{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠١) . {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: ١٠١) . العلماء المستقلون في هذه الأمة ثُلة من الأولين، وقليل من الآخرين، والإمام الشاطبي من هؤلاء القليل، وما رأينا من آثاره إلا القليل، رأينا كتاب (الموافقات) من قبل، ورأينا كتاب (الاعتصام) اليوم، فأنشدنا قول الشاعر: قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل ادخل دار الكتب الخديوية وارم ببصرك إلى الألوف من المصنفات في خزائنها، تر أن كثرتها قلة، وكثيرها قليل؛ لأن القليل منها هو الذي تجد فيه علمًا صحيحًا لا تجده في غيره؛ لأنه مما فتح الله به على صاحبه دون غيره. وقد كان كتاب (الاعتصام) من هذا القليل، فأحسنت نظارة المعارف إلى الأمة الإسلامية كلها بإجابة مجلس إدارة دار الكتب الخديوية إلى طبعه. اتفق علماء الاجتماع والسياسة والمؤرخون من الأمم المختلفة على أن العرب ما نهضوا نهضتهم الأخيرة بالمدنية والعمران إلا بتأثير الإسلام في جمع كلمتهم، وإصلاح شؤونهم النفسية والعلمية، ولكن اضطرب كثير من الناس في سبب ضعف المسلمين بعد قوتهم، وذهاب ملكهم وحضارتهم، فنسب بعضهم كل ذلك إلى دينهم، ومَن يتكلم في ذلك على بصيرة يثبت أن الدين الذي كان سبب الصلاح والإصلاح، لا يمكن أن يكون سبب الفساد والاختلال؛ لأن العلة الواحدة لا يصدر عنها معلولات متناقضة، فإذا كان لدين المسلمين تأثير في سوء حال خلفهم، فلا بد أن يكون ذلك من جهة غير الجهة التي صلحت بها حال سلفهم، وما هي إلا البدع والمحدثات التي فرقت جماعتهم، وزحزحتهم عن الصراط المستقيم. من أجل ذلك كان تحرير مسائل البدع والابتداع مما ينفع المسلمين في أمر دينهم وأمر دنياهم، ويكون أعظم عون لدعاة الإصلاح الإسلامي على سعيهم. وقد كتب كثير من العلماء في البدع، وكان أكثر ما كتبوا في الترهيب والتنفير. والرد على المبتدعين. ولكن الفرق التي يرد بعضها على بعض، يدعي كل منها أنه هو المحق، وأن غيره هو الضال والمبتدع، إما بالإحداث في الدين، وإما بجهل مقاصده، والجمود على ظواهره، وما أرينا أحدًا منهم هدي إلى ما هدي إليه (أبو إسحاق الشاطبي) من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع، وتقسيمه إلى أبواب يدخل في كل واحد منها فصول كثيرة. لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب الموافقات - الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضًا - من أعظم المجددين في الإسلام. فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون، كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله، ولم تنتفع الأمة - كما كان يجب - بعلمه. كتاب الموافقات لا ند له في بابه (أصول الفقه وحِكَم الشريعة وأسرارها) وكتاب الاعتصام لا ند له في بابه، فهو ممتع مشبع، ولم يتمه المصنف رحمه الله تعالى. وقد صدَّره بمقدمة في غربة الإسلام وحديث (بدأ الإسلام غريبًا) المنبئ بذلك. ثم جعل مباحث ما كتبه في عشرة أبواب. (الباب الأول) : في تعريف البدع ومعناها (الثاني) في ذم البدع وسوء منقلب أهلها (الثالث) في أن ذم البدع والمحدثات عام، وفيه الكلام على شبه المبتدعة، ومن جعل البدع حسنة وسيئة (الرابع) في مأخذ أهل البدع في الاستدلال (الخامس) في البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما (السادس) في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة (السابع) في الابتداع: يختص بالعبادات، أم تدخل فيها العادات؟ (الثامن) في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان، (التاسع) في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين (العاشر) في الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه المبتدعة. وفي هذه الأبواب مباحث تشتبه فيها المسائل، وتتعارض الدلائل، وتنتفج الشبهات، وتتراءى في معارض البينات، حتى يعز تحرير القول فيها، والفصل بين قوادمها وخوافيها، إلا على مَن كان مثل المصنف في نور بصيرته، وغزارة مادته، وقوة عارضته، وفصاحة عبارته. ومِن أغمض هذه المسائل ما كان سنة أو مستحبًّا في نفسه وبدعة لوصف وهيئة عرضت له، كالتزام المصلين المكث بعد الصلاة لأذكار وأدعية مأثورة يؤدونها بالاجتماع والاشتراك، حتى صارت شعارًا من شعائر الدين، ينكر الناس على تاركيها دون فاعليها، وقد أطال المصنف في إثبات كونها بدعة وأورد جميع الشبه التي دعمت بها، وكر عليها بالنقض فهدمها كلها. وما لي لا أذكر لعلماء الشرع الأعلام، ولأهل السياسة من علماء الحقوق والأمراء والحكام، أهم ما شرحه لهم هذا الكتاب من أصول الإسلام، وهو بحث المصالح المرسلة والاستحسان، من أصول مذهبي مالك وأبي حنيفة النعمان، وبهما يظهر اتساع الشرع لمصالح الناس في كل زمان ومكان؟ بين المصنف وجه اشتباه ما سموه البدع المستحسنة، بالاستحسان الفقهي والمصالح المرسلة، ثُم كَشَفَ كل شبهة. وأزال كل غمّة. فبين أن البدع ليست من هذين الأصلين في وِرد ولا صَدْر، ولا تتفق معهما في علة ولا غرض، فإن البدعة كيفما كانت صفتها استدراك على الشرع وافتيات عليه، وأما مسائل المصالح المرسلة والاستحسان فهي موافقة لحكمته، وجارية على غير المعين من عموم بيناته وأدلته. وقد أورد المصنف ما قيل في تعريف ذينك الأصلين ووضح ذلك بالشواهد والأمثلة، فلو أنك قرأت جميع ما تتداوله المدارس الإسلامية من كتب أصول الفقه وفروعه، لانثنيت وأنت لا تعرف حقيقة المصالح المرسلة والاستحسان، كما تعرفها من هذا البحث الذي أوردها المصنف فيه تابعة لبيان حقيقة البدعة لا مقصودة بالذات. مَن أراد أن يعرف فضل الإسلام وسماحته، وسهولته ومرونته، فليأخذه من ينبوعه، وليستعن على فهمه بهؤلاء الحكماء الذين يشددون في إنكار البدع، ويدعون المسلمين إلى السنة التي كان عليها السلف، ويرون ضلال من يزيد في العبادات عليهم، أشد وأضر من ضلال من ينقص في غير أصول الفرائض عنهم، ويوسعون على الناس في أمور العادات، بناء على أصل الإباحة في الأشياء، وإن ظن كثير من الجاهلين، أن هذا هو عين الجمود في الدين، وجعله دينًا خاصًّا بأهل البداوة، لا يطيق احتماله أهل المدنية والحضارة، والأمر بالضد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. كان هذا الكتاب كنزًا مخفيًّا لا توجد منه في هذه الأقطار إلا نسخة بخط مغربي في كتب الشيخ محمد محمود الشنقيطي المحفوظة في دار الكتب الخديوية، فاستخرجه مجلس إدارتها في العام الماضي واقترح طبعه، فوافق ذلك رغبة صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف لذلك العهد، وعهد إليّ بطبعه بشروط بيّنها في الكتاب الذي كتبه إليّ بذلك، وأرسلت إلي دار الكتب الجزء الأول منه منسوخًا نسخًا جديدًا على أوراق متفرّقة لتجمع حروف الطبع عنها. فتصفحت بعضها فألفيت فيها غلطًا وتحريفًا كثيرًا حتى في الأحاديث، فكتبت في حاشية ما جمعت حروفه منها ليكون نموذجًا للطبع تصحيحًا لما ظهر لي غلطه، وتخريجًا لحديث: (بدأ الإسلام غريباً) الذي بنى عليه المصنف مقدمة الكتاب وجعله الأصل في وجه الحاجة إليه. وفسرت فيها بعض الكلم الغامض وأطلعتُ على ذلك صديقي الأستاذ الفاضل السيد محمد الببلاوي وكيل دار الكتب الخديوية الذي يُرجَع إليه في تصحيح الكتب التي تطبع على نفقتها، وقلت له: يعز علي أن يطبع هذا الكتاب النفيس من غير أن يصحح أصله ويعلق عليه شيء. وأنا أتبرع بما أراه ضروريًّا من ذلك، ومطبعتي تتبرع بتصحيح الطبع أيضًا. ولو كنت في سعة من وقتي لخرجت أحاديثه كلها، وبذلت العناية بمراجعة كل نُقُولِه من مظانها، وبغير ذلك من تصحيحه. فقال: نحن نرى من التوفيق أن يطبع هذا الكتاب تحت نظرك وإشرافك، ونرى أنك أجدر وأحق بتصحيحه ... ما تيسر لي قراءة شيء من الكتاب في وقت فراغ؛ بل كانت المطبعة تعرض علي الأوراق عند إرادة الاشتغال بطبعها، فكنت أرى الغلط فيه أنواعًا: (أحدها) : ما أقطع بأن صوابه كذا كتحريف بعض الآيات، أو الأحاديث المعزوة إلى مخرجيها، وتحريف أو تصحيف بعض الكلم، فأنا أصحح هذا ولا أذكر في الحاشية ما كان في الأصل إلا قليلاً. (ثانيها) : ما أظن أن صوابه كذا، وهو ما أكتب في الحاشية (لعل أصله كذا) أو ما يفيد هذا المعنى. (ثالثها) : ما أشتبه في أصله: ما هو. فمنه ما أفهم المراد منه بالقرينة، فإما أن أشير إليه في الحاشية، وإما أن أتركه للقارئ. ويقل فيما تركته التحريف الذي لا يفهم المراد منه مطلقًا، أو إلا بعد تأمل طويل. وقد يرى القارئ في بعض المواضع منه كلمات بين هذه العلامات () التي يعبرون عنها بالأَهِلَّةِ أو الأقواس أو بدونها، وقد تكون من حرف صغير، ويرى أن المعنى لا يلتئم إلا بها، ويجزم بأنها من الأصل، وإنما ميزناها بما ذكر ليعلم أنها من المصحح، ويرى في بعض المواضع علامة الاستفهام بين قوسين هكذا (؟) ويشار بها إلى خفاء في تلك المواضع أو غلط لم نهتد إلى أصله. ولكن لم نلتزم ذلك في كل مواضع الغلط المبهم. وقد تركت تصحيح بعض الأحاديث والآثار التي أحفظها من كتب الصحاح والسنن على غير ما وردت عليه في الكتاب، لئلا يكون بعض المحدثين الذين لم نطلع على كتبهم رواها بسياق المصنف. وكتبت بإزاء بعض ذلك علامة المراجعة على أوراق الطبع، مريدًا بذلك أن تعيده المطبعة إليّ للتأمل فيه أو مراجعته في مظانه. وعلمت بعد ذلك أن المطبعة كانت تراجع في بعض ذلك نسخة الكتاب المغربية فإذا رأت المعد للطبع موافقًا لها طبعته ولم تعده إلي، فيفوتني ما أريد من تصحيحه. وجملة القول أنني على ما أقاسي من العناء في تصحيح الكتاب لا أدعي أنه قد تيسر لي تصحيحه كما أحب. وإنما أقول: إنه صُحح تصحيحًا يمكن القارئ من فَهمه، فلا يكاد يخفى عليه منه إلا النادر من المفردات أو الجمل التي لا يخل خفاؤها بفهم المسألة التي عرضت له فيها. فهذا هو الطريق الذي سلكته في تصحيحه، بينته قبل الإتمام، وعسى الله أن يوفقني بالخير إلى زيادة العناية وحسن الختام، وكتبه في ١٥ شوال سنة ١٣٣٢. ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا ... ... ... ... ... منشئ المنار وناظر مدرسة دار الدعوة والإرشاد ((يتبع بمقال تالٍ))