أول خدمة يخدم بها الطفل بعد فصله من أمه - غسله ودهنه وإلباسه ما يقي بدنه من البرد وإرضاعه، وأما الغسل فينبغي أن يكون بماء فاتر مساوٍ لحرارة البدن أو قريب منها، وأن لا تطول مدته، وأن يلف جسم الطفل كله بمنشقة ويدلك دلكًا لطيفًا بغاية الرفق، ثم يدهن بزيت الزيتون ويلبَس ثيابًا واسعة لا تضغط جسمه، ويحسن أن تكون في أيام الشتاء دافئة ولو بالعرض على النار، وأن تكون جافة؛ فالثياب الرطبة تضر الأطفال بل والكبار أيضًا، وبلغنا أن الإفرنج يمسحون في كل يوم أجساد أطفالهم بماء فاتر وماء بارد على التعاقب مرة من هذا ومرة من ذاك ويقولون: إن تعويد الطفل على هذا يمنع سرعة تأثره بالتغيرات الجوية كالانتقال الفجائي من الحرارة إلى البرودة ومن الجفاف إلى الرطوبة وبالعكس، وقريب من هذا ما يؤثر في كتب الأدب العربية من أن رجلاً رأى أعرابية تغطس طفلها في النهر في أيام الشتاء فسألها عن السبب في ذلك فقالت: أريد أن أجعله كله وجهًا. تعني أن الوجه إنما لا يضره البرد لما اعتيد من تعريضه له من الصغر فإذا عُود الجسم كله على برد الماء والهواء يصير يحتمله كما يحتمله الوجه. ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه؛ فالذين اعتادوا الترف والتنعم والاحتراس من البرد وتوارثوا ذلك خلفاً عن سلف إذا عرض أحدهم طفله للبرد الشديد وحاول جعله وجهًا بالتعويد يوشك أن لا يتم له ما يريد فيولد الماء البارد في ولده الالتهابات التي ربما تنتهي بالممات! وقياس مترفي الحضر على الأعراب قياس مع الفارق. أما المسح بالماء الفاتر فالبارد بإسفنجة في نحو بضع دقائق ثم تنشيف البدن ودلكه، فلعله ينفع ولا يضر حتى المترفين أصحاب الأجسام النحيفة الضاوية، ولا بأس أن يغطس الطفل في الماء البارد فالسخن على التوالي والتعاقب بعد أن يكون قد اعتاد جسمه على ذلك المسح، وبعد طور الرضاعة يكتفى بمسح الوجه والرقبة والصدر بما ذكر؛ فهو يغني عن مسح البدن كله أو تغطيسه. أكثر الأمراض التي تفتك الأطفال في سن الطفولية تكون من التغيرات الجوية؛ لأن الجسم فيه يكون سريع التأثر لا يقوى على الحر والبرد والرطوبة فضلاً عن مقاومة مكروبات الأمراض العفنة الوبائية كالنزلة الوافدة أو الصدرية. وهذا العمل يقولون: إنه يقي من هذه النزلة ومن التهابات الرئتين والشعب وأنواع الزكام وسائر الأمراض الصدرية والمتولدة من التغيرات الجوية حتى قالوا: إنه يُذهب بالاستعداد للسل. وحسبك هذا. أما الرضاعة فيراعى فيها أمور، أهمها: أن ترضع الطفل أمه إن لم يكن مانع من نحو مرض معدٍ أو هزال وضعف يضر المرضع أو الرضيع، فإن أرضعته امرأة أخرى فينبغي أن تكون في سن الشباب سليمة من الأمراض المعدية جيدة الصحة حسنة الخُلق والخَلق. وحسن الأخلاق من أهم شروط المرضع؛ لأن اللبن كما يؤثر في انتقال المرض بالوراثة يؤثر في الأخلاق وإذا قلنا: إنه لا يؤثر في الأخلاق. فمعاملة الفاسدة الأخلاق للطفل تكون غير منتظمة وقد قلنا من قبل إن المعاملة التي تعامل بها الأطفال يكون لها تأثير كبير في عاداتهم وسجاياهم. يحكى أن إمام الحرمين أرضعته مرة امرأة كافرة فاسدة الأخلاق فعلم والده بذلك فأقاءه (جعله يقيء) ما رضعه، ثم إن الإمام بعدما كبر وصار علاّمة عصره كان إذا عسر عليه حلّ مشكلة علمية أو بدرت منه بادرة غير مُرضية قال: إن هذا من آثار تلك الرضعة. وقد ورد في الحديث الشريف: (لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء؛ فإن اللبن يعدي) ويحسن أن يكون سن ولد المرضع مساويًا لسن الرضيع، وأن يكون قد سبق لها إرضاع اختبرت به التربية. وإذا لم يتيسر وجود مرضع بهذه الصفات فالأولى أن يغذَّى الولد بلبن الحيوانات كالمعز والبقر بواسطة الآلة المعروفة؛ فإنه أسلم، ولكن لبن الأنعام أغلظ من لبن البشر وربما اشتمل على مكروبات مرضية، فينبغي أن يضاف إليه قليل من الماء والسكر بحسب تقدير الطبيب، وأن يسخن بحيث تموت مكروباته، ويكفي في تسخينه حرارة ٧٠ درجة بميزان سنتغراد. واللبن المغليّ أعسر هضمًا فلا يغلي لبن الإرضاع غليانًا. ويجب أن تكون الآلة جديدة صالحة فإن كانت مما استعمل في الإرضاع يجب تنظيفها وتطهيرها مما عساه يكون بها من التعفن ومكروبات الأمراض. هذا ما يراعَى في المرضع واللبن بالاختصار، أما الإرضاع نفسه فينبغي أن يكون موقتًا بأوقات منتظمة لا يقل الزمن بين الرضعة والأخرى عن ساعتين في أول الأمر، ثم تزيد المدة بينهما تدريجًا؛ لأن الطفل يأخذ في أول الأمر قليلاً من اللبن وكلما كبر زاد مقدار ما يرضعه،والزيادة تقتضي زيادة المدة لأجل الهضم، وإن كانت القوة تزيد معها أيضًا. وأكثر النساء لجهلهن لا يقصرن الإرضاع على التغذية بل يجعلنه وسيلة للترضية، فكلما بكى الطفل يلقمنه الثدي، وربما يتوهمن أنه لا يبكي إلا لطلب الرضاع أو أن كل بكاء يسكته الرضاع فهو لأجله، وإلا فهو عن مرض. والصواب أن الطفل يبكي لأقل سبب كابتلال لفائفه وتألم بدنه ولو من عقدة خيط في ثوبه. وإذا حاول الطفل الحركة التي تقتضيها طبيعته فحال دون ذلك شد القماط عليه يبكي، فليتجنب الإرضاع في غير وقته لأجل البكاء، وليعلم أن أكثر قيء الأطفال من الإرضاع قبل الهضم، وناهيك به بلاءً على الأمهات والأطفال جميعًا. أما مدة الرضاع فأكملها حولان تامان وأقلها واحد وعشرون شهرًا؛ أخذ ذلك العلماء من قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: ٢٣٣) ، وقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: ١٥) وذلك بطرح مدة الحمل الغالبة (٩ أشهر) من مدة الحمل والفصال (أي: الفطام) معًا، كما استنبطوا من الآيتين أن أقل مدة لحملٍ ستة أشهر، وسيأتي الكلام على إطعام الأطفال وتقريمهم إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))