للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التقريظ
(الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية)
رسالة لعلي بك أبي الفتوح من علماء القوانين العاملين بها في نيابة محكمة
الاستئناف بمصر ابتدأها بقوله: (لا يظن كثير من الناس حتى من المسلمين أنفسهم
أن المبادئ المقررة في الشريعة الغراء لا توافق هذا الزمان الذي بلغ فيه الإنسان من
التمدن والترقي درجة رفيعة، ويتوهمون أن الأحكام والروابط الموجودة في القوانين
الحديثة الوضعية لا مقابل لها في الأصول الإسلامية، وإنما هي بمثابة الاختراعات
المادية الجديدة التي أنتجها فكر علماء الغرب لم يسبقهم بها أحد، ولكن الباحث في
الفقه الإسلامي ولو قليلاً لا يلبث أن يغيّر هذا الظن، ويتحقق من أن أسلافنا وصلوا
في الرفاهية وتقرير المبادئ العمرانية والاجتماعية والقضائية شأوًا قلَّما يجاريهم فيه
أحد إلا أن صعوبة كتب المتأخرين وكيفية تأليفها، وما هي عليه من التعقيد قد
أوصدت الباب في وجه من يريد الوقوف على حقيقة الشريعة الغراء غير المنقطعين
لدراستها، ولذلك فإني أشير على من يسلك هذا الطريق أن يقصد التآليف لقديمة؛
لأنها أسهل موردًا وأغزر مادة مع خلوها من التعقيد وبعدها عن المشاغبات اللفظية،
وليترك هذه الكتب الحديثة للمنقطعين لفهمها بدون ملل ولا حساب للوقت.
(أذكر هذا على إثر مطالعتي لكتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة
١٨٢ هجرية وقد ألف هذا السفر الجليل برسم أمير المؤمنين هارون الرشيد، وفيه من
النصائح والأحكام ما يجدر بأمراء المسلمين اتباعه والعمل به. عثرت في هذا
المؤلف الصغير الحجم على دُرَر كثيرة لا أبخل بنظمها في هذه المقالة حتى يرى
المسلمون وخصوصًا المشتغلون منهم بالقوانين الإفرنجية أن المتقدم لم يترك شيئًا
للمتأخر، ولعلهم ينكبُّون على دراسة الشريعة والآداب؛ لأنهما لا ينافيان العصر
الحاضر ولا المدنية الحديثة إذا فُهِمَا حق الفهم ودُرِسَا بعقل وتمييز.
وما أجدر الحكومات الإسلامية باستنباط قوانينها وأحكامها من الشريعة مع
اختيار القول الأكثر مناسبة للزمان والمكان؛ لتكون هذه القوانين والأحكام أكبر
احترامًا في النفوس وأكثر موافقة لأخلاق وعوائد من وضعت لهم) اهـ.
ثم ذكر مسائل من كتاب الخراج وذكر ما ورد بمعناها في القوانين الحديثة
واستخرج العبر منها، وقال: إن أهل القوانين يظنون أن هذه المسائل من أوضاع
علماء أوربا المتأخرين؛ فهذه الرسالة مفيدة للمتعلمين في المدارس النظامية بمصر
وأوربا الذين لم يتلقوا شيئًا من علوم الشريعة فهم يغمطونها للجهل، وهذا الذي ذكره
قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير، ومفيدة لعلماء الأزهر، وأمثالهم من
المتعلمين على طريقتهم إن كانوا يقرءون ويعتبرون بما تبين لهم من سوء أثر هذه
الكتب المتأخرة التي اختاروها للتدريس، وأثر طريقة التعليم المتمعجة التي يتعسفون
فيها فإن ذلك أقوى أسباب بُعد المسلمين عن دينهم وشريعتهم.
أما تعجب الكاتب من جدارة الحكومات الإسلامية بأخذ قوانينها وأحكامها من
الشريعة الغراء، فيقال فيه: إنه لو كان في الدنيا حكومات إسلامية لما كان لهم
معدل عن الشريعة، وهل من معنى لكون الحكومة إسلامية إلا كون تشكيلها
وأحكامها على حسب الشريعة. وهل توصف بالإسلامية الحكومة الاستبدادية
الشخصية التي يُنْشئها أو يرثها رجل يفعل فيها ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يتقيد من
شريعة الإسلام بشيء إلا ما لا يرى بدًا منه في إخضاع العامة لسلطته أو ما يراه
موافقا لمصلحته؟ هذه مجلة الأحكام العدلية التي ألفتها لجنة من علماء المسلمين هي
أحسن من القانون المدني الفرنسي، وقد أمر السلطان العثماني بالعمل بها عندما
أسس نظام العدلية، وأبطل به الامتيازات الأجنبية، فلماذا لم تتبعه الحكومة
الخديوية، بل اختارت على أحكام الشريعة الإسلامية قانون الحكومة الفرنسوية.
كلنا يعرف السبب في ذلك وهو طمع إسماعيل باشا بالاستقلال والانفصال عن
الدولة بمساعدة أوربا التي يتزلف إليه باتباع مدنيتها فانظر ماذا حل به وباستقلاله.
والرسالة قد طبعت فنحث القراء على طلبها ومطالعتها.
***
(شرح التلخيص وطريق البلاغة وكتبها)
ساءت طرق التعليم في المدارس الإسلامية بعد ضعف العلم بضعف الأمة،
وساء اختيار المعلمين للكتب؛ فصارت العلوم في المسلمين رسومًا منها الدارس
ومنها المائل. ثم تلاشى من العلوم ما لا يقوم بالرسم؛ لأنه أشبه بالروح منه بالجسم.
كعلم البلاغة الذي هو ذوق معنوي، وشعور روحاني، تطبع بملكته النفس؛ ثم
يظهر أثره في الحس، وهذه الكتب التي اختارها المتأخرون هي شروح لمتون
جعلت مذكرة لأصول المسائل، ومهمات القواعد؛ فكانت مناقشات في ألفاظها،
واستنباطات في عباراتها، تقطع على من ابتلي بها طريق التحصيل. وتضله عن
سواء السبيل، وأشهر هذه المتون متن التلخيص للشيخ جلال الدين محمد بن عبد
الرحمن القزويني الخطيب بدمشق الذي اختصر به كتاب المفتاح لأبي يعقوب يوسف
السكاكي. وقد كان البلغاء المتقدمون الذين انتهت إليهم البلاغة والقدرة على البيان
يأتون البلاغة من بابها بما يزاولون من قراءة الكلام البليغ وتفهم معانيه، والتفطن
لأساليبه ومناحيه، حتى إذا ما أحس الإمام عبد القاهر بضعف عناية الناس بفهم
الكلام البليغ ورأى النفوس منصرفة إلى العناية بزخرف اللفظ، وإن عجز عن أداء
المعنى المراد، وقصر عن التأثير المطلوب فوضع كتابيه في (أسرار البلاغة) في
البيان، و (دلائل الإعجاز) في المعاني؛ ليصرف الناس عن المجاهل التي
تعسفوا فيها، ويهديهم إلى الطريق التي ضلوها؛ ولكن جاء بعده السكاكي فاقتبس
من كتابه القواعد والأحكام التي وضعها لإقناع الجاهلين، وتسهيل الغوص على الدرر
للغواصين، فجعل الفن رسمًا محدودًا، واصطلاحات نظرية حظ الذهن منها
بالتصور والتصوير، أكبر من حظ النفس بالتأثر والتأثير، ثم اختصر الخطيب
بتلخيصه ما كتبه السكاكي فكان كتابه أوغل في الرسم والاصطلاح؛ وأبعد عن
النفوذ إلى مواقع التأثر والتأثير من الأوراح، وجاء بعد ذلك سعد الدين التفتازاني
الذي صرف كل ذكائه في ممارسة العلوم النظرية من المنطق والجدل والمناظرة
والفلسفة والكلام؛ فشرح (التلخيص) على طريقته في العلوم النظرية، فخرج
بذلك علم البلاغة عن موضوعه بالكلية، وابتليت كتب السعد بأناس وضعوا عليها
حواشي للبحث في ألفاظها وأساليبها دون البحث في أساليب الكلام البليغ المأثور
فصارت هذه الكتب عقبات أو عواثير في طريق البلاغة بل صرفت الناس عنها؛
وحالت بينهم وبينها.
مرت قرون على المسلمين وهم يتسكعون في ليل من الجهل بهيم حتى إذا
الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هدى الله أناسًا إلى أن يقبسوا اللغة من
مقبسها، ويجنوا البلاغة من مغرسها. وما عتم أن استبان للأزهريين المقصد،
وظهر فيهم الإمام المرشد، ثم طبع الكتابان الجليلان، (أسرار البلاغة ودلائل
الإعجاز) وقرأهما في الأزهر الأستاذ الإمام، فحاول تلامذته الجمع بين العلم
والعمل، وظهر فيهم من فاتوا شيوخهم الآخرين في بلاغة اللسان والقلم، فكتبوا
المقالات والرسائل الأدبية، وتعلقت آمال بعضهم بتأليف الكتب العلمية، وهذا كتاب
شرح التلخيص لواحد منهم وهو الشيخ عبد الرحمن البرقوقي.
جرى هذا الشارح في شرحه على أن يبين المراد من الجملة ويدعمها بشيء
مما ينصر جند المعاني على جند المباحث اللفظية التي اعتادها أهل الأزهر مستمدًا
ذلك من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز الذين هما عمدته وعتاده، وفي هذا من جذب
طلاب الأزهر الذين لم يحضروا الكتابين على الأستاذ الإمام إلى جانب البلاغة
الحقيقية ما يرجى معها أن يكون الشرح سلمًا لهم يرتقون به إلى مطالعة الكتابين،
ويهتدون به إلى خير النجدين، وهو ما يطبع البلاغة في النفس، ويظهر أثرها في
عالم الحس، على أنه يكون عونًا لهم على فهم شرح السعد الذي قضي عليهم بتلقيه،
وأداء الامتحان فيه. ومما ينتقد على الشارح أن يأخذ الكلام من أحد الكتابين
(أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) فيسنده إلى نفسه وإن كان طويلاً لا تصرف له فيه
وتارة يتصرف فيه تصرفًا يسيرًا لا يكون عذرًا له أن يترك عَزْوه إلى أبي عذرة
كما فعل بالفصل الذي عقده عبد القاهر في أسرار البلاغة لبيان مواقع التمثيل،
وتأثيره في النفوس؛ فإنه أخذ صفحات من صدور الفصل ووضعها في أول باب
التشبيه متصرفًا في جمل من أولها نقلها من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع،
كأن حق المصنف فيها مضى وانقضى وصارت في مستقبلها إلى مالك آخر.
قال في ص ٢٢٧:
(اعلم أن التشبيه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وأن تعقيب المعاني به
لاسيما قسم التمثيل منه يكسبها [١] أبهة ويكسبها مَنقبة ويرفع من أقدارها، ويشب من
نارها، ويضاعف من قواها في تحريك النفوس لها ويدعو القلوب إليها، ويستثير لها
من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، ويقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا، فإن
كان مدحًا كان أبهى وأفخم) ... إلخ، ما لا تصرف فيه وعبارة أسرار البلاغة هكذا
(ص٨٦) :
(واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل في أعقاب المعاني أو برزت
هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أبهة؛
وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك
النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا؛
وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا؛ فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم) ... إلخ
وما لا تصرف فيه.
وبعد أن نقل بالحرف مواقع التمثيل وتأثيره في كل موقع، وأنشأ ينقل الأمثلة
تصرف فيها وفي الكلام عليها بعض التصرف، وكان غنيًّا عن ذلك كله.
وقد وضع للشرح مقدمة تكلم فيها عن الفصاحة والبلاغة، وعن المؤلفين في
فن البيان، وألم بما يشترط له من علم العربية، ولكن هذه المقدمة كلها أو جُلَّها
مأخوذة من كلام عبد القاهر وغيره، وما كان ينبغي للمؤلف أن يتجاوز في مقدمة
كتاب له أخذ الجملة والجملتين على سبيل التضمين. وأكثر ما أخذه قد سلخه بلفظه
ومعناه فإنك تجد قوله (في ص ٧) : (أما النحو فهو معيار) إلى جمل بعده كله
من (ص ٢٣ و ٢٤) من (دلائل الإعجاز) ، ولا نذكر ما قاله في ص ٨ من
التمثيل بالآية، وكونه من ص ٢٦ من دلائل الإعجاز أيضًا؛ فإنه ليس من روائع
الكلام التي تملك لقائلها.
ولكن قوله في ص١٣ في عبد القاهر (وأرهف عليهم لسانًا أخرس الشقاشق،
وأعدم نطق الناطق , وأسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا)
مأخوذ من قول عبد القاهر في ص ٧ من المدخل الذي هو مقدمة دلائل الإعجاز
ولكن فيه شبهة عزو؛ لأنه يحكي عن رأي عبد القاهر.
وقوله في آخر ص ١٥ ونحو ثلثي ص ١٦ من دلائل الإعجاز وقوله عقبها:
(وزبدة القول: إلى نحو ثلث ص ١٧ مأخوذ من ص ٣٤ و ٣٥ من دلائل الإعجاز
وما بعدها مأخوذ من ص ٣٧ منه. والكلام على الآية في ص ١٨ مأخوذ من ص ٣٦
من دلائل الإعجاز. والكلام على بيت ابن المعتز في ص ١٩ مأخوذ من ٤٧ منه) .
وقوله في ص ٧: (لكن لا بد للمرء قبل ذلك أن يحظى برس من اللغة
ويصيب ذروا من النحو) فهو مأخوذ من فاتحة أساس البلاغة للزمخشري بتصرف
وقوله في ص ٣ (لا يقوم بفصاحته لسان ولا يطلع فجه إنسان) هو من كلام
الشريف الرضي في وصف كلام لأمير المؤمنين لما بويع بالمدينة. ومثله قوله في
الصفحة أيضًا (وقبع في كسر بيته لا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا حسه) فهو من
فاتحة نهج البلاغة للشريف، وقوله فيها قبل العبارتين: (كتب في هذا الفن قبل
الإمام عبد القاهر) إلخ مأخوذ من مقدمتنا لأسرار البلاغة، وكذلك قوله في ص ٤
(وهو وإن فاق عبد القاهر في التقسيم والتبويب) إلخ ما قاله في السكاكي فهو منها
بالمعنى لا بالنص.
هذا وإننا نرى أن هذا الشرح مفيد لطلاب علم البلاغة لا سيما الأزهريين منهم
لا يجدون ما يغنيهم عنه، ولا يحسبن أحد أن ذلك الأخذ الذي نبهنا عليه يقلل من
فائدته أو يدل على ضعف مؤلفه. كلا إن الشيخ عبد الرحمن من أحسن نابتة الأزهر
تحصيلاً وفهمًا وكتابة، يدل على ذلك حسن تأليفه لما أخذه وربط بعضه
ببعض، وحسبه أن يختار الجيد النافع وإنما كان من الكمال في العمل، ومن
الأمانة في العلم أن يأخذ المعاني ويستقل بالعبارة حتى إذا احتاج أخذ شيء بنصه
عزاه إلى صاحبه. ولكن لو كانت العبارة كلها له لكان الكتاب أقل فائدة؛ إذ لم
يصل إلى درجة عبد القاهر في التحرير والتحبير. ولعل الذي سهَّل عليه ترك
العزو هو اعتقاده بأن أكثر المؤلفين المتأخرين ليس لهم إلا جمع الأقوال وتنسيقها فإذا
كان منهم من جمع المشاغبات الضارة فهو قد جمع الفرائد النافعة. والكتاب
مطبوع طبعًا جميلاً، وقد جعل ثمنه أربعة قروش صحيحة، وهي قليلة جدًّا بالإضافة
إلى ما أنفق عليه بصرف النظر عما يستفاد منه.