للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسن البنا


(٦) حكم الدخان والتنباك.. إلخ

الأستاذ رئيس تحرير المنار الأغر:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) :
فقد اختلف العلماء في حكم (شرب الدخان) ما بين محرِّم ومجوِّز؛ فما القول
الحق في ذلك؟ وما دليل كل من الفريقين فيما ذهب إليه؟ أفتونا ولكم من الله
المثوبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أنور الصناديقي
... ... ... ... ... ... ... ... ديروط المحطة قبلي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله (وبعد) :
فالدخان شجرة لم تُعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في القرون
الإسلامية الأولى، ولم يُعرف استخدامها هذا الاستخدام تدخينًا أو مضغًا.. إلخ،
والقاعدة العامة في المحدثات من هذه الأمور أن يُحكم عليها بآثارها ونتائجها؛ فما
كان منها نافعًا استحب وطلب الانتفاع به، وما كان منها ضارًّا كُره وحُرِّم بقدر
ضرره، وما جرى مجرى العادة ولم تعرف له فائدة ولا ضرر فهو على الإباحة
الأصلية، وهذا وجه اختلاف العلماء في شرب الدخان.
ومن الذين قالوا بحرمته من استدل بحديث أبي داود: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن كل مُسكر ومُفتر) قالوا: والدخان مفتر، فإن من شربه على
غير اعتياد شعر بدوار وفتور، فهو حرام بالنص، ومن قال بالإباحة نازع في هذا
الأثر، ولم يسلم مما ذهبوا إليه من أنه يحدث الفتور.
وقد أورد صاحب (الروض النضير شرح المجموع الكبير) بحثًا طيبًا قد
يتصل بهذا المعنى عند الكلام على أنواع المسكر في الجزء الثالث، كما أن
للإمام الشوكاني فُتيا في هذه المسألة، ولعل من تمام الفائدة أن نذكر هذين البحثين،
ثم نقف عليهما بما نرى أنه يتفق مع الحق في هذه المسألة:
قال صاحب الروض النضير: (فائدة) قال في البدر التمام: وكذا يحرم ما
أسكر وإن لم يكن مشروبًا كالحشيشة وغيرها.
وقد جزم النووي وغيره، وصرح بذلك الإمام المهدي في الأزهار بأنها
مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة وليست بمسكرة. قال ابن حجر: وهو مكابرة؛
لأنها تُحدث ما يُحدث الخمر من الطرب والنشوة، وإذا سلم عدم الإسكار فهي
مفترة.
وقد أخرج أبو دواد (أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر
ومفتر) . قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخَدَر في الأعضاء.
وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال: ومن
استحلها فقد كفر، قال: وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة لأنها لم تكن في زمنهم؛
وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولة التنار.
وذكر المازري قولاً أن النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد، وكذا ذكر ابن
تيمية في كتاب السياسة أن الحد واجب في الحشيشة كالخمر، قال: لكن لما كانت
جمادًا وليست شرابًا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد
وغيره.
وقال ابن البيطار -وإليه انتهت الرياسة في معرفة خواص النبات والأشجار -: إن الحشيشة - وتسمى القِنَّب - توجد في مصر مسكرة جدًّا إذا تناول الإنسان منها قدر
درهم أو درهمين، ومَنْ أَكَثر منها أخرجته إلى حد الرعونة، وقد استعملها قوم
فاختلت عقولهم، وأدى بهم الحال إلى الجنون، وربما قتلت.
قال بعض العلماء: وفي أكلها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية. وقبائح
خصالها موجودة في الأفيون، بل وفيه زيادة مضار، وكذا قال ابن دقيق العيد في
الجوزة إنها مسكرة. ونقله عنه المتأخرون من الحنفية والشافعية والمالكية واعتمدوه.
وحكى القرافي عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في إسكار الحشيشة بين
كونها ورقًا أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر، قال:
والصواب أنه لا فرق؛ لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون
والبنج، وهي من المسكرات والمخدرات.
وذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة، وقال الزركشي: إن هذه
المذكورات تؤثر في متعاطيها المعنى الذي تدخله في حد السكران، فإنهم قالوا
السكران الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم. وقال بعضهم: هو
الذي لا يعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض، ثم نقل عن القرافي
أنه خالف في ذلك.
والأولى أن يقال: إن أريد بالإسكار تغطية العقل، فهذه كلها صادق عليها معنى
الإسكار، وإن أريد بالإسكار تغطية العقل مع نشوة وطرب فهي خارجة عنه، فإن
إسكار الخمر يتولد عنه النشوة والنشاط والطرب والعربدة والحمية، والسكران
بالحشيشة وغيرها يكون فيه ضد ذلك، فيتقرر من ذلك أنها تحرم لمضرتها للعقل
ودخولها في المفتر المنهي عنه، ولا يجب الحد على متعاطيها؛ لأن قياسها على
الخمر قياس مع الفارق مع انتفاء ببعض أوصافه. اهـ.
وقوله: (كالحشيشة وغيرها) يدخل فيه نوع من القات الموجود في بلاد اليمن
والحبشة، يكون منه اختلاط العقل وتغيره، ومن بعضه خروج آكله عن حيز
الاعتدال في طبيعته. وقد روي في ذلك حكايات، فما بلغ منه هذا التأثير حرم
تناوله، ويؤدب من تعمده بعد علمه بالتحريم، وكذلك القدر المخرج عن الاعتدال
أيضًا من الزعفران والأفيون والعريط وكل نبات مساوٍ لها في الصفة والتأثير،
والله أعلم.
وجاء في رسالة إرشاد السائل إلى أجوبة المسائل للشوكاني:
السؤال الحادي عشر عن شجرة التنباك: هل يجوز استعمالها على الصفة
التي يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟
أقول: الأصل الذي يشهد له القرآن الكريم والسنة المطهرة هو أن كل ما في
الأرض حلال، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص: كالمسكر، والسم القاتل،
وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه؛ وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال
استصحابًا للبراءة الأصلية وتمسكًا بالأدلة العامة كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي
الأَرْضِ جَمِيعا} (البقرة: ٢٩) ، {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} (الأنعام: ١٤٥) الآية.
وهكذا الراجح عندي أن الأصل في جميع الحيوانات الحل، ولا يحرم شيء
منها إلا بدليل يخصصه: كذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، والكلب أو
الخنزير، وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه، إذا تقرر هذا علمت أن هذه
الشجرة التي سماها بعض الناس التنباك وبعضهم التوتون، لم يأت فيها دليل يدل
على تحريمها، وليست من جنس المسكرات ولا من السموم ولا من جنس ما يضر
آجلاً أو عاجلاً، فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل.
ولا يفيد مجرد القال والقيل، وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله
تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} (الأعراف: ١٥٧)
وأدرج هذه الشجرة تحت الخبائث بمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول، وقد
غلط في ذلك غلطًا بينًا، فإن كون هذه الشجرة من الخبائث هو محل النزاع،
والاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شوب مصادرة على المطلوب، والاستخباث
المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل.
فإن من يستعملها هي عنده من الطيبات لا من المستخبثات، وإن كان بالنسبة
إلى بعض هذا النوع الإنساني فقد وجد منهم من استخبث العسل وهو من أطيب
الطيبات، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب، وقال:
أجدني أعافه؛ فأكله بعض الصحابة بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، ومن
أنصف من نفسه وجد كثيرًا من الأمور التي أحلها الشارع من الحيوانات وغيرها أو
كانت حلالاً بالبراءة الأصلية وعموم الأدلة، في هذا النوع الإنساني من يستخبث
بعضها وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مجرد استخباث البعض
مقتضيًا لتحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره لكان العسل ولحوم الإبل والبقر
والدجاج من المحرمات؛ لأن في الناس من يستخبث ذلك ويعافه، واللازم باطل،
فالملزوم مثله، فنقرر بهذا أن الاستدلال على تحريم التوتون لكون البعض يستخبثه
غلطًا أو مغالطة. اهـ كلام الشوكاني في هذه المسألة.
والمعروف أن الدخان يسبب أضرارًا صحية كثيرة نتيجة التسمم
(النيكوتيني) ومن هذه الأضرار - كما قال الأطباء - ازدياد ضربات القلب وعدم
انتظامها، وسوء الهضم، وتهييج الغشاء المخاطي للشعب الرئوية فيورث السعال
المزمن وسوء حركة التنفس، فلا يمكن للشخص إجهاد نفسه من غير أن يعتريه
الإنهاك، وضعف النظر عادة يكون من بعض هذه النتائج، وربما أدى إلى عمى
جزئي، وكذلك تصاب الدورة الدموية بآفات أهمها سرعة حركة القلب وتصلب
الشرايين، وقد يورث ذلك القلب ضعفًا مستمرًّا يؤدي إلى السكتة القلبية بغير ألم أو
سابقة إنذار، وكما تحدث هذه الأضرار الصحية بالتدخين، تحدث كذلك بالمضغ،
بل هي في المضغ أشد وأوضح؛ لشدة تأثير النيكوتين الذي يتخلف معظمه في الفم
بالمضغ، وقد حدثت الوفاة لبعض الناس الذين مضغوه، وكذلك توفي رجل أراد
تهريب الدخان (من الجمرك) بأن خبأه تحت ملابسه ملاصقًا لجلده، والتدخين
يرفع ضغط الدم وينبه العصب الرئوي المعدي فيهبط القلب، وهذا هو سبب الأرق
بعد الإكثار من التدخين.
وهو بعد هذه الأضرار الصحية إسراف في المال بغير سبب، فهو إضاعة له
وتبذير، وقد نُهينا عن التبذير وإضاعة المال، وقد أثبتت الإحصائيات أن المدخن
ينفق في الدخان أربعة أمثال ما يصرفه في الملبس، وهو عبث فارغ لا فائدة ترجى
من ورائه، والعاقل بله المؤمن ينزه نفسه عن أن يضيع وقته في العبث، فهو
ضار ولا شك، وقد نفى الإسلام الضرر والضرار.
وقد يقال: إن هذه الأضرار جميعًا إنما تحدث حين الإفراط لا حين الاعتدال فيه
والتقليل منه، والجواب على ذلك أن يقال وأين ضمان الاعتدال، وقد أثبتت
الإحصائيات الدقيقة أن الاعتدال نادر بين المدخنين، فسهولة تناول اللفافة وتحكم
العادة وما يتخيله المدخن من لذة التدخين كل ذلك يجره إلى الإفراط، حتى أنه
ليشعل اللفافة من الأخرى بشكل ميكانيكي من غير أن تكون في نفسه حاجة إلى
التدخين، وكثير من المدخنين من هالته كثرة أعقاب اللفائف التي استهلكها بعد أن
ينتهي من عمله أو وحدته.
وإذا تقرر هذا فالذي يظهر لي أن تعاطي الدخان تدخينًا بأية كيفية أو مضغًا
أو سعوطًا بأية كيفية كذلك: حلال بأصله - إذ الأصل في الأشياء الإباحة - حرام
لغيره، وهو ما يترتب عليه من الأضرار، والقليل منه يلحق بالكثير سدًّا للذريعة
ومنعًا للقدوة الفاسدة، وأما التداوي بتعاطيه فجائز بالقدر الذي يتم به الغرض،
ومثله في هذا التنباك والقات وما جرى مجراها.
ولهذا أنصح للمدخنين من المسلمين أن يقلعوا عن هذه العادة ولو بالتدريج،
والذين لم يعتادوا هذه العادة أن يحذروها ما استطاعوا.
ذلك ما ظهر لي في هذه المسالة، وأنا على استعداد للرجوع عنه إذا ما نبهت
إلى غيره مما هو أولى بالاتباع، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
* * *
فائدة لغوية
يطلق بعض الناس على (الدخان) الطباق، والمعروف لغةً أن الطباق نبات
بري تتغذى به الظباء وأبقار الوحش، وقد ورد ذكره في شعر أبي العلاء، فهو
يقول في وصف غانية وتشبيهها بالظباء:
ومن العجائب أن حليك مثقل ... وعليك من سرق الحرير لفاق
وصويحباتك بالفلاة ثيابها ... أوبارها وحليها الأرواق
لم تنصفي غذيت أطيب مطعم ... وغذاؤهن الشث والطباق