم في الهند، والله الموفق.