(٤) الجمعيات يرى كثير من العقلاء أن العلة الأولى لارتقاء الأمم هي القوة، وبها سعد الإفرنج في بلادهم، وبها سادوا على معظم أمم المشرق، فالقوة أساس مدنيتهم، والسلاح مصدر عزتهم وعظمتهم، وإلا فهم لا يمتازون على غيرهم بالقوى العقلية ولا بشيء من المواهب الغريزية. وهذه اليابان قد اقتفت آثارهم في العناية بالجندية وتشييد الأساطيل الحربية، فقهرت أكبر دولة من دولهم، حتى صارت الدول العزيزة منهم تعتز بمحالفتها، وتخطب مودتها؛ لمكان قوتها بعد أن كانوا يرونها أنقص منهم في الخلقة، وأقل في استعداد الفطرة، فعلى سائر الممالك الشرقية أن تتلو في ذلك تلوها، وتقفو في أمر القوة أثرها، ويعارض أصحاب هذا الرأي العالم الاجتماعي؛ مبينًا أن القوة في هذا الزمان تتوقف على أسباب كثيرة، مرتب بعضها على بعض فلابد من الأخذ بمبادئها؛ لأجل الوصول إلى غاياتها. فما هو السبب الأول الذي يجب الابتداء به لترقية الأمة ورفعة شأنها؟ يقول المشتغلون بالسياسة: إن سبب ارتقاء أوربا وعزتها، وسيادتها هو انتظام حكوماتها، وتقيدها بالشورى التي هي ناموس العدل، وينبوع السعادة، فكل أمة تحب الارتقاء يجب أن توجه عنايتها قبل كل شيء إلى إصلاح حال حكومتها، بجعلها مقيدة بالشورى والقوانين العادلة. ويقول لهم العالم الاجتماعي: وما هو السبب المؤدي إلى إصلاح الأمة لحكومتها؟ وهل يتسنى لأمة غير مرتقية أن تفعل ذلك؟ فكيف يجعل إصلاح الحكومة علة لكل ارتقاء، وهو معلول لنوع من ارتقاء الأمة لابد أن يتقدمه، فما هو هذا النوع الذي هو السبب الأول للارتقاء أو علة العلل له؟ يقول علماء التربية: إن العلة الأولى لارتقاء الأمم هي التربية والتعليم، فكلما انتشرت المدارس، ينتشر فيها وبها ومنها شعاع الارتقاء، وكلما كان التعليم أعم وأكمل، كان الارتقاء أتم وأشمل، ألم يهدِ إليك أن بسمرك قال عن قومه الألمانيين: إنهم انتصروا في فرنسا بالمدرسة؟ والأقوال في إثبات هذا الرأي لا تحصى، وكم كتبنا، وكتب الكاتبون في بيانه وإظهار برهانه، ولنا في ذلك مقال مطول بأسلوب المحاورة نشرناه في العدد الثاني من سنة المنار الأولى، بيَّنا فيه أن سبب جميع أنواع الترقي الصورية والمعنوية، إنما هو التربية والتعليم، وفي هذا المقال قال أحد أصحاب الصحف: ماذا أبقى صاحب المنار لسائر الأعداد التي تصدر في المستقبل بعدما جمع في هذا العدد كل شيء، بل قد أعجب الأستاذ الإمام بذلك المقال، وأجاز كل ما ورد فيه. ولكن العالم الاجتماعي يقول لنا مع ذلك: إن الأمة لا تتوجه إلى العناية بالتربية النافعة، والتعليم الرافع لها من أفق إلى أفق أعلى منه، إلا بعد نوع من الارتقاء يتقدم ذلك، فيهدي الأمة إليه، ويقدرها عليه، فما هو هذا النوع الذي نسميه السبب الأول وعلة العلل؟ ويقول علماء الاقتصاد وأرباب الأموال: إن الثروة مبدأ كل ارتقاء ومصدر كل إصلاح، فلا مدارس، ولا تعليم، ولا تربية، ولا تنظيم إلا والمال أساسه الذي عليه يبنى، وقواعده التي عليه يرفع، فعلى الأمة الشرقية التي تطلب رفعة الشان والعزة والسلطان، أن تبدأ بجمع الثروة التي تمكنها من نشر التربية والتعليم في الأمة، ومن تنظيم الحكومة وتعزيز الدولة. ويرد عليهم العالم الاجتماعي: إننا لا ننكر أن المال هو الوسيلة لجميع الأعمال. ولكن جمع المال يتوقف على العدل والعلم، لا سيما في البلاد التي دخلها الإفرنج العالمون من طرق الكسب ما لا يعلم الشرقيون. وقد أخذ بهذا السبب اليهود فكانوا فيه أبرع البشر، وهم يحاولون منذ قرون أن يؤسسوا به ملكًا، ولما يساعدهم القدر. فعلينا أن نبحث عن السبب الأول للارتقاء فنطلب الأمر في إبانه، ونأخذه بربانه فإنه: من طلب الغاية في المبدأ لا ... يؤوب إلا بالقنوط والشقا ومن يسر سيرًا طبيعيًّا لها ... يدرك بالتوفيق منها المنتهى يرى العالم الاجتماعي: أنَّ العلة الأولى لارتقاء الأمم هي الجمعيات، فلا ترتقي أمة إلا بعد أن تنبه حوادث الزمان أفرادًا من أولي الألباب فيها إلى وجوب السعي لترقيتها ورفعة شأنها، وأول ما يجب عليهم هو تأليف (الجمعيات) ؛ للتعاون على ما يجب القيام به من الأعمال. فالجمعيات هي السبب الأول والعلة الأولى لكل ارتقاء، بها صلحت العقائد والأخلاق في أوربا وبها صلحت الحكومات وبها ارتقت علومها وفنونها، وبها عزت وعظمت قوتها، وبها فاضت ينابيع ثروتها، وبها انتشر دينها في الخافقين، وبها سادت على المشرقين والمغربين. أليست الجمعيات السياسية السرية هي التي طهرت أوربا من استبداد الملوك والبابوات، وأزالت منها حكومات الأشراف، واستبدلت بها حكومات الجمهورية، والملكية المقيدة بالقوانين، وسيطرة أهل الشورى من الأمة؟ أليست الجمعيات الدينية والخيرية هي التي أنشأت المدارس؛ لتعميم التربية والتعليم، وأنشأت الملاجئ والمستشفيات؛ للمرضى والبائسين؟ أليست الجمعيات العلمية والفنية هي التي هذبت اللغات، ووسعت دائرة العلوم والفنون، بما خصصت لكل فرع من فروعها رجالاً يصبرون نفوسهم على التحرير والتمحيص لمسائله وتأييدها بالتجارب وترقيتها بالاكتشافات والاختراعات؟ أليست الجمعيات المالية المعبر عنها بالشركات هي التي أنشأت المعامل لجميع الصناعات، ومدت سكك الحديد في جميع الجهات، وسيرت في البحار تلك الجواري المنشآت، وابتدعت البيوت المالية (البنوك) ؛ لتيسير المعاملات؟ بلى، إنه ما من عمل ارتقى إلا وكانت الجمعيات هي رقَّته، إن لم تكن هي التي أوجدته واخترعته، فالجمعيات هي تظهر منتهى استعداد الإنسان للارتقاء، بل هي التي تحقق معنى الإنسانية في هذا النوع، إذ لا معنى للإنسانية إلا حياة الاجتماع والتعاون، فمهما قل الاجتماع في أمة ضعف معنى الإنسانية فيها، ومهما كثر الاجتماع واعتز كانت الإنسانية أقوى وأكمل. سبق الشرق الغرب إلى كل نوع من أنواع الارتقاء المدني. ولكن المدنية لم تكمل في الشرق، ولم تبن على قواعد يؤمن سقوطها، ولذلك سقطت، وما ذاك إلا أن قيامها كان بعمل الأفراد لا الجمعيات، فلولا هذه الجمعيات، لما كانت مدنية الغرب الحديثة أرقى وأكمل وأجدر بأن تكون أثبت وأدوم. وجدت الجمعيات السرية والجهرية في الشرق. ولكن انقصمت عراها، قبل أن بلغت مداها، وجاء الإسلام بالتعاليم الاجتماعية، فجعل أمر المؤمنين شورى بينهم أي: تقوم به الجماعة، لا يستقل به الأفراد، وأمر بتأليف الجمعيات للأعمال النافعة بمثل قول الله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: ١٠٤) ، وبمثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يد الله على الجماعة) ومع هذا لم يكن حظ المسلمين من الجمعيات أحسن من حظ سائر أهل المشرق، بل كان من سوء حظهم أن استحالت الجمعيات السياسية، كجمعية الشيعة التي ألفت؛ لجعل الحكم في أهل البيت عليهم السلام، وجمعية الخوارج المعروفة إلى مذاهب دينية، زادت المسلمين تفريقًا وخذلانًا. وفسدت جمعية الصوفية الإصلاحية بعد أن ربت كثيرًا من المصلحين، وصارت جمعية الباطنية التي أسست لإفساد الدين الإسلامي جمعيات ومذاهب متعددة، لم يأت منها إلا الشر والوبال على الشرق فترى أن جمعيات المسلمين السياسية ما أفسدها إلا اصطباغها بصبغة الدين، بجعل تعليمها مذهبًا يدعى إليه باسم التقرب إلى الله، وستر موضوعها، وإخفاء مقصدها في ذلك وقد قصَّروا في تأليف الجمعيات الخيرية، والعلمية الفنية، والشركات المالية، ولولا ذلك لما ماتت مدنيتهم قبل بلوغها سن الرشد. والآن نرى الشرق، قد أنشأ يتعلم من الغرب كيفية تأليف الجمعيات والشركات، فنجح أهل يابان في ذلك ورشدوا، ولا يزال العثمانيون والمصريون في سن الطفولية من هذه الحياة الاشتراكية الاجتماعية، التي لا وسيلة لبلوغ هذا النوع رشده بدونهما. أسسنا غير مرة جمعيات علمية وأدبية وخيرية وسياسية، فكانت تسقط الجمعية منها بعد الخطوة والخطوتين والخطوات القليلة، وقد نجحت في مصر الجمعية الخيرية الإسلامية نجاحًا يوثق بدوامه واستمراره، وهي أفضل ما عمل المسلمون بمصر في هذا الطور الجديد من الحياة، وتليها جمعية العروة الوثقى، وجمعية المساعي المشكورة الخاصتين بالتعليم. وأسسنا شركات مالية كثيرة للعمل في الزراعة والتجارة، حبط عملنا في بعضها، وثبت بعضها، والرجاء في المستقبل عظيم. ارجع البصر إلى البلاد التي لم تأخذ عن الأوربيين شيئًا من العلم، ولم تشترك معهم في شيء من الأعمال، كبلاد مراكش، هل ترى فيها جمعية خيرية أو دينية أو علمية أو سياسية، أو تشاهد فيها شركة تجارية أو زراعية أو صناعية؟ تأمل واعرف الخير وينابيعه، وكيف تستزيد منه. واعلم أن الجمعيات والشركات هي المعيار الذي يعرف به تقدم الأمم وتأخرها، وحياتها وموتها، فلا يغرنك القيل والقال، ولا نبوغ بعض الأفراد في بعض العلوم أو الأعمال، فإن هؤلاء النابغين إذا لم يجدوا في أمتهم جمعيات تعرف قيمتهم، وتسعدهم على إبراز ثمرات نبوغهم يذهب استعدادهم سدى، ويجزر مدّه قبل أن يبلغ المدى، وإذا وجدوا ذلك زكا استعدادهم، وامتد إمدادهم، وكانوا كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، كما أنهم يؤتون أجرهم مرتين.