(القضاء والقدر) م (٤٠) شأن هذه العقيدة هذه المسألة من توابع البحث في العلم والإرادة وهي الفتنة التي ابتليت بها الأمم، فوقعوا في بحار الحيرة تدافعهم أمواج الشكوك، ويتلقاهم آذيُّ الشبهات، (أي: مَوْجُهَا) حتى غرق فيها أكثر الخائضين ونجا الأقلون , ومن عجيب أمرها أن العامة أعلم بها من أكثر الخاصة , وأن الأميين أقرب إلى اليقين بها من الكاتبين. وإن شئت فقل: إن الجهل بحقيقتها تابع لسعة العلم بمباحثها فكلما زاد الإنسان نظرًا فيها؛ زاد عماية عنها لأن الخفاء كما يكون من شدة البعد يكون أيضًا من شدة القرب ألا ترى أنك إذا وضعت على عينيك صحيفة لا تبصر خطها ولا تراه ولا تقدر على قراءته وإننا علمنا بالمدارسة والمذاكرة والمناقشة والمناظرة أن ما يعتقده العلماء فيها هو عين ما يعتقده الجهلاء , ويمتاز الجهلاء بأن نفس اعتقادهم لا زلزال فيه ولا اضطراب , ولا شبهة تغشاه ولا ارتياب , وأما العلماء فبعد قراءة الكتب والرسائل وتحرير الحجج والدلائل يقول بعضهم: إن هذه المسألة يجب أن تؤخذ هكذا بالتسليم أي يجب الرجوع فيها إلى ما عليه العامة , ومنهم من يقول: إنها لا تنحل إلاّ بكشف الحجاب والارتفاع إلى مقام العارفين بالله تعالى. والمنقول عن أهل هذا المقام المشهود لهم بالولاية والكشف أن منهم من صرح بأنها لا تنحل إلا في الآخرة. هذا مجمل أمرها عند المسلمين وما كانت الحيرة فيها عند غيرهم أقل منها عندهم. م (٤١) سبب الخلاف والنهي عن الخوض فيها لماذا كان شأن هذه العقيدة مخالفًا لسائر العقيدة حتى إن الجاهل أحسن حالاً فيها من العالم؟ ولماذا كانت سعة العلم فيها من أسباب الجهل بها؟ الجواب عن هذين السؤالين واحد وهو أنها في نفسها بديهية عوملت معاملة النظريات , والبديهي كلما زاد البحث فيه؛ بعد عن الإدراك فهو كالشيء بين يديك تتوهمه بعيدًا فتذهب عنه إلى حيث يقودك الوهم فكلما أوغلت في السير؛ زدت في البعد وصار العناء في عودتك إليه شديدًا. وإقناعك بأنه وراءك أمرًا بعيدًا , ومن لم يسر هذا السير يكفيه استلفات النظر ورجع البصر , وهذا هو مرادنا بالجاهل بهذه المسألة وما أثقلوها به من النظريات والتدقيقات الفلسفية , ولا تفهم منه أن العلم الحقيقي بها محصور في الجاهلين , فلقد اهتدى إليه كثيرون من العلماء والعارفين , وكان عليه جماهير الصحابة والتابعين. حتى حدثت بدعة الكلام والخوض في القدر على ما كان عليه الأمم الأخرى وانفتح على الأمة باب المجادلات النظرية التي كان من أمرها ما قصصنا عليك بعضه , وهذا هو السر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في القدر ونهي الصحابة وأكابر الأئمة عنه أيضًا. روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرّ وجهه كأنما نُقئ في وجنيته حب الرمان , فقال: (أبهذا أمرتكم أم بهذا أرسلت أليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر. عزمت عليكم عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه) أي أقسمت عليكم أو أوجبت عليكم ذلك. وروى ابن ماجه نحوه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وفي حديث الخطيب وابن عدي (عزمت على أن لا تتكلموا في القدر) زاد الثاني: (ولا يتكلم في القدر إلا شرار أمتي في آخر الزمان) وعند الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك نحوه , ولا حاجة مع هذا لسرد الآثار في النهي عن الخوض في القدر. م (٤٢) ماهية الخلاف والمختلفون الخائضون في المسألة فريقان: فريق حاول الوقوف على سرّ الخلق والإيجاد وكيفية تسخير الله تعالى قدرة الإنسان وإرادته اللتين وهبهما له لإحداث أفعاله فإنهم استشكلوا وجود خليفة في الأرض يعمل بقدرة تنبعث عن إرادة تسترشد بعلم بحيث يكون مختارًا في عمله له مشيئة في العمل والترك ولكنه مع هذا غير خارج عن مشيئة الله تعالى وعلمه كأنهم رأوا أن هذا النوع من الخلق محال لا يدين لقدرة الله تعالى فاستنكروه أو كأنهم زعموا أنهم اكتنهوا سر الخلق في سائر الأشياء ولذلك لم يشتبهوا في النبات من نجم وشجر كيف يأخذ كلٌّ من معادن الأرض وموادها ما يحتاج إليه لنموه وحفظ نوعه على نسب كيماوية مخصوصة يعجز أعظم الكيماويين عن تقديرها وتأليفها وإعطائها للنبات على الوجه الذي تأخذه , ولو ثبت لهم أن الله أعطى النبات شعورًا وقصدًا بهذا العمل؛ لوقعوا في الحيرة وإن كان أدعى إلى نفي الحيرة. ثم انقسم هذا الفريق إلى خصمين اختصموا في ربهم وفي أنفسهم كان جل خصامهم في الألفاظ يقول بعضهم: إن استقلال الإنسان في عمله يقتضي أنه خالق له وهو ذهاب إلى تعدد الآلهة , ويقول الآخرون: إن إنكار اختيار الإنسان وسلب الإرادة عنه في عمله هروبًا من ألفاظ تستنبط بالاستلزام إنكار للبداهة وسلب للوجدان , ولا يصح مع نفيها دليل ولا برهان. وفيه تخطئة للشرائع وتكذيب للوحي , وقول بأن التكليف عبث والجزاء على الأعمال لغو إذا لم نقل ظلم وأمثال ذلك مما لا نطيل به للنهي عنه من الشارع ولأنه مثار الشبهة ومولد الحيرة. وفريق آخر لم يبال ببداهة ولا وجدان , ولم يلتفت إلى حجة عقلية ولا برهان ولم يتأمل حكمة التكليف , ولم ينظر في أكثر نصوص القرآن الشريف , ولم يتدبر غاية الأمر , ولم يتبصر في عاقبته من النفع والضر؛ فبث في الأذهان حكمًا بل نفث في الأرواح سمًّا. حيث زعم أن الإنسان مجبور في عمله. مغلوب على أمره لا أثر لعلمه في إرادته , ولا لإرادته في قدرته , ولا لقدرته في عمله , وغَشُّوا الناس بأنهم يبالغون في تعظيم الله - تعالى - وتنزيهه وتوحيده وما هو إلا إبطال دينه ونسخ شريعته وإنكار الأسباب التي أقام بها نظام الكون , واستدلوا على بدعتهم بآيات وأحاديث تمثل إحاطة علم الله تعالى ونفاذ مشيئته على أنها مع عدم دلالتها على المقصود يقابلها من الآيات والأحاديث المثبتة للأسباب وعمل العباد أضعاف أضعافها حتى قال العلامة ابن القيم: إن هذه النصوص تزيد على عشرة آلاف قال: (ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة) فصح لنا أن نتلو على هؤلاء الجبرية {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: ٨٥) . أولئك هم الجبرية الذين نزعوا من الأمة روح النشاط والعمل , ورموها في هاوية الخمول والكسل. حتى داستها بقية الأمم , وكادت تبتلعها بلاليع العدم. وأصابها الخزي في الحياة الدنيا. وسيرى المفرطون صدق الوعيد في الأخرى. وما عمت هذه الفتنة في المتأخرين بعد انقراض الذين ابتدعوها إلا بمساعدة خطباء الفتنة ووعاظ الجهل وسيرة تلك الفرقة التي جعلت البطالة دينًا , واسم الدين تجارة تدر عليها أخلاف الربح وتفجّر لها ينابيع الثروة وترفع لها أعلام الجاه والشرف. أما حقيقة المسألة وما يجب اعتقاده فيها، فسنذكره في الجزء الآتي لأن هذا الجزء ضاق عنه. ((يتبع بمقال تالٍ))