للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء
(ترجمة أحمد باشا المنشاوي)
هو ابن أحمد آغا المنشاوي بن الجوهري المنشاوي نسبة إلى قرية المنشاة في
مركز زفتى من مديرية الغربية بمصر , ولد سنة ١٢٥٠ وقيل ١٢٥٦ ومات والداه
عن ثمانية أولاد هو أصغرهم , وترك لهم مائتي فدان فرباه أخوه الأكبر محمد بك
المنشاوي وعلمه مبادي القراءة والكتابة بالعربية والتركية , وفي الثامنة عشرة من
عمره عين معاونًا في عمال المزارع التي تسمى الدائرة السنية فعرف كيفية إدارة
الزراعة وتثمير الأرض بالطرق المنتظمة التي كان يجري عليها أمراء مصر. وقد
خلقه الله كبير النفس فحدثته نفسه بالمعالي , ولم تك المعالي يومئذ إلا في قرب
الحكام ووفرة المال فوجه نفسه إلى جمع الثروة , وكان مبدأ أمره فيها أنْ اشترى
تبنًا كثيرًا من الدائرة السنية بثمن بخس فارتفع ثمنه جدًّا حتى بلغ ثمن الحمل جنيهًا؛
فربح ربحًا عظيمًا , ثم اشترى مقدارًا عظيمًا من بذر البرسيم الأردب بجنيه فعلا
ثمنه حتى بلغ ثمن الأردب اثني عشر جنيهًا , ثم اشتغل بأعمال زراعية أخرى
فنجح فيها نجاحًا عظيمًا بكده وجده حتى وثق به إسماعيل باشا المفتش العام الذي
كان يدير دفة الحكومة المصرية في عهد الخديو إسماعيل باشا , ورقاه في عمله ,
ومن أقدر على جمع الثروة ممن كان يثق به هذا ويوليه الأعمال الزراعية؟ نعم ما
كل من تسنح له الفرص يحسن استخدامها كما استخدمها المترجَم بمهارته وحذقه
الفطري وشجاعته , وقد كانت قيمة الأرض قليلة في ذلك العهد لكثرة الضرائب
والمظالم من الحكومة حتى كأن الفلاحين كلهم عبيد للأمير لا ينالون من تعبهم في
استغلال الأرض له إلا ما يسد الرمق ويحفظ الدماء ولولا الحاجة إليهم للخدمة
والاستعباد لبخلوا عليهم بذلك اللماج، الذي كان بمثابة الدواء والعلاج، ولكن
أصحاب الجراءة والإقدام، والزلفى عند أولئك الحكام، كان يسهل عليهم من جمع
الثروة ما يعز على غيرهم , وبلغنا أن المترجَم لم يملك على عهد إسماعيل باشا
أكثر من ألف فدان، فإن صح هذا كان دليلاً على أنه لم يستعن على تحصيل ثروته
الواسعة باستبداد الحكام كما زعم بعض الناس , بل حصلها بجده واجتهاده تدريجًا.
وليرجع القارئ هنا إلى ما قلناه في مقدمة ترجمة محمود سامي باشا الأدبية من هذا
الجزء ليتذكر أن نجاح الإنسان في أعماله هو أثر استعداده وثمرة خلائقه , وقد
جرى المترجَم بحسب ميله واستعداده في طرق الإثراء , وكانت براعته في عمارة
الأرض واستغلالها أشد من براعته في امتلاكها، فقد ملك عشرة آلاف فدان كانت
غلتها نحو مائة ألف جنيه في السنة , ومن الناس من يملك في مصر أكثر من ذلك
أرضًا ولا ينال منه نصف ما كان ينال المنشاوي ريعًا , وأهل هذه الديار يعرفون
كثيرًا من معاصريهم الذين ترك لهم آباؤهم عشرات الألوف من الفدادين فأضاعوها
وانقلبوا مساكين , فلا يحسبن الجاهل أن الثروة تنال بما يسمونه البخت أو بمساعدة
أصحاب السلطة والجاه أو سنوح الفرص، بل يجب أن يعلم أن الوسيلة الأولى في
الاستعداد الفطري والأخلاق ثم العمل والجد عن علم بالميل الناشئ عن ذلك ,
فالبخت اسم لمسمى وهمي , والفرص تسنح لكثير من الناس وقليل منهم المستفيد
منها، والعلم بطرق الكسب لا يغني وحده، فكم من عالم خائب؟ والجد والكد بغير
مساعدة الأخلاق قليل الغناء , فأكثر الناس كادح ناصب في تحصيل الرزق والناجح
قليل من كثير. ومن يقول أن الحريص كالمهمل المفرط، والمقتصد كالمسرف
المضيع، والجريء كالجبان الهلوع، والسخي كالبخيل المنوع، والعزيز الكريم
كالمهين اللئيم، ومن دلائل حذق المنشاوي ومهارته في تدبير أمر الثروة أن دائرته
الواسعة لم يكن فيها من العمال والكتاب عشر ما في أمثالها من دوائر أمراء مصر
وأغنيائها الذين هم فوقه علمًا ودونه مهارة وعملاً , وكان ينظر كل شيء بنفسه ولا
يتم في الدائرة عمل إلا بإذنه وتوقيعه.
كان عزيز النفس أبيًّا ولوعًا بالشهرة بالمعالي، مغرمًا بحب المدح والثناء ,
وصاحب هذه الخلال وإن لم يقف بها عند الحدود المشروعة والموضوعة خير من
المهين المغمول المستولغ الذي لا يبالي أعده الناس مسيئًا فذموه أو محسنًا فمدحوه
كما عليه كثير من أمرائنا وأغنيائنا الذين لا همّ لهم إلا التمتع باللذات البهيمية.
ولذلك كان يدخل في المآزق ويركب الصعب لإحراز المكانة في نفوس الناس.
ومن ذلك توسطه بين عربان القطر المصري وعرابي باشا حين أراد هذا إلزامهم
بقبول ضرب القرعة العسكرية في أبناءهم فأبوا وتألبوا يبغون الفتنة، ولما أغرى
شيطان السياسة المصريين بقتل الإفرنج ومن على شاكلتهم من اليهود والنصارى
الغرباء في الإسكندرية سرى سم الاعتداء منها إلى طنطا , وطفق الرعاع يقتلون
ويضربون فانبرى الفقيد يومئذ إلى إغاثتهم فنفر عنهم طائر الفتنة , وحمل المئين
منهم على قطارين إلى بلدته القرشية فوضع كبارهم في قصره العظيم والباقين في
مزارعه هناك , فكانت لهم حرمًا آمنًا يلجأ إليه الخائف، ويفرخ روع الواجف،
وكان ينفق عليهم من سعته وجهز كثيرين منهم فسافروا بحمايته ونفقته إلى بورسعيد
فأوربا. وزعم بعض المنتقدين أنه لم يفعل ذلك إلا لما كان يتوقعه من ظفر
الإنكليز وإثابتهم إياه على صنيعته , وما كان الرجل بعيد النظر في الأمور
الاجتماعية والسياسية فيدرك ما لم يكن يخطر على بال أكثر المتعلمين والحاكمين ,
بل كان على غاية البساطة في غير الأمور الزراعية والاقتصادية , وما أرى السائق
له إلا الأريحية الفطرية وحب معالي الأمور مع الإحساس بالقدرة على ذلك لما له
من الأعوان والعصبية , وقد آوى غيره من الوجهاء بعض الناس على جبنهم
وخوفهم , ولكن لم يشتهر أمرهم , وأما عمل المنشاوي فلعظمه قد طار ذكره في
الآفاق فأهديت إليه أوسمة الشرف من دول أوربا وجمعياتها. ولكن الذين تتوجه
نفوسهم إلى الشر دائمًا لا يصدقون بأنه يوجد في الدنيا من يعمل الخير لوجه الله
تعالى أو لحب الخير. على أن الذي يطلب الحظوة عند الدول أو عظماء الناس
بفعل الخير قليل في الناس , وما كثر هذا الفريق في أمة إلا ارتقت وعظم شأنها
فالمنشاوي كان خيرًا من منتقديه وإن صدق سوء ظنهم فيه، وقد فعل مثل فعله في
مصر الأمير عبد القادر وغيره من علماء وعظماء المسلمين في الشام في إبان الفتنة
التي حدثت سنة ١٨٦٠ م فهل كانوا يتوقعون أن يأخذ الفرنسيس الشام فيكافئوهم
ويرفعوا شأنهم؟ كلا ثم كلا, إنهم كانوا بباعث الدين والمروءة ينبعثون، وقد كان
من المتهمين في الفتنة العرابية وحوكم فلم يثبت عليه بما يحكم به عليه , ولكنه في
أعقاب الفتنة سافر إلى بلاد الشام وأقام مدة في بيروت كان فيها عونًا للمنفيين
المحتاجين من المصريين , ولكنه لم يسلم من شرهم فسعوا فيه إلى السلطان عندما
سافر إلى الآستانة سنة ١٣٠١ فكتبوا إلى المابين أنه متفق مع إسماعيل باشا على
تأسيس دولة عربية فلم تضره سعايتهم , وأقام في الأستانة زمنًا ثم سافر إلى تونس
فأكرم الباي ورجاله مثواه , وأنعم عليه برتبة أمير الأمراء ووسام الافتخار , ثم
سافر إلى نابولي فلقي من رجال بعض الجمعيات حفاوة وإكرامًا , ثم عاد إلى مصر
سنة ١٣٠٥ وأقام في قصره بالقرشية , وكان حب الكرامة والعلاء قد نما في نفسه
فلم يكن يسعه ذلك القصر الفخيم والجنة التي أنشأها له , وفيها من كل فاكهة وكل
زهر وريحان، ما لا يكاد يوجد في مكان، ولذلك كان كثير الشئون مع الأمير
والحكومة , ولا موضع في المنار لذكر شيء من ذلك وإنما نشير إلى الهضم الذي
ناله من جراء ذلك فهب بباعث ردّ الفعل إلى العلاء والكرامة من الطريق الحقيقي
فنال لقب (محسن مصر الكبير) وهو أفضل من لقب باشا وأمير.
بُعد المترجَم عن أمير البلاد لهذا العهد زمنًا ثم قرب منه , وقيل أنه قدم هدية
لولي العهد يومئذ مزرعة تبلغ ألف فدان. واتفق في زمن هذا القرب أن سرق من
مزارع الأمير ثور لم يهتد رجال الحكومة إلى سارقه فتصدى لمساعدتهم إرضاء
للأمير , وكان من أقدر الناس على ذلك لما اعتاده بواسطة خدمه وأعوانه من
التنكيل باللصوص من أيام الاستبداد , فضرب بعض المتهمين الذين أحضرهم ,
وكان عنده مأمور مركز طنطا يبغي التحقيق , فقامت لذلك قيامة الحكومة؛ لأن
المحتلين يشتدون في إزالة السلطة الشخصية من مصر , ويعاقبون أشد العقوبة كل
من يعمل عملاً لا يجيزه له القانون لأجل إرضاء الأمير أو بوحي من قصره ,
فحوكم المترجَم وحُكم عليه بالحبس ثلاثة أشهر , وعزل المأمور تأديبًا , وعزل
مدير الغربية سعد الدين باشا بالإحالة على المعاش. فعظم الأمر على الفقيد ,
وذهب بعد خروجه من السجن إلى أوربا لينتقم من اللورد كرومر بما يكتب في
الجرائد الأوربية، سول له ذلك بعض الطامعين في ماله فقبله لبساطته , ثم رجع
يائسًا , وقد أراد بعد عودته أن يغيظ المحتلين بزيادة القرب من الأمير وتعظيم شأنه ,
فلما أراد الأمير أن يسافر للاحتفال لقناطر زفتى التمس منه أن يمر على محطة
القرشية فقبل , فأعد هناك زينة واحتفالاً لم يعرف لمثلهما نظير في القطر المصري ,
وقبيل السفر كُتِب إليه من حاشية الأمير بأن العزم قد تحوّل عن المرور من هناك
فعظم عليه الأمر جدًّا , وانكمشت نفسه حينًا لتندفع إلى العمل العظيم الذي لا خيبة
فيه ولا إضاعة بل هو الشرف الرفيع الذي يمحو كل غضاضة , وما عتم أن أنشأ
تلك الوقفية العظيمة التي نوهنا بها في السنة الماضية (المجلد السادس) فعمَّ
إحسانه العلماء والفقراء من جميع الملل.
ولما توجهت نفسه للخير والبر بالسخاء الحاتمي صار يكثر معاشرة أهل
الخير والعلم , فوثق عرى وداده بالشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية , وصار
يكثر زيارته ويستشيره في شئونه , وقد عرفناه في أثناء ذلك. وكنت كثيرًا ما
أحدث الشيخ فيما تتوق إليه نفسه من السعي في إنشاء مدرسة جامعة في مصر
تكون في ضواحي القاهرة , فكان يشكو من بخل الأغنياء وجهلهم بفائدة هذا العمل
الذي لا يتم إلا بمبلغ عظيم , فلما اتصل المنشاوي به رغبه في هذا العمل الذي
يكبر على غير نفسه الكبيرة ويده المبسوطة فوعد بأنه سيفعل , ولما وقف تلك
الأرض التي قيل أن ريعها يناهز أربعين ألف جنيه في السنة , وهو في الحقيقة
لا يقل عن ٢٥ ألف جنيه - خفنا أن يكون رجع عن رأيه فإذا هو لم يرجع , وكنت
كلما لقيته أحدثه في أمر المدرسة وأعظم من شأنها حتى إنني رأيته في غرة
رمضان من السنة الماضية فأقسم لي بالله أنه سيكلم في ذلك النهار أحد الأمراء في
شراء قصر له (بشبرا) لينشئ المدرسة فيه مؤقتًا إلى أن يبني لها البناء الذي يليق
بها , ثم علمت أنه كلمه ولم يتفق معه على الثمن. وبلغ الخبر أرباب الجرائد
فطفقوا يذكرون المدرسة الكلية الجامعة بما يزيد في تشويقه رحمه الله حتى إذا كان
يوم السبت (١٠ شوال الماضي) كتب إلى مجلس النظار كتابًا يطلب فيه أن تبيعه
الحكومة عشرة آلاف فدان معينة (كانت باعتها من رجل أجنبي بثمن وشروط لم
يستطع القيام بها ففسخت البيع) ليجعلها وقفًا على مدرسة كلية يريد إنشائها في
مصر بالقرب من القاهرة , ومن عادة الحكومة أن تبيع الأرض للمدارس والأعمال
الخيرية بثمن بخس , والفقيد طلب هذه الأرض بمثل الثمن الذي كانت باعتها به ,
وكتب إليها أنه يوقع على حجة الوقفية في الوقت الذي توقع له المالية على عقد
البيع. ثم توسل بالمفتي إلى نظارة المعارف بأن توصي الحكومة بالتعجيل بعقد
البيع منه , ووعدها بأن تكون المدرسة تحت رعايتها , وقد ذاكر وكيل المعارف
ناظرها في ذلك , فكتب للحكومة أحسن توصية , وبلغنا أن الحكومة قبلت ولو أمهل
القدر الرجل إلى آخر الأسبوع لتم الأمر , ولكن عاجلته المنية فاختطفته من مصر
في يوم الثلاثاء (١٣ شوال الموافق ٢٠ دسمبر) فكان فقده خسارة علمية هيهات
تعوض بالألوف من هؤلاء الأغنياء البخلاء.
وقد كنا زرناه في ذهبيته بعد عيد الفطر وتحدثنا في أمر المدرسة فقال: إنني
الآن قد بدأت بضرب الطوب (الآجر) لأجل البناء في الصيف الآتي. وأخبرنا
عن المكان الذي سيبني فيه وهو في أرض له تعرف ببسوس على ضفة النيل ,
وأخبرنا أنه كان عازمًا على شراء مراكب بخارية صغيرة من النوع المعروف
بالرفاص لأجل نقل أساتذة المدرسة الذين يقيمون في القاهرة مع التلامذة الخارجيين
صباحًا ومساءً في النيل , ووعدنا بأن سيطلعنا على ذلك المكان فيا حسرة العلم
والبلاد عليه.
هيهات أن يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
ومن كرمه الحاتمي أنه تبرع بألفي جنيه لمساعدة السكة الحديد الحجازية ,
واقتدت به حرمه فتبرعت بخمس مائة جنيه , وقد جمع لذلك مالاً كثيرًا بسعيه فأنعم
عليه السلطان برتبه بيلربكي. ومن الدلائل على حسن خاتمته رحمه الله تعالى أنه
قبل موته بيوم طاف على جميع الذين كان بينه وبينهم مغاضبة أو عداوة فصالحهم
على عزة نفسه وشدة ضغنه , فلم يقبضه الله تعالى إلا بعد أن زكى نفسه من الحرج
على الناس. فنسأل الله تعالى أن يحسن إليه في الآخرة أضعاف ما أحسن إلى عباده
في الدنيا , وأن يتجاوز عن جميع ما سلف منه بمغفرته وإحسانه.
أشرنا في الجزء الماضي إلى ما كان لتشييع جنازة المترجَم من المشهد الذي
لم نر مثله لأحد من الأمراء والعلماء , ونزيد الآن بيانًا فنقول: إن الشوارع كانت
غاصة بالناس من شاطئ النيل حيث كانت ذهبيته التي توفي فيها إلى محطة مصر
إذ نقل من المحطة إلى طنطا لأجل دفنه في القبر الذي أعده لنفسه. وكان الازدحام
على أشده من ميدان الأزبكية إلى المحطة , وكان في مقدمة المشيعين مفتي الديار
المصرية وأحد حجاب الأمير نيابة عنه , وكثير من العلماء والوجهاء من جميع
الطوائف والملل المقيمة في مصر , ولكن لم نر في ذلك الجمع الكبير أحدًا من أسرة
الأمراء ولا من النظار حتى كأنهم ليسوا من الأمة كما قيل. وكان المشهد في طنطا
على نحو ما كان في مصر , وزاده تأثيرًا هناك اجتماع تلامذة مدرسة الجمعية
الخيرية فيها و٣٠٠ تلميذ من تلامذة مدارس جمعية العروة الوثقى في الإسكندرية
معهم الموسيقى الخاصة بهم جاءوا مع أعضاء إدارة الجمعية في قطار خاص بهم
لأجل تشييع الجنازة , وقد حمد الناس من هؤلاء الأعضاء الأكارم هذه العناية
وعدوها من شكرهم لفضل الفقيد على مدارسهم لا سيما مدرسة محمد علي الصناعية
التي لم تكن لولاه شيئًا يرجى ثباته.
مات رحمه الله تعالى عن زوجة كان مغبوطًا بها محترمًا لها أشد ما احترم
رجل امرأته , وما ذلك إلا لأنها بحسن معاملتها قد عرفت كيف تملك قلبه. وعن
شابين وبنت متزوجة وهم من غير زوجته التي مات عنها وأحد الولدين مسجون ,
وقد توجهت قلوب الناس إلى الأمير بالعفو عما بقي من مدة سجنه. وقد رضي
المسجون بأن يجعل أخاه المطلق يوسف بك قيمًا عليه. فحوم الذين اعتادوا
الاستفادة من تركات الأغنياء بالتحريش بين الوارثين وتوريطهم في الشكاوي
والدعاوي على يوسف بك هذا وأنشؤوا يوسوسون له ليوقعوا بينه وبين وكيل الدائرة
بسيوني بك الخطيب وبقية الورثة. فإذا فطن لأمرهم وعرف تأثير أمثاله ووعى
أقوال النصحاء المخلصين يرى أن هذا الوكيل كان محل ثقة أبيه الذي خبر الناس
وبلاهم , وأن ثروته كانت تزيد على عهده , وأراضيه وأملاكه تزداد عمرانًا وريعًا ,
وعند ذلك يغفل وسوسة الموسوسين ويبقى كل شيء على حاله , وإلا فإنه يخسر
بالقضايا والمشكلات أضعاف ما توهمه شياطين الإنس الآن أنه يخسره بالمسالمة
فينعم زمانًا قصيرًا ثم يعود - حماه الله - إلى حال المساكين , والعاقبة للمتقين.
* * *
(وفاة الشيخ محمد محمود الشنقيطي)
لم ترقأ دمعة عين الأدب المنسجمة على محمود سامي , ولم يهدأ روع محبي
العلم والخير حزنًا على أحمد المنشاوي حتى فجع العلم وأهله بوفاة الشيخ محمد
محمود الشنقيطي العالم اللغوي الشهير في مساء يوم الجمعة لسبع بقين من شوال.
فقد فقدت مصر بل الأمة العربية في هذا الشهر ثلاثة رجال لا خلف لهم فيمن
نعرف من أبنائها. مات رحمه الله بمرض انحلال الشيخوخة عن سن تناهز
التسعين فيما نظن , وكان حضر تشييع جنازة صديقه محمود سامي باشا ومشى
فيها قليلاً , ثم عاد عاجزًا عن متابعة السير. وقد شيعت جنازته ظهر اليوم التالي
على السُّنة التي كان يحبها وينتصر لها على نفقة صديقه الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية , ومشى فيها أهل الصفاء والوفاء من العلماء والفضلاء العارفين
بفضله , ولم يترك رحمه الله ما يورث عنه , وجميع كتبة النفيسة موقوفة ووصيه
الشيخ محمد عبده , وقد وضعت امرأته بعد وفاته وقبل صدور هذا الجزء غلامًا
يسمى باسمه. نسأل الله أن يجعله من أهل الحياة ليربيه وصيه الحكيم أحسن
تربية. وسنذكر ترجمة الفقيد في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
* * *
(رأي في احتلال فرنسا لمراكش)
جاء في رسالة لمكاتب المؤيد في باريس علي أفندي زكي نشرت في العدد
٤٤٥٧ منه ما نصه:
(فحق على كل محب للمراكشيين أن يبحث عن وجوه سعادتهم , وإني ممن
لا يرون في التداخل الفرنساوي بالبلاد المراكشية أدنى ضرر على شرط أن يكون
هذا التداخل غير ماس باستقلال البلاد المراكشية من جهة ولا بسياج دين أهلها ولا
بكرامتهم.
وإن كل مطلع على تاريخ البلاد وكيفية استعمارها يحكم أن مراكش لا يمكنها
أن تقوم بنفسها بما تقتضيه راحة رعاياها وسعادة بنيها , بل لا بد لها من مساعد
يساعدها ويمدها بالمال والرجال حتى تخرج من أزمتها الحالية , وإذا نظرنا إلى
الدول جمعاء نرى أن الدولة القريبة منها المشتركة معها في صوالحها هي الدولة
الفرنساوية , ولكن هذا لا يمنعنا أن نكون ضد سياسة فرنسا إذا أرادت مس استقلال
البلاد المراكشية , بل ويلزمنا محاربتها بأقلامنا وبكل جهد استطعنا حتى نرجعها
إلى صوابها) اهـ.
ويا ليت شعري ماذا فعلت محاربة إنكلترا بالأقلام لإخراجها من مصر؟ وهل
فرنسا أضعف من إنكلترا وأشد خوفًا من أقلام أمثال هذا الكاتب السياسي؟
* * *
(معاهد العلم الديني في الإسكندرية)
أمر الأمير منذ عامين بأن يكون طلاب العلم في الإسكندرية تابعين للجامع
الأزهر في قانونه ونظامه وعين الشيخ محمد شاكر الذي كان قاضي القضاة في
السودان شيخًا لعلماء الإسكندرية لأجل إدارة نظام التعليم فيها. وقد خصص في
ميزانية ديوان الأوقاف لسنة ١٩٠٥ ست عشرة وأربع مائة وأربعة آلاف جنية من
ريع الأوقاف الخيرية لنفقات التعليم في الإسكندرية , وقد سار الشيخ محمد شاكر في
ذلك على نظام نذكره بعد.