ولد فيصل بن حسين في مكة المكرمة وربي في طفولته بالبادية كما كان يربى شرفاؤها وكبراؤها من قبل الإسلام، ويعلم هذا جمهور مسلمي الأرض من سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم ربي التربية الثانية في مراهقته وصباه في الآستانة عاصمة آل عثمان، كأمثاله من أولاد كبار شرفاء مكة المرشحين للإمارة، وكان غرض الدولة التركية من ذلك معروفًا لجميع الذين يعرفون سياستها في الشعب العربي ولا سيما شرفاء مكة، ومنها أنها كانت تحول دون تعليم نابتتهم في المدارس المدنية الرسمية وغير الرسمية، وكان آباؤهم يكفونها أمر تعليمهم في المدارس الدينية لعدم شعورهم بالحاجة إليه، بل كانوا يترفعون عنه؛ لأن أرفع أمر النابغ فيه أن يكون قاضيًا أو مفتيًا أو مدرسًا في مسجد، فكان قلما يتعلم أحد منهم إلا ما يتفق له في منزل أبيه، ولن يكون تعليمًا أصوليًّا يتقن به علمًا أو فنًّا يكون به أهلاً للنهوض بعمل عظيم، ومرجعًا أو مرشدًا وإمامًا للعاملين، ولا لما دون ذلك مما يترفعون عنه من قضاء أو إفتاء أو تعليم، ولقد مرت القرون وتعاقبت الأجيال ولم تخرج لنا هذه الأسرة الهاشمية رجلاً عظيمًا في علم نافع ولا عمل رافع، ولا إصلاح ديني ولا اجتماعي ولا سياسي، وما زالت إمارة الحجاز موروثة فيهم من قبل دولة الترك بقرون، وما كانت تزداد البلاد في عهدهم إلا خرابًا، ولا أهلها إلا تبابًا، ولو قام فيها مصلح عظيم منهم لكان تأثيره في إحياء مجد الإسلام بالعرب ومجد العرب بالإسلام ما يفوق تأثير سبعين مصلحًا من غيرهم، لما لهم من المكانة الموروثة في أمتهم، وإن في سيرة فيصل لمثلاً لهم وعبرة لأولي الألباب من أمتهم. لم يكن لفيصل قبل الحرب العامة ميزة في أسرته ولا قومه تلهج بها الألسنة وتجري بذكرها الأقلام، أو تشير بها الأكف أو تشخص إليه الأبصار، إلا ما بلغني من خبر شجاعته وأن أخاه عبد الله فاخر بعض الشجعان وهدَّده مرة فقال: تراني أنا راعي الهدلة [١] تراني أنا أخو فيصل. وكان من تأثير تربية الآستانة في نفسه أن سياسته كانت تركية محضًا فلم يكن يفكر في أن لأمته العربية وجودًا يجب أن يعنى به. ولقد سمعت من لسانه في أول حديث دار بيني وبينه في بيروت (في ١٤ جمادى الأولى سنة ١٣٣٨ - ٤ فبراير سنة ١٩٢٠) أنه كان يرى الخير لوالده وأهل بيته بل لأمته في الإخلاص لدولة الترك ودوام الانتفاع أو قال الترقي بهم، وأنه إنما تحول عن هذه السياسة لما جاء الشام قبيل الحرب وبعدها، ورأى قومه كلهم على خلاف رأيه، على حد قول الشاعر وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وإنه يومئذ اتفق مع إخواننا في الشام على العمل للقضية العربية، وانتظم في جمعيتهم السرية. ثم كان من عمله في الثورة العربية التي أعلنها والده ما كان به أظهر رجالها، وحارب الترك مع الإنكليز حربًا كسبته وكسبت العرب ثناء رسميًّا له قيمة سياسية عظيمة. ودخل دمشق عقب انسحاب الترك منها دخول الفاتح الظافر، وسافر بعد ذلك إلى أوربة وشهد مؤتمر الصلح الأكبر، ودخل في إثر ذلك أبواب السياسة، ثم بايعته الأمة السورية وجعلته ملكها، ثم نادت بسقوطه وتحدثت بالهجوم والدمور عليه للفتك به، فوضع الحرس الحجازي المسلح على بابه، إذ أذيع فيها قبوله لإنذار الجنرال غورو المُخْزِي، وزاد السخط عليه بدخول دمشق في الليلة التي دخلها الجيش الفرنسي محتلا لها، مؤملا أن يرضى ببقائه ملكًا فيها، ولكنه أخرجه منها ليلا، ثم كان من أمر توليه ملك العراق ما كان، وما لقي فيه من مقاومة وما طرأ عليه من أطوار، وما زال يرسب ويطفو، ويسف ويسمو، حتى صار سياسي الأمة العربية المحنك، وجذيلها المحكك وتجلى فيه من عبقرية الذكاء والحزم، ونباهة الشأن وإدارة الملك، ما انتهى به أمره إلى ما علمنا من ثقة به موطدة، وآمال بسعيه معلقة، وأحزان عليه صادقة، وألسنة بإطرائه ناطقة، دلت على أن المستقبل الذي أمامه كان عظيمًا، وأنه كان قوميًّا عامًّا، لا وطنيًّا خاصًّا. كان لفيصل كثير من أخلاق الزعامة والرياسة، وشمائل السياسة والكياسة، كالسخاء والنجدة، والحلم الواسع، والصبر على المكاره، وقوة الأمل، والدهاء والمكر، وكان جذابًا خلابًا، عذبًا سائغًا، هينًا لينًا، سهلاً متواضعًا، سريع الغضبة سريع الفيئة، لا ييأس ولا يوئس مخالطه منه، وكل أولئك من أخلاق الزعامة والرياسة، وما كان يخلو من بعض الصفات القاطعات لطريقها، والمانعات لتحقيقها، منها مبالغته في المواتاة لكل معاشريه والاستجابة لمطالبهم المتناقضة، ومساعدتهم على الأعمال المتعارضة، ومنها أنه كان على شدة صراحته يكاد يتعذر على أقرب الناس إليه أن يعرف كُنْه سريرته، ويثق بإصراره على رأيه، وثباته على ما يبديه له منه. هكذا كان عهدي به في دمشق. ولولا ما أوتي من المرونة والحلم، والحرية واللطف، والاعتبار بالحوادث، وممارسة الكوارث، وتربية نفسه بها، والارتياح إلى إعطاء كل ذي حق حقه فيها لكان الخوف عليه أكبر من الرجاء فيه، وبهذا فضل والده وأخاه الذين سبقاه إلى التفكير في القضية العربية، والخروج على الدولة العثمانية من قبل أن يُتَاح لهما القيام بإعلان الثورة، ويفتح لها باب الرجاء في سيادة الأمة. ليس من مذهب المنار تدوين وقائع التاريخ، ولا من مشربه سرد المناقب والمثالب، وإنما صاحبه قرآني يبحث عن العبرة، ويجليها في قالب الحكمة والموعظة الحسنة، وقد علم الذين تتبعوا ما كتبت في المسألة العربية، والواقفون على الكثير من عملي فيها بالمشاركة أو بالمعاشرة، أنني اشتغلت مع هؤلاء الثلاثة فيها اشتغال تجربة لهم؛ لوجودهم في الميدان، لا اشتغال واثق بهم، وإن التجارب أسفرت عن خيبة الأمل في كل منهم، واعتقاد أنهم مستسلمون للسياسة البريطانية، التي أعتقد أنها موجهة إلى القضاء الأبدي على الأمة العربية، وعلى تجديد مجد الإسلام أيضًا. ثم تجدد لي أمل في إمكان الانتفاع بدهاء الملك فيصل وحنكته ومركزه العظيم في إنعاش سورية التي تتردى في مهاوي الهلكة بشدة شنآن فرنسة للإسلام وسياستها المستعجلة المتهورة في ذلك، التي لا تقبل هوادة، ولا يتخلل حملاتها العنيفة فترة ولا هدنة، ولا تخفف شدتها رأفة ولا رحمة. تجدد عندي هذا الأمل في العام الماضي وأظهرته في هذه العام، فعلمت أنه جدير بأن يكون رجاء لا تمنيًا، وأن تكون دائرته أوسع من سورية، وأن مودة فيصل للدولة البريطانية لا تحول دون الانتفاع به فيما ينأى بخطرها الذي يخشاه العرب قليلا، أو لا يزيده دنوًّا؛ إذ بلغني أنه قد اشتد شغفه بفكره الوحدة العربية، وأنه يدرس كل ما يزيده علمًا بالاستعداد لها ما كتب بلغتها وباللغات الغربية، كتاريخ الوحدة الجرمانية والوحدة الطليانية. ثم علمت علمًا صحيحًا أنه موطن نفسه على السعي لسورية وفلسطين معًا، متوسلاً بنفوذه عند الدولة الإنكليزية، وأنه يعتقد أن وجود الملك عبد العزيز بن السعود في الحجاز رحمة للعرب والجزيرة، وأنه لا يوجد في الأمة العربية من يقدر على حفظ الأمن فيها ودرء الفتن وتقدم العمران مثله أو غيره، وأنه يجب الاتفاق والتعاون معه، على أنه كان يرى مع هذا أنه لا يرجى أن يكون لهذا الرجل الفذ الوحيد في مواهبه، من يستطيع من ولده أو غيرهم أن يضطلع بما اضطلع هو به، وقصارى هذه الآراء والأفكار أنه يجب أن يكون هو قطب الرحى للأمة العربية والمؤسس لوحدتها. الأمير عبد الله: ولعل أخاه الأمير عبد الله لو ابتلي بمثل ما مارسه من خطوب، وتدافعه ما أشرنا إليه من طفو ورسوب، لمحصت ما في صدره من الشغف بلقب الملك وعظمته الباطلة، ولو كان هبة تستخدمه بها دولة العدو الغاصبة، وسكنت بعض ما قلبه على ابن السعود من الضغن والحفيظة ولكن كان من سوء حظه وحظ أمته أنه تَأَمَّرَ على بدوٍ جاهلين، وإن كانوا مسلحين، وحَضَرٍ أكثرُهُمْ متملقون مسترزقون: والمجاهدون منهم قليلون مستضعفون، فلم يلق منهم ما لقي فيصل في الشام ثم في العراق من معارضة ومناهضة، ومشادة ومحادة، كانت خيرًا له من المواتاة والموادة، وإنني أبسط ما بلوته بنفسي من خير الأخوين من مبتدئه إلى منتهاه بالإيجاز: عرفت الشريف عبد الله في الآستانة سنة ١٣٢٨ (الموافقة سنة ١٩١٠م) وكان عبيد الله أفندي مبعوث أيدين وصاحب جريدة العرب الخادعة يطعن في والده الشريف حسين أمير مكة المكرمة طعنًا مسمومًا نافذًا، ولم يدافع عنه أحد من أبناء الأمة العربية، وكان هذا قد أطراني في جريدته إطراء ظاهرًا وسماني مجددًا، ثم لما شعر بنجاح مشروع الدعوى والإرشاد الذي دعت إليه الدولة الاتحادية قلب لي ظهر المِجَنّ، واتهمني بالتفريق بين الترك والعرب، فقامت عليه قيامة الجرائد العربية في سورية ومصر والمهاجر السورية، وفي الآستانة نفسها أيضًا، فافترصت هذا وقلت للشريف عبد الله: إنني أريد أن أُسِرَّ إليك حديثًا، فهش لي وأقبل عليَّ، فقلت له: ألا ترى أن هذا التركي المتعصب البذيء يطعن في والدك وهو سيد العرب فلا يلقمه أحد منهم حجرًا، حتى إذا ما قال فيَّ كلمة طعن، مع كلام كثير في الثناء والمدح، فُوِّقَتْ إليه السهام، وسُدِّدَتْ إلى صدره أسنة الأقلام، وأنا دون والدك مقامًا ومنصبًا، فلماذا؟ أليس إخواني العرب يرون أنني أُعْنَى بقومهم، وأبذل بعض الخدمة لهم؟ وأنهم لا يرون لأحد منكم لقومه عملاً، ولا يسمعون منكم في مصلحتهم قولاً؟ قال نعم: إني لأشكر لك مصارحتي بهذه الحرية، وبهذا فتح باب الكلام بينا في المسألة العربية، ودعاني إلى طعامه في دارهم في محلة بيوكدره على البوسفور وامتدت المودة. ولما زار مصر سنة ١٣٣٠ ونزل ضيفًا على الخديو في قصر عابدين هو وأخوه فيصل زرته وأطلعته على قانون (الجامعة العربية) فابتهج به ورغب الانتظام في سلك الجمعية، فحلفته يمينها الغليظة الغموسي، وأخذت عليه ميثاقها الشديد، وأطلعني على ما بعثته به حكومة الدولة إلى والده، وهو قتال السيد محمد الإدريسي، فكاشفته برأيي في ضرره فوافقني عليه، وعاهدني على بذل جهده، في إقناع والده به. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))