وأصنافهم والدعاوى فيهم لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره تتمة لما في الجزء ٧م ٢٤ (ص٥٠٨) (فصل) وليس في أولياء الله المتقين , بل ولا أنبياء الله ولا المرسلين من كان غائب الجسد دائمًا عن أبصار الناس , بل هذا من جنس قول القائل: بأن عليًّا في السحاب، وأن محمد بن الحنفية في جبال رضوى، وأن محمد بن الحسن في سرداب سامرا، وأن الحاكم في جبل مصر , وأن الأبدال رجال الغيب في جبل لبنان. فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان. نعم قد تخرق العادة في حق الشخص فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو عنه وإما لغير ذلك , وأما أنه يكون هكذا طول عمره فباطل. نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيبًا عن الناس، ويكون صلاحه وولايته غيبًا عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع. وأسرار الحق بينه وبين أوليائه وأكثر الناس لا يعلمون. (فصل) وقد بينا بطلان اسم الغوث مطلقًا , واندرج في ذلك غوث العرب والعجم ومكة والغوث السابع، وكذلك لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له، وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء كابن حمويه وابن العربي وغيرهما , وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان , وكل طمعًا في رياسة خاتم الأنبياء. وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك للأولياء , فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار , وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وخير قرونها القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم. وخاتم الأولياء في الحقيقة هو آخر مؤمن تقي يكون من الناس، وليس ذلك بخير الأولياء ولا أفضلهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما. (فصل) وأما هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى؛ فمن أهل الضلالة والجهالة وأكثرهم كافرون بالله ورسوله , لا يرون وجوب الصلاة والصيام، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى , وهم ليسوا من أهل الملة ولا من أهل السنة، وقد يكون فيهم من هو مسلم لكن مبتدع ضال أو فاسق فاجر. ومن قال: إن قلندر كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , فقد كذب. وافترى: بل قد قيل أصل هذا الصنف أنهم كانوا قومًا من نساك الفرس , يدورون على ما فيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض واجتناب المحرمات. هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهرودي في عوارفه. ثم إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات وفعلوا المحرمات بمنزلة الملامية الذين كانوا يخفون حسناتهم ويظهرون ما لا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء ولبس العمامة، فهذا قريب وصاحبه مأجور على نيته. ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة , ثم زاد الأمر ففعل قوم المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك دخول منهم في الملاميات. ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والندم والعقاب من الله في الدنيا والآخرة , وتجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون , كما يجب ذلك في كل معين ببدعة أو فجور , وليس ذلك مختصًّا بهم , بل كل من كان من المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة , والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة , والمتفلسفة ومن وافقهم من الملوك والأغنياء , والكتاب والحساب والأطباء وأهل الديوان والعامة خارجًا عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله باطنًا وظاهرًا , مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه وينصره أو يهديه أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه ويدعوه ويسجد له، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقًا أو مقيدًا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى، أو كان يرى أنه هو وشيخه مستغن عن متابعة الرسول، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، ومنافقون إن أبطنوا. وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى , وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل , ويقضي الله فيه لمن لم يقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما في الحديث المعروف: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صيامًا ولا حجًّا ولا عمرة إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة , ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله) فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: (تنجيهم من النار , تنجيهم من النار , تنجيهم من النار) . وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب أو السنة أو الإجماع , يقال: هي كفر. قولاً يطلق كما دل على ذلك الدليل الشرعي , فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنفى موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال. لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا [١] أنكره , ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم , كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها , وكما كان الصحابة يشكون في أشياء: مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله. ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: {َ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: ١٦٥) وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان , وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا. (فصل) وأما النذر للقبور أو لسكان القبور أو العاكفين على القبور؛ سواء كانت قبور الأنبياء أو الصالحين , فهو نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان، سواء كان نذر زيت أو شمع أو غير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوَّارت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) [٢] وقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا [٣] وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد , ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك [٤] ) وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد من بعدي) [٥] . وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا أن تعلق عليها الستور، ولا أن ينذر لها النذور ولا أن يوضع عندها الذهب والفضة، بل حكم هذه الأموال أن تصرف في مصالح المسلمين , إذا لم يكن لها مستحق معين. ويجب هدم كل مسجد بني على قبر كائنًا من كان الميت , فإن ذلك من أكبر أسباب عبادة الأوثان كما قال تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداً وَلاَ سُوَاعا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا} (نوح: ٢٣-٢٤) وقال طائفة من السلف: هذه أسماء قوم صالحين لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم عبدوهم , ومن نذر لها نذرًا لم يجز له الوفاء , لما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وعليه كفارة يمين [٦] ) , ولما روي عنه أنه قال: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين) [٧] . ومن العلماء من لا يوجب عليه إلا الاستغفار والتوبة. ومن الحسن أن يصرف ما نذره في نظيره من المشروع , مثل: أن يصرف الدهن إلى تنوير المساجد، والنفقة إلى صالحة فقراء المؤمنين , وإن كانوا من أقارب الشيخ، ونحو ذلك. وهذا الحكم عام في قبر نفيسة ومن هو أكبر من نفيسة من الصحابة مثل قبر طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة، وقبر سلمان الفارسي وغيره بالعراق، والمشاهد المنسوبة إلى علي رضي الله عنه والحسين وموسى وجعفر وقبر مثل معروف الكرخي وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم. ومن اعتقد أن بالنذور لها نفعًا أو أجرًا ما، فهو ضال جاهل. فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل) [٨] وفي رواية: (إنما يلقي ابن آدم إلى القدر) فإذا كان هذا في نذر الطاعة؛ فكيف في نذر المعصية؟ فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله , وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ مصر فهذا كافر مشرك يجب قتله , وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائنًا من كان. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: ٥٦-٥٧) ، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: ٢٢-٢٣) , {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: ٤) ، وقال الله: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٥١- ٥٥) . والقرآن من أوله إلى آخره وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا مع الله إلهًا آخر. والإله من يألهه القلب عبادة واستعانة وإجلالاً وإكرامًا وخوفًا ورجاءً , كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع , كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي: (يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: فمن ذا الذي تعبده لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن. فلما أسلم قال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي) . (فصل) وأما من زعم أن الملائكة والأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية [٩] محبة له ورغبة فيه فهو كاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين وهي تنزل عليهم وتنفخ فيهم كما روى الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا. قال: بيتك الحمام. قال: اجعل لي قرآنًا. قال: قرآنك الشعر. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: مؤذنك المزمار) , وقد قال تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} (الإسراء: ٦٤) وقد فسَّر ذلك طائفة من السلف بصوت الغناء، وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية ذات المكاء والتصدية) وكيف يذر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني , حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين؟! ورأى بعض المشايخ المكاشفين أن شيطانه قد حمله حتى رقص به , فلما صرخ قال: هرب شيطانه. وسقط ذلك الرجل! وهذه الأمور لها أسرار وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية والمشاهد الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن السبل المبتدعة، فقد حصل له الهدى وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور , بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي , فإنه يصل إلى مقصوده ويجد الزاد والماء في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه، ومن سلك خلف غير الدليل الهادي كان ضالاًّ عن الطريق، فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق. والدليل الهادي هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا نذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ملك السموات والأرض. وآثار الشيطان تظهر على أهل السماع الجاهلي مثل الإزباد والإرعاد والصرخات المنكرة ونحو ذلك ما يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت. إما وجد في الهوى مذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية التي تعتري أهل الاجتماع على شرب الخمر إذا سكروا بها , فإن السكر بالأصوات المطربة قد تصير من جنس الإسكار بالأشربة المطربة فتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وتمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه واتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية، كما يقتل العائن من أصابه بعينه، ولهذا قال من قال من العلماء: إن هؤلاء يجب عليهم القَوَد أو الدية إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة؛ لأنهم ظالمون وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من موادهم المحرمة كما يغتبط الظلمة المسلطون. ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين والمبتدعين والظالمين , فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة , كما يكون للمشركين وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة) وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة كما يكون لهم ملكة ظاهرة , فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر. ولا يكون من أولياء الله إلا من كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون , وما فعلوه من الإعانة على الظلم , فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب، وباب القدرة والتمكن باطنًا وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى , بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان , وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون عدو الله مستضعفًا، وقد يكون سلطانًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر، هؤلاء في العباد، بمنزلة هؤلاء في الأجناد. وأما الغلبة فإن الله قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة , كما يديل المؤمنين على الكافرين، كما كان يكون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: ٥١) وإذا كان في المسلمين ضعف وكان العدو مستظهرًا عليهم , كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم: إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا. وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرًا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (آل عمران: ١٥٥) وقال تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: ١٦٥) وقد قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: ٤٠-٤١) . (فصل) وأما هذه المشاهد المشهورة فمنها ما هو كذب قطعًا مثل المشهد الذي بظاهر دمشق المضاف إلى أبي بن كعب، والمشهد الذي في ظاهرها المضاف إلى أويس القرني، والمشهد الذي في سفح لبنان المضاف إلى نوح عليه السلام، والمشهد الذي بمصر المضاف إلى الحسين - إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول شرحها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار , حتى قال طائفة من العلماء منهم عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح فيها إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أثبت غيره قبر الخليل عليه السلام أيضًا، وأما مشهد علي فعامة العلماء على أنه ليس قبره , بل قد قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة وذلك أنه إنما ظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت علي في إمارة بني بويه. وذكروا أن أصل ذلك حكاية بلغتهم عن الرشيد أنه أتى إلى ذلك المكان , وجعل يعتذر إلى من فيه مما جرى بينه وبين ذرية علي. وبمثل هذه الحكاية لا يقوم شيء فالرشيد أيضًا لا علم له بذلك , ولعل هذه الحكاية إن صحت عنه فقد قيل له ذلك كما قيل لغيره. وجمهور أهل المعرفة يقولون: إن عليًّا إنما دفن في قصر الإمارة أو قريبَا منه وهذا هو السنة، فإن حمل ميت من الكوفة إلى مكان بعيد ليس فيه فضيلة أمر غير مشروع , فلا يظن بآل علي - رضي الله عنهم - أنهم فعلوا به ذلك , ولا يظن أيضًا أن ذلك خفي على أهل بيته والمسلمين ثلاثمائة سنة حتى أظهره قوم من الأعاجم الجهال ذوي الأهواء، وكذلك قبر معاوية الذي بظاهر دمشق , قد قيل: إنه ليس قبر معاوية، وإن قبره بحائط مسجد دمشق الذي يقال: إنه قبر هود. وأصل ذلك أن عامة هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلف , لا يكاد يوقف منه على علم إلا في قليل منها بعد بحث شديد؛ وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام، ولا ذلك من حكم الذكر الذي تكفل الله بحفظه حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما يفعله المبتدعون عندها مثل قوله الذي رواه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وقال: (لعن اللهُ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . وقد اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي على القبور، ولا يشرع اتخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل التعبد عندها بصلاة واعتكاف أو استغاثة وابتهال ونحو ذلك، وكرهوا الصلاة عندها، ثم كثير منهم قال: الصلاة باطلة؛ لأجل النهي عنها. وإنما السنة إذا زار قبر مسلم ميت إما نبي أو رجل صالح أو غيرهما أن يسلم عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته , كما جمع الله بين هذين حيث يقول في المنافقين: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: ٨٤) فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم، وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت من أصحابه يقوم على قبره ثم يقول: (سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) . وفي الصحيح أنه كان يعلّم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) . وإنما دين الله تعالى تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له , وهي المساجد التي تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة , والاعتكاف وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة، والذكر، والدعاء لله، قال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: ١٨) وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الأعراف: ٢٩) وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: ٣١) وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} (التوبة: ١٨) وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْما تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: ٣٦-٣٨) فهذا دين المسلمين الذين يعبدون الله مخلصين له الدين. وأما اتخاذ القبور أوثانًا فهو من دين المشركين، الذي نهى عنه سيد المرسلين. والله تعالى يصلح حال جميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما هو أهله. (تمت الرسالة) (طبعت عن نسخة كتبت في بغداد بقلم محمد صالح المصطفى الوتار) فيها شيء من الغلط والتحريف عفا الله عنا وعنه.