للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حادثة دمياط
في طي الأرض، تقبيل أعتاب القبور، صناديق النذور

يقال: إن مسلمي مصر يتحركون إلى الترقي المدني الذي تعتز به الأمم،
ويتهمهم الإفرنج بأنهم يحاولون أن يجعلوا ترقيهم إسلاميًّا؛ يمتزج فيه الدين بالمدنية
والسياسة، ولو كانت هذه التهمة الشريفة صحيحة، لكنا نرى مبدأ هذه الحركة من
الأزهر، وما على شاكلته من المدارس الدينية، ولكنا نرى بين طلاب المدنية من
طريق علوم الدنيا، وبين رجال الدين صلة واتفقنا على الغاية التي يلتقي فيها
الفريقان في آخر السير، متحدين على إنهاض الأمة، وإعزاز الملة. ونحن لا نرى
بينهما إلا التباين التام، وفقد الثقة، والتدابر على خط مستقيم.
ونرى أن أهل الدنيا أقوى في ذلك من أهل الآخرة؛ فهم يجذبونهم ولا ينجذبون
إليهم، فلا ترى أحدًا ممن ارتقى بالعلوم الدنيوية، يربي ولده تربية أزهرية.
ولكن أكابر علماء الأزهر قد يربون أولادهم في المدارس الدنيوية، حتى
مدارس الحقوق التي يكون المتعلمون فيها قضاة، يحكمون بالقوانين من دون
الشريعة، وقد سمعت بأذني بعض هؤلاء العلماء يقول بكفر قضاة المحاكم الأهلية؛
لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، ثم هو يحاول جعل ولده واحدًا منهم، أو محاميًا
حكمه في نظره حكمهم. ولو سألت السواد الأعظم من المتخرجين في المدارس
الدنيوية العالية، هل يرضون أن يكون شيوخ الأزهر وأمثالهم قضاة للمحاكم المدنية
والجنائية، وحكامًا للسياسة والإدارة؟ لقالوا لك: إن البلاد تستغيث من أحكامهم في
الأمور الشخصية، فكيف تستقيم للأمة حال إذا هم حكموا في غيرها؛ لا سيما في الأمور المالية على اختلاف فروعها الآن، والسياسية على وعرة مسالكها،
والتواء طرقها.
وكان يرجى تلافي هذا التقاطع من رجال الدين، لكنهم واقفون في المضيق
الذي كان فيه أشياخهم وأشياخ أشياخهم، والأمة متحركة بطبيعة العصر، فلا هم
يسيرون معها، ولا هم يستطيعون إيقافها معهم، ولا هم يساعدون طلاب الإصلاح
على الجمع بين الدين، وما لابد منه لسلامة الملة والأمة، كاستقلال الفكر وتحصيل
علوم العصر.
إنك لتحدث أهل الرأي والفكر من الطبقات المختلفة في شأن الإسلام
والمسلمين، فلا تكاد ترى أحدًا يرجو أن يجيء يوم يحكم المسلمون فيه بشريعتهم،
وهم في حال راقية عزيزة فيفكر في ذلك، ويسعى له سعيه. أليس هذا هو البلاء
المبين؟ بلى، وإن وراءه لبلاء أكبر منه؛ وهو نفور بعض الذين يتلقون العلوم
العصرية من عقائد الدين، واعتقادهم أنها لا تتفق مع العقل، ولا يلتئم مع استقلال
الفكر، ولا نجاح لأمة لا تعطي العقل حقه من الحرية، وتبلغ الفكر مداه من
الاستقلال، وكان يرجى تلافي هذا من العلماء أيضًا بأن يجاهروا بمقاومة البدع
والخرافات.
كنا ننتظر من الأستاذ الأكبر الشيخ حسونة النواوي حركة إصلاح جديدة في
مقاومة البدع، أقوى من الحركة التي كانت في مشيخته الأولى، فما زادته الأيام إلا
حنكة واختبارًا.
ولكن حادثة دمياط جاءت بنقيض ما كان ينتظر أو يرجى، فقد كانت هذه
المسألة فرصة لإحياء سُنَّة أو سنن، وإماتة بدعة بل بدع كثيرة؛ لامتداد الأعناق،
وإصاخة الأسماع، وتشوف النفوس إلى ما قاله شيخ الأزهر، فيما عليه العامة من
الافتتان بالدجالين وقبور الصالحين.
دُعي الشيخ حسن عليّ أحد علماء دمياط إلى قراءة قصة المولد في أحد
المساجد، فسمع الناس منه ما لم يعتادوا. سمعوا منه قصة ليس فيها شيء من
الروايات الموضوعة، والأكاذيب المصنوعة، مفتتحة بقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: ١٦٤) فَسَرُّوا
بما سمعوا، وانشرحت صدورهم. وكان مما ذكر في القصة خبر الهجرة الشريفة،
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قطع المسافة بين مكة والمدينة في مثل المسافة التي
يقطعها بها الناس، فسأله بعد ذلك سائل، لماذا لم يقطعها في لحظة، كما يفعل أهل
الخطوة من الأولياء؟ فأجاب؛ بأن مسألة الخطوة غير ثابتة، ولو ثبتت لكان النبي
- صلى الله عليه وسلم - أحق بها وأجدر، لا سيما في ذلك الوقت الذي خرج فيه مع
صاحبه عليه الرضوان مستخفيين من قريش؛ خوف أذاهم، ولكانت آية يهتدي بها
خلق كثير.
ويقال أنه سئل عن البقعة التي فيها قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل
هي من أرض الدنيا أم من الجنة؟ فأجاب: بأنها من أرض الدنيا، ولا أدري هل فسر
لهم حديث الشيخين في ذلك أم لا.
وسئل عن النقود التي تلقى في الصناديق التي توضع عند أضرحة المشايخ
والأولياء في المساجد، فأجاب: بأن هذا العمل غير مشروع، وأن الصدقة على
البائسين والمنكوبين، كأهالي المطرية الذين احترقت بلدهم في هذا العام، والبذل
في الأعمال العامة كإنشاء المدارس أولى وأفضل.
وسئل عن تقبيل أعتاب حجرات قبور الصالحين، فقال: إنه غير
مشروع بل هو بدعة.
ساءت هذه المسألة الأخيرة شيخ الصندوق في ذلك المسجد من دمياط، فأوعز
إلى خطيب من خطباء الفتنة؛ بأن يعرض بتضليل الشيخ حسن علي، ووسوس إلى
كثير من العوام بأن الرجل أنكر الكرامات، وأهان الأولياء، فقامت قيامة الغوغاء
عليه، فنمى الأمر إلى شيخ الأزهر، فأمر شيخ علماء دمياط بالتحقيق، فأظهر هذا
الشيخ وأعوانه من التحامل على الشيخ حسن ما أظهروا، حتى إنه كان يقبل شهادة
الطاعنين فيه، ولا يسمع شهادة المدافعين عنه (كما قيل) .
ولما علمت العامة بتحامل العلماء عليه، هاجت هيجانًا شديدًا حتى حاولت
الفتك به غير مرة، وصارت ترجمه بالحجارة أو الطوب إذا خرج، وترجم البيت
الذي هو فيه إذا لم يخرج. ثم رُفع الأمر إلى مشيخة الأزهر، فعقد الشيخ حسونة
مجلس الإدارة للنظر في ذلك، وبعد النظر حكم بمنع الشيخ حسن علي من التدريس
مدة سنة كاملة، وبقطع مرتبه من التدريس في هذه المدة. هذا ما سمع وشاع.
قيل: إن الحكم إداري؛ سببه إساءة الشيخ حسن علي إلى شيخ العلماء في بلده
عند التحقيق، وهو قول معقول، إذ لو كان أخطأ في بعض المسائل الدينية، لحكم
عليه بعد بيان غلطه له وإقناعه بالصواب أن يعترف بالخطأ السابق، ويقرر
الصواب في دروسه على رؤوس الأشهاد.
ولكن العامة فهمت أنه عوقب على إنكار ما يسمونه الخطوة، أو طي الأرض
للصالحين، وتقبيل أعتاب الحجرات التي تبنى فيها قبورهم، ونحو ذلك من البدع،
وربما قالوا: إن الأولياء تصرفوا فيه، وهذا ما كنا نرجو أن يتلافاه الشيخ حسونه؛
لأن هذه الحادثة أحسن فرصة لنصر السنة ومحو البدع، بأن يظهر الحق للملأ على
ألسنة الجرائد.
الحق في هذه المسائل من البديهيات التي لا ينتطح فيه عنزان. أما مسألة طي
الأرض، وقطع المسافات الطويلة في دقيقة أو دقائق، فلم يأت بوجوب الإيمان بها
كتاب ولا سنة، ولم يقل بها أحد من الأئمة المجتهدين، بل لم يكن يخطر ببال
السلف، ولما حدث القول بذلك في الخلف استنكره بعض الفقهاء، حتى قال بعضهم
بأن من يعتقد جواز ذلك يكفر ويخرج من الإسلام، أو يحكم بجهالته وغباوته، كما
صرح بذلك صاحب الوهبانية من فقهاء الحنفية بقوله فيها:
ومن لوليّ قال طي مسافة ... يجوز جهول ثم بعض يكفر.
ولا شك أن الناظم كان يعتقد أحد الوجهين اللذين حكاهما عن العلماء، فليكن
الشيخ حسن مثله ومثل من نقل عنهم. وهذا قولهم فيمن قال بالجواز، فما بالك بمن
يقول: إن ذلك واقع بالفعل.
وهب أن هذا وقع كرامة، فهل يكلف من لم يثبت ذلك عنده، ولم يشاهده أن
يجعله عقيدة دينية له؟ أي دين يتسع لهذا؟ أيتسع له دين الإسلام الذي قرر كتابه أن
لله في الخليقة سننًا لا تتبدل ولا تتحول، وأن لا حكم في الدين إلا لله، وما أنزل الله
بهذا من سلطان.
وأما مسألة تقبيل الأعتاب فهي بدعة، لا سند لها من كتاب ولا سنة ولا قول
إمام مجتهد، وكيف؟ وقد قال الفقهاء في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
ليس من السنة أن يمس الجدار، ولا أن يقبله، بل يقف من بعيد ويسلم.
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تشييد القبوروتشريفها، وعن الكتابة
عليها، وعن إيقاد السرج عليها، وعن اتخاذ المساجد عليها، ولعن من يفعل هذا.
ومضى الصحابة والتابعون على هذه السنة، فلم يبنوا قبر النبي - صلى الله
عليه وسلم - ولم يصلوا إليه ولا بنوا قبرًا لأحد من المهاجرين والأنصار. ولما
حدثت بدعة بناء القبور، كان بعض الأمراء المتمسكين بالسنة يهدمها كما حكاه الإمام
الشافعي في (الأم) ، قال: ولم أر أحدًا من الفقهاء أنكر عليهم ذلك، أي: هدمها.
فهل صارت البدعة سنة، وصار بناء القبور وتشريفها، وبناء المساجد عليها،
والصلاة إليها دينًا متبعا، بعد أن لَعَن الشارع فاعل ذلك، وصار لهذه المساجد التي
تبنى عليها أحكام شرعية، منها: أن تقبيل أعتابها مطلوب شرعًا، ومنكره يعاقب
ويهان؟
وأما مسألة الروضة فالرواية فيها ضعيفة عن الشيخ حسن علي، سمعتها من
واحد مجملة، وإنني مع ذلك أقول فيها قولاً وجيزًا: أقول: إن العلماء قالوا في حديث
الشيخين: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) : إن معناه أن العمل
هناك بطاعة الله يكون سببًا لدخول الجنة، وقيل: إنها تنقل يوم القيامة إلى الجنة،
وقال بعضهم: إنه لما كان جلوسه صلى الله عليه وسلم وجلوس الناس إليه
يتعلمون القرآن والدِّين والإيمان هناك شبه ذلك الموضع بالروضة؛ لكرم ما يجتنى
فيه، وأضافه إلى الجنة؛ لأنها تؤول إلى الجنة وهذا هو الصواب في تفسيره ويشهد
له ما ورد في تسمية مجالس الذكر برياض الجنة، كما في حديث جابر وأبي هريرة
ومعاذ، ولم يقل أحد: إن المراد بها أن مجالس الذكر من أرض الجنة، لا من
أرض الدنيا.
وأما مسألة الصناديق التي توضع عند الأضرحة؛ لاستدرار أيدي الذين
يظنون أن إلقاء المال في الصندوق منها؛ سبب لقضاء صاحب الضريح لحاجة
الملقي، فما قاله الشيخ حسن فيها، لا يستطيع أحد أن ينكره إلا أولئك الأغنياء
الذين يأكلون تلك الأموال بالباطل، ولم يبلغنا أن الرجل نوقش في هذه المسألة، فلا
نبحث فيها.
فعلم مما تقدم أن كل ما قاله الرجل حق لا وجه لمؤاخذته على شيء منه،
وهذا مما يقوي القول بأنه أُوخِذ على شيء آخر يتعلق بمعاملته لشيخ علماء دمياط.
ولكن الناس لم يعرفوا ذلك الشيء، فظنوا أن شيخ الأزهر وأعضاء مجلس إدارته
ينكرون تلك الحقائق، ويقولون بوجوب الإيمان بطي الأرض للصالحين بالفعل،
وتقبيل أعتاب المساجد التي بنيت على قبورهم ابتداعًا في الدين، وبأن إلقاء المال
في الصناديق عند قبورهم، أفضل من الصدقة على الفقراء والمساكين، وإغاثة
المنكوبين والبائسين.
والناس في هذا الظن فريقان: فريق يعلم الحق في هذه المسائل، فهو يعتقد أن
الشيوخ مبطلون، وللبدع والخرافات مؤيدون. وفريق لا علم عنده، فهو يقلدهم بما
يظن أنهم عليه. ولا ينبغي إقرار أحد من الفريقين على ظنه ظن السوء بالعلماء؛
لذلك نقترح على الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أن يبين للناس الحق في هذه
المسائل، وأنه لم يؤاخذ الشيخ حسن لخطئه فيها، بل لأمر آخر وله أن يكتمه، فهذا
وقت يجب فيه البيان ولا يصح فيه السكوت، والأستاذ في فضله وترويه أهل لذلك.