للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جميل صدقي أفندي الزهاوي
مهاجمته بشعرياته للشرعية الإسلامية في حقوق النساء

نشرت جريدة المؤيد في شهر شعبان من هذه السنة مقالة لجميل صدقي أفندي
الزهاوي الشاعر البغدادي المشهور، ينتصر فيها بتخيلاته الشعرية للناس على
الشريعة الإسلامية الحكيمة، ومقالة أخرى يدعو فيها العرب إلى ترك اللغة العربية
الفصيحة واستعمال اللغات العامية التي يتخاطبون بها على سخفها وعسر ضبطها،
وما تحتاج من العناء والزمن الطويل لتدوينها ووضع الفنون لها لتحفظها، وتجعل
لتعلمها طريقة فنية، وعلى ما في ذلك من تمزيق شمل العرب وجعلهم أممًا مختلفة
في اللغة، فردّ عليه الكُتَّاب المسلمون في مصر وسورية والعراق، ويقال إن أهل
العلم والدين هاجوا عليه في بغداد، ورفعوا أمره إلى الحكومة فعزلته من عمله في
نظارة المعارف، وكان معلمًا للشريعة في مدرسة الحقوق.
كنت علمت بما كتبه جميل أفندي وأنا في الآستانة، فلم أر كتابته هذه أهلاً
لأن تقرأ أو يرد عليها، ولكنني رأيت نصير الحرية الفيلسوف شبلي شميل قام
ينتصر له في هذه الأيام، ويدعو الكُتَّاب إلى ذلك، فكتب في المقطم يستفتي الرأي
العامّ العثماني والمصري في حادثته، وقد بنى استفتاءه هذا على رسالة جاءته من
بغداد، يستنكر فيها كاتبها ولعله جميل أفندي نفسه عزله في عهد الدستور؛ بواسطة
مبعوث دستوري هو مصطفى أفندي مبعوث الحلة وحاكم دستوري هو ناظم باشا
والي بغداد، ويقول: إن فريقًا من الثائرين يريدون أن تفصل الحكومة بين الرجل
وزوجته؛ لأنه كفر، وفريقًا يطلب إبعاده عن البلاد الإسلامية، وفريقًا يريدون قتله.
وقد عقب المقطم على استفتاء شبلي شميل بكلام في منتهى الشدة والإنكار؛
مع اعتراف المعقب بأنه لم يقرأ مقالة الزهاوي، ولكن الظلم الفظيع الذي أصاب
الزهاوي أضرم نار السخط في صدره، وجعل دمه يغلي في عروقه.
طالبني الدكتور شميل بأن أكتب رأيي في المسألة، فرجعت إلى مقالة الزهاوي
في المؤيد؛ لأتثبت وأتبين حقيقة الذنب الذي ترتّبَتْ عليه العقوبة، فرأيته يعترض
فيها على ما ثبت في القرآن العزيز وينسبه إلى خطأ المسلمين وجهلهم، يشير بذلك
إلى أن القرآن من أوضاعهم، بل هو يصرح بذلك بقوله في الجنة (التي وصفوها
بقولهم فيها ما تشتهي الأنفس) ، وهاك جملة من تلك المقالة بنصها.
(وليست المرأة مهضومة من جهة واحدة، بل هي مهضومة من جهات
عديدة) :
ولو كان رمحًا واحدًا لاتقيته ... ولكنه رمح وثانٍ وثالث
(فهي مهضومة لأن عقدة الطلاق بيد الرجل يحلها وحده، ولا أدري لماذا
يجب رضاء المرأة في الاقتران، ولا يجب رضاها بالفراق الذي تعود تَبعته عليها
وحدها.
(وهي مهضومة لأنها لا ترث من أبويها إلا نصف ما يرثه أخوها الرجل) .
(وهي مهضومة لأنها تعدّ نصف إنسان، وشهادتها نصف شهادة) .
(وهي مهضومة لأن الرجل يتزوج عليها بثلاث أُخَر؛ وهي لا تتزوج إلا به
وحده) .
(وهي مهضومة لأنها وهي في الحياة مقبورة بحجاب كثيف يمنعها من شم
الهواء؛ ويمنعها من الاختلاط ببني نوعها والاستئناس بهم والتعلم منهم في مدرسة
الحياة الكبرى) .
(وليست المرأة المسلمة مهضومة في الدنيا فقط، بل هي مهضومة كذلك في
الأخرى؛ لأن الرجل المصلي يُعطى من الحُور العِين من سبعين إلى سبعين ألفًا
وأما المرأة المصلية فلا تعطى إلا زوجها وربما اشتهته [١] في الجنة التي وصفوها
قائلين: (فيها ما تشتهي الأنفس) على حين يشتهي هو غيرها من الحوُر العِين
اللاتي أُعطينه) اهـ.
فهذه الجملة الوجيزة من تلك المقالة كلها تهكم بالشريعة واعتراض على القرآن
العزيز، ولا يمكن أن يصدر مثلها من مسلم يؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه
وسلم) ، وسمعت من كثير من الذين عرفوا جميل صدقي أفندي في الآستانة أنه
ملحد لا يدين بدين، وما كان يجوز لي أن أكتب ذلك جازمًا به اعتمادًا على شهادتهم
وإن لم أتهمهم بالكذب؛ لأنني عهدت من الناس تكفير من أعلم بالاختبار قوة دينهم،
ولكن هذه العبارة كافية للجزم بأن قائلها ليس مسلمًا، ومن يقولها لا يختلف أحد من
فقهاء المسلمين في ردّته؛ لأن جميع هذه المسائل التي ذكرها ثابتة بنص القرآن إلا
الحجاب على الوجه الذي ذكره وإلا مسألة عدد الحور العين لكل مصلّ؛ فإنه عزاها
إلى الشريعة لجهله بالكتاب والسنة، فلا أصل لها في القرآن ولا في الأحاديث
الصحيحة، وإنما ورد من السبعين واثنتين وسبعين حَوْراء فمن روايات الضعفاء
والمتهمين بالمنكرات والموضوعات.
هذه الأحكام التي اعترض عليها الكاتب اعتراض تهكم وازدراء، هي من
القوانين الشرعية التي يُحكم بها في محاكم الدولة الدستورية، وهي من دين الإسلام
الذي هو الدين الرسمي للدولة العثمانية بمقتضى قانونها الأساسي، وقانون
المطبوعات الذي وضعه وأقره مجلس الأمة، لا يبيح الاعتراض والتهكم بدين
الحكومة الذي تجب عليها حمايته، بل ولا بغيره من الأديان التي أقرتها الحكومة
الدستورية في بلادها، فالدستور العثماني لا يبيح إذًا نشر مثل تلك المقالة التي
نشرت باسم الزهاوي، فالذي يَنتصر له بعد العلم بحقيقة ذنبه في نشرها، يكون
جانيًا على الدستور؛ خارجًا عن محيط الحرية التي يُشترط عند جميع الأمم أن لا
يتعدى بها حدود القوانين التي عليها العمل.
لو أن الزهاوي اتبع سبيل الحكمة والعقل، في اعتدائه حدود القانون والشرع
لقال كثير من العقلاء: إنه يستحق الرأفة في الحكم، وأين الحكمة والعقل ممن يزعم
أنه يريد إصلاح قوم، فينكر عليهم ما هو ثابت في أصل دينهم وكتاب ربهم لأنه هو
لا يفقهه ولا يدري حكمته.
كان من مقتضى الحكمة والعقل أن يفكر في عاقبة نشر هذا القول، ويعلم أن
عدم قبوله وهو الأرجح إن لم يكن القطعي المحتم يُهيج عليه الناس، فيتأذى هو ولا
ينتفعون هم على فرض أن ما دعاهم إليه نافع، وأن قبوله لا يكون إلا ببطلان
الثقة بالدين من أصله، وإذًا يقعون في فوضى تستباح فيها الأعراض والأموال،
فيكون إثمه أكبر من نفعه.
إن كان الزهاوي يرى أنه لا يمكن إصلاح حال المسلمين ما دموا متمسكين
بدينهم، وكان حريصًا على إصلاحهم، فالذي كان يُعقل منه أن يعمله هو أن
يدعوهم إلى ترك هذا الدين، إما تركه إلى إلحاد وكفر مطلق وإما إلى دين آخر يراه
يتفق مع الإصلاح، وإن كان يرى أنه يمكن إصلاح حالهم مع محافظتهم على دينهم
فالذي يُعقل منه أن يدعوهم إلى ترك ما لا يحصى من المفاسد التي فعلوها
والمصالح الكثيرة التي تركوها مخالفين للإسلام في فعهلم وتركهم، وأما هذه الذبذبة
وقوله تارةً، قال الله تعالى ويذكر آية من القرآن وإشارته تارةً أخرى إلى بعض
الآيات بقوله: (وصفوها قائلين) ، فليست من العقل ولا من الحكمة في شيء.
بعد هذا كله أقول فيما ذُكر من عزله واضطهاد الناس له، كان ينبغي أن يسأل
أولاً عن هذه المقالة، فإن اعترف بأنه هو الكاتب لها، فللحكومة أن تعزله قائلة:
إنه لا ينبغي أن يدرس الشريعة من ينكر أصلها الأَحْكم وسراجها الأنور، وللناس أن
ينكروا عليه ذلك؛ إذ لا يأمن آباء التلاميذ على أولادهم مَنْ يشككهم في عدل
شريعتهم وحقيتها، ويجب عليهم شرعًا أن يطالبوا الحكومة بمنعه من التدريس،
ويجب على الحكومة أن تجيبهم إلى ذلك، وإذا رُفع أمره إلى القاضي الشرعي
وثبت عنده أنه هو الذي تهكم بالشريعة ونسبها إلى الجَوْرِ والظلم؛ من أحكام الإرث
والطلاق وتعدد الزوجات بشرطه، فعليه أن يحكم برِدّته ويفرق بينه وبين امرأته إن
كانت مسلمةً.
هذه هي شريعة الدولة ليس لعاقل أن ينكر عليها تنفيذها، ما دامت هي
شريعتها، وإن كان هو لا يدين الله بها ولا يرى أنها عادلة، كما أن بعض رجال
القانون بمصر يرون أن في القانون المصري أمورًا منتقدةً ضارةً يجب تنقيحها أو
تغييرها، ولكنهم لا يجيزون تقصير الحكومة في تنفيذها، ما دامت مقرَّرةً في
القانون.
نعم، إننا لا نفتي الناس بجواز الاعتداء عليه بقتل ولا ضرب ولا سب ولا
على ماله بغصب ولا سلب، فإن إجازة اعتداء الناس على من يرونه مذنبًا بالكفر أو
المعصية، يوقع البلاد في الفوضى والفتن، ويسلب منها الأمن على الأنفس
والأموال والأعراض ويبطل سلطة الحكومة، ولكن لهم أو عليهم أن يظهروا له
السخط والإنكار، فإن إنكار المنكر فرض محتّم، وهو الركن الأقوى لحفظ الآداب
العامة والفضيلة، فكل أمة تكرم أهل المنكر تهبط وتفسد، وكل أمة تحتقرهم تعلو
وتصلح، وقد علمنا أن بعض سراة الإنكليز ارتكب فاحشة اللواط، فلما عُرف ذلك
عنه فضّل بخْع نفسه (الانتحار) على الظهور بين قومه مهينًا محتقرًا، ومَنْ
يُعظم ويُكرم مَنْ يعتقد أنه لا يستحق التكريم فهو منافق، ويستحيل أن ترتقي أُمة
يَفْشو فيها النفاق ما لم تتركه.
نعم، إن احترام استقلال الفكر من أعظم أسباب ارتقاء العقل والعلم، ولكن
مسألة الزهاوي لا تدخل في هذا الباب؛ لأنه لم يبد رأيًّا دينيًا في ضمن دائرة الدين
مخالفًا لبعض المذاهب بالدليل، ولا رأيًا علميًّا في ضمن دائرة العلم بعيدًا عن مس
كرامة الدين، بل أهان الأمة بالتهكم بدينها، والحكومة بالخروج على شريعتها
وقوانينها، ويعتقد كل من الأمة والحكومة أن ما كتبه يضر؛ لأنه يبطل ثقة العامة
بدينها، وما رأَينا الدكتور شميلاً استباح لنفسه مثل هذا؛ وهو أشهر كُتَّاب العرب
استقلالاً في رأيه وعمله؛ ولذلك يحترم استقلاله المسلمون كغيرهم، ويكرمونه
تكريمًا، وما أراه يُرضيه ما كتبه الزهاوي - وقد علمه - بل يرضيه منه، إما أن
يكون مسلمًا يذعن لكل ما يعتقد أنه من دينه، وإما أن يصرح بأنه ليس مسلمًا
ويظهر رأيه المخالف للإسلام؛ على أنه رأي له من التزام الأدب واجتناب جَرْح
قلوب القوم الذين يخالفهم، وما أراه يُستحسن منه في هذه الحال أن يكون مدرسًا،
يقرر شريعة يعتقد أنها ظالمة، بل لعله يحتم عليه أن يرفض هذا الدرس من نفسه
كما رفض الفيلسوف سبنسر الوسام الذي أهداه إليه عاهل الألمان؛ لأنه هو يرى
وجوب ترْك الحرب، وذلك الملك أشد الملوك استعدادًا لها.
وأما الحكومة فيجب عليها أن تحمي الزهاوي من اعتداء الناس عليه، ومن
إهانته بما يعاقب عليه القانون، وأن لا تعاقبه هي إلا بعد المحاكمة وثبوت الجرم
والحكم به، ولتعلم أن اتباعها لأهواء العامة أو الخاصة في معاقبة الناس؛ هو قلب
لمعنى السلطة وإضاعة الحكومة، فإن أهواء الناس لا تقف عند حد الشرع
والقانون ولا العقل والمصلحة، فإذا لم تُعْنَ الحكومة في كل مكان بحفظ الحرية
الشخصية أشد العناية، فإن الدستور لا تقوم له قائمة، وتظل البلاد هاوية في
الشقاء والخراب، وقد قصّرت حكومتنا الدستورية بهذه المسألة في كل الولايات
حتى إن الناس يشعرون بأن النفوذ الأعلى لا يزال لأصحاب العصبية ولعصابتهم
من الأشقياء، ويلي هذا تأمين عمالها الموظفين على وظائفهم، وعدم عزل أحد منهم
بغير محاكمة، والمُطالب بهذا عاصمة البلاد في هيئتيها النيابية والتنفيذية، فليس
الأمر خاصًّا بالعراق، بل مصدره عاصمة المملكة، فيجب على الأحرار المحبين
للإصلاح أن يطلبوه من هناك.
وليس هذا المقام مقام الردّ على شبهات الزهاوي، ومن راجع مجلدات المنار
والتفسير يجد فيها الرد الكافي.
بعد هذا ننصح لجميل صدقي أفندي فنقول: إن ما حصل هو نتيجة طبيعية
لتك المقالة تكاد تكون بديهية، وإن أهل بلادنا العثمانية لا يطيقون الجهر بمخالفة
عاداتهم، فيشغبون على صاحبه باسم الدين، وإنك رجل مستعدّ وميّال للفلسفة
والعلوم الطبيعية والأدبية، فدَعْ البحث في الدين لأهله المستعدين له، واشتغل
بخدمة الأمة من الطريق الذي يرجى أن تنفعها به، وقد قال الأستاذ الإمام: إن من
أسباب عقم الأمة أن من يتقن فيها علمًا أو عملاً أو من هو مستعد لإتقانه ذلك،
يشتغل بغيره مما لم يتقنه، ولم يخلق مستعدًّا له، فلو صرفت ذكاءك إلى وضع
كتب صغيرة حسنة الترتيب سهلة الأسلوب؛ لمطالعة العوامّ والتلاميذ وتعليمهم ما
يطبع ألسنتهم على اللغة الصحيحة، ويقوي ملكة الآداب والفضائل في أنفسهم، أو
رسائل لتعليم بعض الفنون التي تُحسنها؛ لأفدت واستفدت وكنت من المصلحين،
ولعلك تفعل ذلك بعد أن تنجلي هذه الغمرة عن قريب.
***
حجة جديدة لبراءة
الزهاوي من المقالة
بعد كتابة المقالة، جاءنا المؤيد يقول: إنهم قابلوا خط رسالة مقالة الدفاع عن
المرأة بخط بعض القصائد التي كان أرسلها الزهاوي للمريد من قبل؛ فوجدوا الخط
مختلفًا غير متشابه، فإذا أنكر الزهاوي تلك المقالة وتبرأ مما فيها من الاعتراض
على الشريعة تبرؤًا جليًّا واضحًا لا كما كتب في جريدة الرقيب، فإن ما كتبه المؤيد
الآن يصلح حجة على تأييد إنكاره، وحينئذ نطالب الحكومة والأهالي بجعل الحادثة
كأن لم تكن شيئًا مذكورًا.