للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجمع بين مسألة الذكران والإناث في المدارس
ومسألة التجديد والتجدد
(مجمل محاضرة ألقيناها في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة)

إن مسألة جمع البنات مع البنين في مقاعد التعليم الثانوي والعالي من أعظم
الأغراض التي يرمي إليها دعاة الثورة الدينية المدنية باسم التجديد المراد به هدم
القديم من مقومات الأمة من دين وتشريع وأدب وسياسة، ومشخصاتها من العادات
والأزياء وغير ذلك، والتجديد سنة من سنن الاجتماع، كما أن التجديد من مقتضى
الفِطر والطباع، ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم، ولكل منهما موضع فلا
تناقض بينهما ولا تضاد إذا وضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط.
من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلق والديه وأخلاقهما بعض
المخالفة، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر، ومن حفظ
الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتهما الجسدية والنفسية،
ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعا مستقلاًّ
بنفسه.
ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد من
محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة، ثم
تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا، أو أعلى مكانة وقدرًا، ولولا هذا لما
تكونت البيوت والفصائل والشعوب والقبائل، بما يربط بعضها ببعض من
المشاركات في الأعمال، التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات، فتكوِّن
رابطة الوحدة، التي تجتمع بها وشائج الكثرة، فتكون بها الفصائل قبيلة والبيوت
أمة.
ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تهدي إليه غريزة الاستقلال - المقابلة
لغريزة التقليد - من الميل إلى الاستنباط والاختراع، ولولاه لكانت جماعات البشر
كأسراب الطير، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل.
التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج
الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها، به يرتقون في مدارج
العمران، ويصعدون في معارج العلم والعرفان، حتى إن الدين الإلهي الذي يستند
إلى وحي الرب الحكيم - بمحض فضله - لبعض من أعدّ أرواحهم القدسية لذلك من
أصفياء خلقه، قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور
حتى أكمله تعالى لهم بالإسلام عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال.
ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه
عليه وعليهم أجمعين، أنه قال: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة
سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والبيهقي في
المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة، وأشار السيوطي في جامعه الصغير إلى
صحته، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وحقيته، ونفي ما يعرض
لأهله من البدع أو الغلو فيه أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح الخلق وسنن
الاجتماع والعمران في شريعته، وبهذا المعنى أُعد نفسي داعية تجديد ديني مدني،
وعدوًّا مجاهدًا للجمود على التقليد، والإصرار على ما ثبت بطلانه أو ضرره من
القديم، فلا يحسبن أحد من شبابنا أنني أحكم في موضوعنا بتأثير الجمود على كل قديم.
أول شاهد لي على هذا مقدمة العدد الأول من صحيفتي المنار التي كتبتها في
مثل هذا الشهر [*] (شوال) أي سنة ١٣١٥ منذ ثلاث وثلاثين سنة، فقد أشرت
في أولها إلى الجديد والتجديد المدني بهذه الكلمة:
(أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك حسبك،
فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماء أو موتًا زؤامًا.
تنبَّه من رقادك، وامسح النوم من عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد
بُدلت الأرض غير الأرض، ودخل بها الإنسان في طور آخر خضع له به العالم
الكبير) .
ثم أشرت فيها إلى جملة المخترعات الصناعية، وما تجدد في العلوم الطبيعية،
وانتقلتُ من ذلك إلى بيان أغراضي من إنشاء الصحيفة، مبتدئًا بقولي (وغرضها
الأول الحث على تربية البنات والبنين) هكذا بتقديم ذكر البنات على البنين، فأنا
داعية إلى تجديد من أهم قواعده ترقية مدارك النساء بالتربية والتعليم. وفي المنار
مقالات كثيرة وفتاوى في ذلك من أشهرها مقالات (الحياة الزوجية) التي أودع
بعضها الأستاذ الاجتماعي الاقتصادي محمد طلعت بك حرب الشهير كتابه (تربية
المرأة) .
فأنتم ترون أنني كنت منذ ثلث قرن داعية تجديد، وذلك قبل شيوع هذا اللفظ
في هذه السنين، وقد تفضل علي بلقب (المجدد) بعض الكتاب والمحبين، قبل أن
ينتحله ويريد احتكاره بعض المعاصرين؛ ولكني أسير في كل من التجديد
والمحافظة على سنن الطبيعة التي أشرت إليها آنفًا، فأقول في الدين بقاعدة الإمام
مالك رحمه الله تعالى، وهي الوقوف في العقائد والعبادات عند نصوص القرآن
وبيان السنة النبوية له وسيرة السلف الصالح فيه قبل حدوث الآراء والبدع،
ومراعاة مصالح العامة في الأحكام الدنيوية من مدنية وسياسية وغيرها.
وأما ما فوَّضه الشارع إلى الناس من أمور دنياهم، ووكله إلى علمهم
وتجاربهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقوله صلوات
الله وسلامه عليه: (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به،
وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواهما مسلم في صحيحه، أما هذا فأنا
أدعو فيه إلى أحدث ما انتهت إليه علوم البشر وفنونها، وإلى ما لا يُعرف له حد
من الزيادة عليها بقصد إعزاز الأمة وإعلاء شأن الملة بها، ولا بد فيه من المحافظة
على مقومات الأمة ومشخصاتها التي كانت بها أمة في وسائلها ومقاصدها.
أومأت إلى هذا التجديد في مصالح الدنيا وهداية الدين، ومقاومة التقليد الديني
للكتب والمؤلفين، بقولي في تلك الفاتحة بعد الحث على تربية البنات والبنين:
(وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في
الأعمال النافعة وطروق أبواب الاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة،
والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبّستْ
الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر
توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفرًا
وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات
صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة والمهانة تواضعًا،
والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضا وتسليمًا، والتقليد الأعمى لكل متقدم علمًا
وإيقانًا) .
وعلى هذا الأساس المتين أبني رأيي في موضوع تعليم البنات والبنين، فأقول:
تقليدنا للإفرنج وما يجب نظره فيه:
إنني أرى أن ما يقال في فائدة الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد التعليم
في جميع درجاته، أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وأنه ناشئ عن تقليد للإفرنج،
لا عن خبرة تامة واستقلال في الرأي، ولا موازنة بينه وبين ما يعارضه في الضر
والنفع، ولا نظر دقيق في الفروق بيننا وبين أولئك القوم، وإنني خصم للتقليد
الديني والدنيوي معًا، وقد كان من أول نظمي للشعر في عهد طلب العلم في
طرابلس الشام قصيدة هذا مطلعها:
ليس التمدن تقليد الأوربي ... فيما انتحاه من العادات والزّي
إن المقلد لا ينفك مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي
بل التمدن ملزوم التقدم مد ... عاة الرفاهة منفاة الألاقي [١]
روح شريف به تحيا الشعوب بما ... يبث فيها من العلم الحقيقي
وحتى ترى كثرة الآحاد راجعة ... لوحدة والفرادى كالأثابي [٢]
والاختلاف بآراء الرجال لأجـ ... ـل الاتفاق على نيل الأماني
نعم إن الباعث الأول على التقليد هو احتقار المقلد لنفسه، وتعظيمه لشأن من
يقلده، سواء أكان المقلد فردًا وجماعة كبيرة أو صغيرة وهي الأمة، فمن وطَّن
نفسه أو أمته على التقليد فقد حكم عليها بالذل، وأن تكون تابعة لا متبوعة،
مستعبدة لا مستقلة، قاصرة لا رشيدة، وقد عقد حكيمنا العربي الاجتماعي ابن
خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً خاصًّا في بيان (أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء
بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده) .
فيجب علينا أن نتقي هذا الخطر في حكمنا الاستقلالي على ما نُدعى إليه من
اتباع غيرنا - مما أشار إليه حكيمنا - وأن نكون على حذر في كل تغيير في مقومات
أمتنا ومشخصاتها، وأن نعتبر في ذلك بسير الأمم العزيزة في كل انقلاب حدث فيها،
ونوازن بين نفعه وضره، وما ينطبق وما لا ينطبق علينا منه، ولا يجب مثل هذا
فيما نحتاج إليه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية والعسكرية ونحوها لأن
الحاجة إليها في جميع الأمم واحدة مهما تكن أديانها وآدابها ولغاتها وتقاليدها.
وأول مَثَل يجب أن نعتبر به الأمة الإنكليزية التي هي أعز أمم الإفرنج
وأعظمها حضارة وسلطانًا، فإننا نراها أشد الأمم اعتصامًا بكل ما يتعلق بروابطها
الملية والقومية، من دينية ودنيوية، ومن أهم ذلك مسألة التغيير في كتاب الصلاة
التي كثر الخوض فيها أخيرًا، ورفض البرلمان قبول اقتراح التغيير فيه مع العلم
بأنه من وضع الكنيسة وتقاليدها، وكون تنقيحه بما يحتج به المقترحون من
المصلحة الدينية العامة لا يتضمن تغيير شيء من كتب العهدين القديم والجديد التي
هي عندهم ينابيع الدين.
ودون هذا ما يصر عليه الإنكليز من مقاييسهم وموازينهم لأنه إنكليزي، وعدم
قبولهم ما يخالفه من المقاييس والموازين العشرية على أفضليتها وتسهيلها لوسائل
التعامل العام بين البشر؛ لأنها من صنع اللاتين، لا من صنع الإنكليز.
ولنلق نظرة عجلى على تعليم النساء عندهم نجدهم إلى منتصف القرن التاسع
عشر قلما كانوا يَعْدُون في تعليم البنات الابتدائي شغل الإبرة والرقص والعزف
بالبيانو، ثم زادوا في مناهج تعليمهن الدين والأخلاق وتدبير المنزل، وفي ذلك
العهد أُسست في إنكلترة مدارس البنات الابتدائية، وفي العشر الأواخر منه بُدئ
بتأسيس مدرستين كليتين لهن وتلاهما غيرهما، ونجد أن مدرستي كمبردج
وأكسفورد الجامعتين كانتا تمتنعان عن إعطاء البنات الدرجة العلمية التي يستحققنها
بالامتحان، إلا أن الثانية رجعت عن هذا الحرمان لهن في سنة ١٩٢٠ أي بعد أن
عظم سلطان النساء في أوربة كلها بما أبلين في عهد الحرب الكبرى، وبقيت الثانية
مصرة عليه إلى العام الماضي على ما رأيت في بعض المجلات العلمية، ولا أذكر
أنني رأيت نصًّا في رجوعها عنه.
ومما يجب أن ينظر فيه في مسألتنا نظرة تدقيق واعتبار ما بين نسائنا ونساء
الإفرنج من الاختلاف في العلم والعمل والتقاليد، ومع أهمية مشاركة النساء للرجال
عندهم في الكسب، وهو يسوغ من مشاركتهن لهم في التربية والتعليم ما لا يسوغه
حال نسائنا.
حجة القائلين باختلاط الجنسين:
إن الذي أعلمه أن أقوى حجج القائلين باختلاط الجنسين في جميع مراحل
التعليم وزعمهم أنه خير وسيلة للتربية الصحيحة، أن كلاًّ منهما يختبر الآخر حق
الاختبار، فيقف على أخلاقه وآدابه وآرائه ومقاصده من الحياة، فيكون من فوائد
ذلك أن تبنى البيوت (العائلات) التي تتكون منها الأمة على أساس ثابت صحيح
لا تقوضه أهواء جهل كل منهما بما ذكر، وما ينجم عن هذا الجهل من خلاف
وشقاق.
والذي أراه أن هذه نظرية خيالية، تنقضها الخبرة والتجارب العملية، ولو
ثبتت من بعض الوجوه لكان ما يعارضها من غوائل الاختلاط في أمتنا أحق وأولى
بالترجيح عليها، وهو ما سأشير إليه بالاختصار بعد نقضها.
أقول في هذا النقض (أولاً) إن كلاًّ من الفريقين الشقيقين يعرف في بلادنا ما
عليه الفريق الآخر في جملته من الأخلاق والآداب والعادات والتقاليد العامة
وأغراض الحياة ومنازعها بما يسمعه كل منهما ويراه ويبلوه من معاشرة الأقريين
والجيران وغيرهم، وأما معرفة كل فرد منهما لكل فرد من الآخر فلا سبيل إليه
بالاختلاط في المدارس، ولا فيما سيكون عاقبة له من الاجتماع في المحافل
والمجامع.
(ثانيًا) كانت هذه النظرية مسلَّمة عند جماهير المتفرنجين، وكثير من
غيرهم فيمن يريدان التزاوج، وقد بيَّنا بُطلانها في مقالات (الحياة الزوجية) بما
يؤيده ما فشا في هذه السنين من قلة الزواج وكثرة الطلاق في العالم الإفرنجي القديم
والجديد، وفي الشعوب المقلدة له وفي مقدمتها شعبنا المصري، وإنني في غنى عن
إيراد الشواهد وسرد الإحصاءات المخيفة في هذا بما تنشره الصحف منها في هذه
الأيام نقلاً عن صحف أوربة والولايات المتحدة الأمريكانية [**] .
(ثالثًا) إن من المعلوم بالاختبار أن كلاًّ من الجنسين يتجمل ويرائي الآخر
في معاشرته له منذ يشعران بالميل الغريزي الذي جعله الخالق الحكيم داعية التناسل
فيهما، فيخفي كل منهما عن الآخر ما يعهد أو يظن أنه يكرهه أو يستنكره،
ويتوخى إظهار ما يرجو أن يحبه ويؤثره، ولا سيما إذا كانا يميلان إلى الاقتران،
وقد شرحت هذا في مقالات الحياة الزوجية.
وإننا نرى علماء الإفرنج الأحرار يصرحون بأنه قلما يوجد عندهم زوجان
يعيشان كل عمرهما أو جله متحابين متوادين كما يصوره كُتّاب القصص الخيالية
التمثيلية وغيرها، ومنهم من قال إن الاتفاق الودي بين الزوجين لا يكاد يزيد عن
ثلاث سنين، ومنهم من مدَّ في أجله إلى خمس سنين، ولعل كثيرًا من السامعين
لهذه المحاضرة قد وقفوا على ما كتبه ذلك الحكيم الألماني الذي صور فقد السعادة
الزوجية من بيوت عاصمتهم بطرق أبواب كل بيت منها قائلاً لأهله: إنني سمعت
أن السعادة هبطت على الأرض ودخلت بيتكم، فأرجو أن تأذنوا لي بالدخول
لزيارتها، وبأن جواب أهل كل بيت منهم كان واحدًا: أن السعادة لم تدخل بيتنا، ولم
نرها. وقد نشرت جريدة السياسة من عهد غير بعيد أقوالاً لبعض الرجال والنساء من
الإنكليز في الحياة الزوجية تؤيد هذا.
والذي نعلمه عن الحياة الزوجية في الشعب الألماني أنها خير منها في غيره
من شعوب أوربة، كما حدثنا بذلك صديقنا المرحوم الدكتور الشيخ حامد والي الذي
تزوج ألمانية رُزق منها بعدة أولاد، وكان مغتبطًا بها كما كانت مغتبطة به.
ويظهر لي أن فضلاء الإفرنج، ولا سيما القائمين بحقوق الزوجية بما يرضاه
كل من الزوجين من الآخر إنما يعملون بحكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، وإن لم يقفوا عليها، ذلك أن امرأة كانت تختصم إليه مع زوجها
فغلبها الغضب على الجهر بأنها لا تحبه، فقال عمر: إذا كانت إحداكن لا تحب
الرجل منا فلا تخبره بذلك؛ فإن أقل البيوت ما بني على المحبة؛ وإنما يتعاشر
الناس بالحسب والإسلام، والمراد بالحسب الشرف، ولا سيما إذا كان موروثًا،
والمعنى أن شرف الزوجية والأسرة يدعو كلاًّ من الزوجين لحفظ كرامة الآخر
وشرفه، وأن العمل بما تدعو إليه أحكام الإسلام كافٍ لهناء المعيشة من فرضه
المعاشرة بالمعروف والمساواة في الحقوق بين الزوجين، إلا رياسة الأسرة الخاصة
بالرجل، وإحصان كل منهما للآخر الذي يمنع بطبعه تطلعه إلى غيره، وكذا
توزيع الأعمال بينهما بجعل الخارجية للرجل والداخلية للمراة.
وأما غير الفضلاء منهم فلا يطيق الزوجان منهم الصبر على الحياة إلا
بإطلاق كل منهما الحرية للآخر حتى في اتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان،
وقد سَرَتْ عدواهم في بلادنا إلى بعض المتفرنجين، المجردين من هداية الدين.
بعد هذه الإشارة إلى تفنيد نظرية التماس السعادة الزوجية بالاختلاط بين
الجنسين في المدارس أشير إلى غوائله الشخصية والملية فأقول:
غوائل الاختلاط بين الجنسين:
(الغائلة الأولى) من المعلوم أن الشعور بالميل الفطري في كل من الجنسين
إلى الآخر يبتدئ في سن المراهقة، ويقوى بعد البلوغ، والقرب يذكي ناره،
والمعاشرة تضرم أواره، فإذا جُمع بينهما في مقاعد التعليم كان لكل منهما من شغل
القلب ومسارقة النظر، ومساوقة الحديث الشاغل للفكر - ما يكون صارفًا له عن
تربية قوة الذهن كلها إلى العلم.
ولعل هذا هو السبب في إباحة اليابانيين للجمع بينهما في التعليم الابتدائي،
والمنع منه في التعليم الثانوي، على أنه ليس عندهم من صيانة الحجاب ولا من
شدة المحافظة على الأعراض ما عندنا بوازع الدين والوراثة والوجدان، فنحن
أولى في جميع الأطوار والأحوال.
(الغائلة الثانية) أن قرب السَّواد من السواد، يدعو إلى المناجاة وطول
السِّواد، ويثير فيهما ذكرى الوساد [٣] فيفضي إما إلى التبكير بالزواج إن تيسر،
وفيه من الصد عن العلم ما فيه، دع ما يذكره الأطباء وغيرهم من المضار الأخرى
له، وإما إلى مفاسد أخرى من دينية وصحية واقتصادية واجتماعية، بدأ الباحثون
يشكون بوادرها، ونعوذ بالله مما يتوقع من عواقبها.
وإنا لنعلم أن من دعاة ثورة التجديد والإباحة المعنية من التحرير، من لا
يبالون هذه العواقب، وإن منهم من يكابر الحس، ويماري في غرائز النفس،
فيدعي أن اختلاط الجنسين أقوى وسائل العفة والصيانة، يكسب كل منهما حصانة أي
حصانة، يعنون أنه كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية والتسمم بميكروبها،
يكسب صاحبه مناعة تقيه من العدوى بوبائها، وهذا قياس مع الفارق فإن ما نحن
فيه هو أشبه بالتعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، منه بالتلقيح ببعض ميكروبه
مع البعد عنه.
ولو شئنا لسردنا ما علمناه من الشواهد التي نقرءها في الجرائد، أو نسمعها
من كل مختبر أو مشاهد، على ما مُنِيَتْ به بلادنا من شرور الإباحة، وضروب
التهتك والوقاحة، وما أراني إلا من أقل السامعين لمحاضرتي علمًا بها.
وإنني أُذَكِّر من تنفعه الذكرى بأن تأثير هذا الاختلاط في مثل أمتنا أدهى وأمر
من مثله في أوربة بقدر ما بيننا وبين أهلها من التفاوت في العقائد والتقاليد والعادات،
وناهيكم بسرعة الانتقال من طور إلى طور، وما تقتضيه من غلو وإسراف، وقد
ثبت أن الذين ابتلوا بمصيبة السكر من المسلمين في الكبر، كانوا أشد إسرافًا فيه
ممن اعتادوه وكانوا يستحلونه من أول النشأة، وهذا يرجع إلى السنة المعروفة في
الطبيعة والاجتماع بناموس رد الفعل.
ومنه ما حدثني به عالم اجتماعي مؤرخ في سورية قال: إننا نحن النصارى
لما هتكنا ما كنا نجاري فيه إخواننا المسلمين من حجاب النساء لم يبق في مدينتنا
امرأة منا إلا ولها خدن أو أخدان، وقد هبط هذا الإسراف الآن، قال هذا منذ
عشرات من الأعوام، ولا بد أن يكون الإسراف قد عم وطم بما تجدد من حرية
الإباحة بعد الاحتلال الأجنبي.
(الغائلة الثالثة) أن الجمع بين الجنسين في مقاعد التعليم في جميع مراحله
وأسنانه، هو مبدأ ما ظهرت بوادره من إباحة الاختلاط بجميع صوره وأشكاله،
من رقص وسباحة وسفر مع الأجانب ومخادنة لهم وتزوج بهم، وفي ذلك من
المفاسد والمضار الأدبية والاجتماعية والصحية والمالية ما لا يمكن بيانه إلا في
محاضرة مستقلة أو رسالة طويلة.
(الغائلة الرابعة) أنه هدم لكثير من أحكام الدين وآدابه، وقطع لأقوى
الروابط المعنوية في الأمة، فهو جناية على الأفراد وعلى البيوت وعلى الأمة
بجملتها، ولا سيما أمة كالأمة الإسلامية استولى على نظام التربية والتعليم فيها
أناس من خصومها في دينها وفي سياستها، فلم يبق لها من القوى الروحية والأدبية
ما يقاوم فتك هذه المفاسد فيها، ولم يوجد فيها من السروات والزعماء ولا من رجال
الدين من يتلافى شيئًا من شر منع السيطرة الأجنبية على المدارس الأميرية والأهلية،
دع شرور المدارس التبشيرية، وإنما كان الباقي لها من صيانة الدين بعض تقاليده
الموروثة، وكانت كافية لحكم المختبرين بأن المسلمين أطهر أهل الملل أعراضًا،
وأصحهم أنسابًا.
ودعاة التجديد الإباحي يريدون التذفيف على هذه الجروح العميقة التي أحدثتها
هذه المدارس التي صَرَّح لورد سالسبوري بأنها الخطوة الأولى لاستعمار البلاد التي
تنشر فيها؛ لأن أول تأثيرها أنها تُحْدِث الانقسام والتفريق بين الأمة؛ فتجعل
بعضها لبعض عدوًّا، فهؤلاء الدعاة أعداء لأمتهم ووطنهم، أعوان لأعدائها، فإذا
لم تقو على القضاء عليهم قضوا عليها.
هذا ما كان كُتب في المسألة، وقد وضَّحنا بعضه باللسان، وقد قام بعدنا
الأستاذ الدردير فأثنى على المحاضرة وملقيها، وقال إنه موافق له على كل ما قاله
فيها؛ ولكن بقيت مشكلة زواج الرجل بمن لا يعرفها ‍! وقد أجبته عن ذلك بما
أقنعه وأقنع غيره بعد بحث ومراجعة، ثم سألني بعض الشبان مسائل كثيرة في
الموضوع وما حوله، وكان من سرورهم واقتناعهم ما حمل جماعة منهم على
المشي معي إلى الدار لإطالة المذاكرة.