لأحد أفاضل العلماء المدرسين في الجامع الأزهر الشريف
الاتحاد هو الاتفاق على أمر من الأمور وبه يقوى هذا الأمر ويعظم، إلا أنه تارة يكون ممدوحًا وتارة يكون مذمومًا، فإن كان المتفق عليه ممدوحًا كمقاومة العدو الصائل كان ممدوحًا، وإن كان مذمومًا كالسلب والنهب واللهو واللعب ومنع خير وجلب شر كان مذمومًا. ومما هو في المرتبة العليا في المدح - اتفاق أهل المملكة أو المدينة أو المنزل على ما به صلاح مملكتهم أو مدينتهم أو منزلهم وعلى ما فيه حفظها من الاضمحلال والتلاشي مما يضمن لهم بقاء المجد والشرف ويحفظ لهم القوة والمَنَعَة، ألا وهو تدبير أمورهم بالقوانين العادلة والأفكار النيِّرة والتحابُب والتوادد وعمل كلٍّ لنفسه ولغيره من أهل مملكته أو مدينته أو منزله، فيجتمعون بالروح والجسد على من له العراقة في الإمارة عليهم، المحافظ على ترقيهم ومجدهم، ويساعدونه في تدبير أمورهم بالقوانين المرضية مخلصين له ناصحين لا يتساهلون فيما فيه النفع العام ولا يتغافلون عما فيه الضرر اللاحق بهم وبغيرهم، ولا يتخالفون فيما بينهم لغرض نفساني أو حظ مالي؛ فتفتر همتهم وتضعف شوكتهم فيكونون عرضة لتسلط الغير عليهم وتمكنه منهم واستيلائه عليهم، فيصيرون في ربقة الرق ذليلين مقهورين لا يُبالَى بهم، ولا يكترث بكبيرهم ولا صغيرهم، ولا يُعتنى بشريفهم ووضيعهم، ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ولا يُؤْثِر أحدهم نفسه بالعمل فيعمل لحظ وقتي له يراه وقت العمل ثم يكون كالهباء المنثور، بل كالسراب يحسبه الظمآن ماءً وهو عدم، بل يعمل لأمته ومستقبله لا لنفسه فقط؛ لأن الإيثار ليس من الكمال في مثل هذا، ولأن وقته الحاضر قد انكشف له ما فيه وظهرت له شؤونه إن كانت سارة أو ضارة، وأما المستقبل فلم ينكشف له ما يكون فيه؛ فحقه أن يعمل ما يحفظ له حاله فيه بحسب طاقته. على المرء أن يسعى إلى الخير جهده ... وليس عليه أن يساعده الدهر فيا ذوي الأبصار، يا أولي الأنظار، عليكم بالتأمل في تقلبات الدهر وحوادثه؛ فإنه يكون لمن اتحدت كلمتهم واجتمعت قلوبهم، ويكون على من اختلفت كلمتهم وتنافرت قلوبهم، فوحدوا كلمتكم واجمعوا قلوبكم {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: ٤٦) وسارعوا جميعًا إلى ما به حفظ الأمة والدين كما تسارعون إلى ما به حفظ المال والبنين، ولا يقعدكم عن هذا الانهماك في اللذات والتقلب في الشهوات؛ فإن الإنسان ما خُلق للشهوة واللذة لما فيه كمال النفس التي هو بها إنسان من التخلق بالأخلاق الحميدة التي منها عدم الاسترسال في الشهوات واللذات، بل يأخذ من ذلك قدرًا يسيرًا يروِّح به نفسه فقط ويردعها عما زاد؛ لأن الزائد تتعاصى به عليه فلا يطيقها فتجره إلى ما ليس فيه كماله وحفظ عشيرته، ولا يحول بينكم وبين ذلك توهم أنه يصيبكم مكروه؛ فإن الإنسان لا يصيبه إلا ما قدر عليه حتى لا تكونوا أكلة ذئب ولا فريسة أسد، لا سيما العلماء؛ فإنهم أئمة لغيرهم ويُقتدَى بهم ويُهتدَى بهديهم، فعليهم أن يتحدوا وأن يتخلوا عن الرذائل والدناءات، وأن يتجردوا من التعصب ورد الحق على قائله، وأن يتبعوا الخطة الحميدة والطريقة المفيدة؛ ألا وهي ما أمر به أمير البلاد وخديويها المعظم، وارتضاه مشاهير العلماء من ترك قراءة الحواشي وصرف الزمن في المناقشات والمشاغبات؛ فإنه اشتغال وضياع للوقت في خدمة كلام المخلوق، وإعراض عن الاشتغال بكلام الخالق، وتفويت للإحاطة بأحكام الشريعة الغراء والفنون الأدبية. وما يتوهم من أن الاشتغال بالحواشي يقوي الذهن دون ما دعاهم إليه مجلس إدارة الأزهر - فغلط أَوْقَعَهُمْ فيه حكم العادة التي شبُّوا عليها وذلك لأنه بترك الحواشي والمناقشات يتيسر لهم الاشتغال بالفنون العقلية من الحساب والهندسة، فتفيدهم في الذهن قوة أكثر مما يستفاد بالحواشي؛ ولذا كان الحكماء يشتغلون بالرياضيات قبل العلوم الحكمية وقد أمرهم أمير البلاد بالخطة الجديدة لأجل أن يكون لهم إحاطة بالعلوم وترقٍّ في المعارف؛ ولأنه رأى ما لم يروه من تعييب أهل الوقت لخطتهم حتى كان من الحسن عندهم تفريق هذا الجمع، فعسى أن يلتفت قومنا لما هو الأحرى والأنفع دنيا وأخرى.