للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدولة العلية واليمن

نشر كاتب إنكليزي شهد حصار صنعاء في العام الماضي وعاد في هذه الأيام
إلى إنكلترة مقالة في التيمس وصف فيها ذلك الحصار وحالة البلاد في هذا الأوان ,
ترجمت جريدة المقطم خلاصتها، فرأينا أن ننشرها لتكون تتمة لما نشرناه من قبل
في مسألة اليمن قال الكاتب: (عقدت الحكومة العثمانية صلحًا غير مجيد مع الإمام
يحيى بعد ما رَشَتْ زعماء الثورة بالأموال الطائلة ووعدتهم بالإصلاح، فنال الإمام
بذلك أكثر مما كان يطمع فيه، وثبت في مركزه حاكمًا على قبائل الزيدية ولم تتغير
الحال في ما سوى ذلك عما كانت عليه قبل بدء القتال , فالأتراك يملكون صنعاء
وقد استرجعوا معظم المراكز التي كانوا يحتلونها في الماضي، والإمام يملك شهارة
وسائر المعاقل التي كانت له , وقد أطلق الإمام أخيرًا سراح خمسمائة أسير من
الجنود ولكنه لم يُعِدْ المدافع التي غنمها في هذه الثورة أو في ثوراته السابقة ,
واضطرت الحكومة أن ترسل خمسين ألف عسكري بقيادة عزت باشا وهو من أكبر
قوادها للحصول على النتائج التي مر ذكرها.
ولا يستطيع الواقف على حقيقة أحوال اليمن أن يقابل الأنباء التي وردت من
الآستانة عن استعداد الإمام لتقديم مئة ألف مقاتل ليحاربوا الإيطاليين في طرابلس
الغرب إلا بالابتسام. ذلك؛ لأن سلطة الإمام اسمية أكثر مما هي فعلية؛ ولأن
الحكومة العثمانية تعجز عن نقل هؤلاء المتطوعين إلى ساحة الحرب. فالإمام إذًا
في حِلّ من ذلك ولا تثريب عليه إذا لم يبر بوعده.
قد أتيح لي أن أكون في صنعاء لما كان الإمام محاصرًا لها وظل الحصار من
شهر يناير إلى أواخر شهر إبريل من العام الماضي. وكان عدد الحاصرين يتراوح
بين عشرة آلاف وخمسين ألف مقاتل. ولو هجم الثوار على المدينة بغتة لتيسر لهم
فتحها عنوة؛ لأن حاميتها - وكانت مؤلفةً من خمسة آلاف من المشاة وبعض
الفرسان ونحو ٣٠ مدفعًا - لم يكن في استطاعتها الدفاع عن السور الذي يبلغ
محيطه اثني عشر كيلو مترًا. ويقال: إن الإمام كان عازمًا على إتيان ذلك وأعد
السلالم اللازمة لتسلق الأسوار ولكن المقربين إليه ثنوه عن عزمه.
وقد أنفق الفريقان مقدارًا عظيمًا من الذخائر سدى، ولم يحتدم وطيس القتال
إلا لما دنا عزت باشا بجيشه من صنعاء فكانت الحامية تخرج من المدينة حينئذ
وتهاجم الثوار فتنشب بينهما معارك شديدة يخسر فيها الفريقان خسارة جسيمة.
وكان الثوار مسلحين ببنادق موزر من عيار ٧٤ وغني عن البيان أن هذه
البنادق شديدة الفتك، ولقد كانت الذخائر متوفرة عندهم وإلا ما استطاعوا أن يطلقوا
على الأسوار نارًا حامية أكثر من ثلاثة أشهر، ومما يستغرب في هذا الأمر أن
البنادق والذخائر في شبه جزيرة العرب أرخص منها في أوروبا، ولم يستعمل
الثوار المدافع العديدة التي غنموها من الأتراك كثيرًا؛ لأنه ليس بينهم من يحسن
الرماية بها؟ ؛ ولأن معظم الذين تصيبهم قنابلها داخل المدينة هم من إخوانهم
وأتباعهم.
وحدث أنه لما عصفت ريح الثورة خرج بعض الجنود المحليين من العرب
من المدينة وانضموا إلى الثوار فشدد ولاة الأمور على من تخلف من هؤلاء الجنود
واعتقلوهم هم وسائر الذين اشتبهوا فيهم من الأهالي إلى أن انتهى الحصار، ولم
يشددوا إلا في هذا الأمر وتجاوزوا عن سيئة الذين سعوا في نسف الثكنات، ويأوَّل
تسامحهم هذا بخوفهم من قيام العرب عليهم إذا سقطت صنعاء وانتقامهم منهم
وحرصهم على حياة الجنود الكثيرين الذين أسرهم العرب.
وزحف عزت باشا بجيشه من الحديدة على داخلية البلاد من غير أن يلاقي
المقاومة التي كان يتوقعها، نعم إنه قاتل كثيرًا في طريقه، ولكن الثوار لم يدافعوا
عن معقل من معاقلهم العديدة بين الحديدة وصنعاء مدافعة تستحق الذكر، وقد دلت
النتائج على أن تقاعدهم عن مقاومة الجيش كانت حكمة من الإمام وليس جبنًا منه
ومن رجاله، ولما بلغ الجيش صنعاء رأى أنه لا يستطيع أن يخطو إلى ما وراءها،
ولم تكن خسارته في الحرب عظيمة ولكن الأوبئة فتكت به فتكًا ذريعًا، وزد على
ذلك أنه لقي في طريقه مشاقَّ وصعابًا وأنفق مالاً كثيرًا في الانتقال من مكان إلى
مكان، وشاع بعد رفع الحصار أن الجيش كان ناويًا التقدم، إلى شهارة، ولكن
عرب السواحل استأنفوا القتال الذي انتهى بواقعة جيزان المشئومة فحال ذلك دون
إخراج هذا العزم واضطر ولاة الأمور أن يسرعوا بمفاوضة مشايخ عرب الجبال
ليشتروا خضوعهم وولاءهم بالمال.
ويستدل من هذه النتائج السلبية أن الحكومة العثمانية لا تستطيع إخضاع اليمن
إخضاعًا تامًّا وأن الأسباب التي تمنع الإدريسي من الاتحاد مع الإمام , وهي
اختلافات دينية - تمنعه أيضًا من الاتفاق مع الحكومة، هذا وإن منع تكرر الثورات
في تلك البلاد ضرب من المحال إلا إذا نزع السلاح من الأهالي ولكن الحكومة بدلاً
من أن تفعل ذلك مكنت العرب من غنم عدد عظيم من البنادق وبعض المدافع من
جيشها وهم يرفضون الآن ما تعرضه عليهم من الاقتراحات لرد هذه الأسلحة أو رد
بعضها رفضًا باتًّا.
وعلاوةً على ما تقدم فإن التغلب على البلاد الجبلية في اليمن محفوف بأخطار
ومصاعب جمة إذا كانت الحال ملائمة لذلك؛ لأن البلاد وعرة المسالك تتخللها
الجبال والهضاب من جميع الأنحاء فتجعل المواصلات أمرًا صعبًا جدًّا إن لم نقل
محالاً، وفيها كثير من المعاقل الطبيعية ويسكنها قوم أشداء عُرفوا بالبسالة والإقدام؛
لأنهم شبوا على الحرب وشن الغارات؛ ولأنهم مستكملو العدة والسلاح، نعم إن
التمرس والتدرب على القتال يعوزانهم ولكنهم متحدو الكلمة تراهم قلبًا واحدًا ويدًا
واحدة في الذود عن كل ما يوجب إذلالهم وإخضاعهم) اهـ.
(المنار)
يعتقد الكاتب أن الدولة لا تستطيع إخضاع اليمانيين بالقوة، ثم هو ينصح لها
بأن تأخذ منهم أسلحتهم فكأنه ينصح لها بأن تستمر على إنفاق الملايين مما تقترضه
من أوربة بالربا الفاحش وعلى بذل دماء الألوف من المسلمين كل عام لأجل أن
يهلك الفريقان ويكونا غنيمة باردة للطامعين فيهم جميعًا. ولو كان مخلصًا في
نصحه لاستنبط من علمه واختباره أنه يجب على الدولة وهي لا يمكنها إذلالهم
وإخضاعهم أن ترضى بأن يتولوا أمور أنفسهم بمساعدتها تحت سلطتها وأن تؤلف
منهم قوة يحمون بها بلادهم من الأجانب إذا اعتدوا عليها ويكونون عونًا للدولة عند
الحاجة إليهم. فحسبها أنها حاربتهم أربعة قرون وخسرت في ذلك الملايين من
الرجال وبذر المال، ولم تستفد في مقابلته شيئًا قط.