للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: محمد رشيد رضا


جامع باريس

قضت سياسة فرنسة الاستعمارية أن ينشأ جامع للمسلمين في عاصمتها
(باريس) يكون حجة لها على ما تدعي من حب المسلمين وحسن معاملتهم من حيث
يكون مثابة لمسلمي مستعمراتها وغيرهم ومجتمعًا عامًّا لهم يمكن عيونها (البوليس
السري) من الوقوف على جميع شئونهم وأفكارهم ومقاصدهم، فقامت أولاً بالدعاية
(البوربغندة) له والتنويه بشأنه ثم رسمت له رسمًا نشرته في مشارق الأرض
ومغاربها، وعُرض علينا في تلك الأثناء أن ننشره في المنار في مقابلة مال ننقده
فامتنعنا، ثم عهدت إلى أخلص خدم سياستها وأشهرهم في البلاد العربية الإفريقية
وهو الحاج قدور بن غبريط بجمع الأموال له من الأوقاف الإسلامية التي يتولى هو
إدارتها أو مراقبتها في تونس والجزائر والمغرب الأقصى ومن مسلمي هذه الممالك
الثلاث ففعل فأخذ من تلك الأوقاف ما شاء من مبالغ عظيمة وقرضت الحكومة
الفرنسية من الإعانة للجامع على أهل تلك البلاد ما كانوا يئنون من ثقله ويشكون من
غرمه.
ولم يشبع المشروع كل هذا، بل استجدى القائمون به ملوك المسلمين
وكبراءهم في جميع الأقطار، وقد بني المسجد، وبني له مقهى وملهى ومطعم
متصلة به فيجتمع هنالك الرجال مع النساء بصفات منكرة يحرمها الشرع الإسلامي
كما روى لنا الكثيرون، وقد انتقدها كل من رآها من المسلمين ومن غيرهم، ولا
يزال الوزير الفرنسي قدور بن غبريط يسعى لجمع المال له فقد زار في العام
الماضي مصر وسورية لهذا الغرض فلم يستفد من مصر ما كان يؤمل؛ لأن أهل
مصر يعرفون حقيقة هذا المسجد، ولا يعتقدون أن في بذل المال له قربة ولا
يرجون منه مثوبة عند الله تعالى، بل منهم من يعتقد أن البذل له من إضاعة المال
التي لا ترضي الله تعالى.
ولكن رأينا في بعض الصحف السورية أن رئيس حكومتها الجديد السيد الشيخ
تاج الدين الحسني بذل من خزينة البلاد مبلغًا عظيمًا لإعانة هذا المسجد إرضاء
لولية نعمته فرنسة لا لله تعالى، فأنكر المسلمون عليه ذلك وعدوه من تزلفه للدولة
الفرنسية التي نصَّبته رئيسًا لهذه الحكومة لثقتها بإخلاصه لها، وذكرت الصحف من
حاجة البلاد وأهلها المنكوبين إلى مثل هذا المال ما يجب تقديمه على إعانة ذلك
المسجد السياسي الغني الجشع النهم الذي لا يشبع، ولا يعلم أحد أين تنفق الأموال
العظيمة التي لا تزال تُجمع له.
وإننا نقترح على حضرة الرئيس الحاج قدور بن غبريط أن ينشر في الجرائد
العربية والمصرية والسورية والإفريقية ما جمع من أموال الأوقاف ومن الضرائب
القهرية والإعانات الاختيارية لهذا الجامع بالتفصيل وما أنفق على بنائه ووجه
الحاجة إلى استمرار هذه الإعانات الدائمة، فإنني ما رأيت أحدًا واقفًا على أمر هذا
الجامع ممن رأوه ولا من غيره إلا وهو منتقد ضربًا من ضروب الانتقاد.
ونحن على هذا كله نقول: إن وجوده لا يخلو من فوائد للمسلمين الذين
يجتمعون هنالك من زائري تلك العاصمة العظيمة، ومن المقيمين فيها وحسبك من
ذلك تعارفهم واستفادة بعضهم من بعض وإقامة شعائر صلاة الجماعة وصلاة العيدين
التي يحضرها فيما بلغنا سفراء الدول الإسلامية وكثير من كبراء سياحي المسلمين
فيتعارفون ويتآلفون، وإن كانت إقامة الجمعة يشترط فيها عند بعض الأئمة أن
تكون في مِصْر من دار الإسلام تقام فيه أحكامه، وينفذ سلطانه. وحسبنا أن تصح
عند آخرين منهم.