أو نقد شرح ديوان أبي تَمَّام لأديب متنكِّر (تأخرت عدة أشهر)
للنقد على العلم فضل يُذكر، ومِنَّة لا تُنكر، فهو الذي يجلو حقائقه، ويميط عنه شوائبه، بل هو روحه التي تنميه، وتدني قطوفه من يد مجتنيه، وإذا أبيح النقد في أمة واستحبه أبناؤها، وعُرضت عليه آثار كُتَّابها، كان ذلك قائدًا لها إلى بحابح المدنية , وآية على حياة العلم فيها، الحياة الطيبة التي تتبعها حياة الاجتماع وسائر مقومات الحضارة والعمران. وقد بدأ مؤلفو العربية وكتابها يشعرون بفوائد النقد وما يعود عليهم من ثمراته الشهية فأخذوا يعرضون آثارهم على النقّاد ويطلبون منهم تمحيصها وبيان صحيحها من فاسدها. وبالأمس اطَّلعت على ديوان أبي تمام المطبوع حديثًا في بيروت فوجدت شارحه الفاضل قد اقترح على المشتغلين باللغة نقد ما علَّقه عليه من تفسير غريبه وحل رموزه , وأبدى من الرغبة في ذلك بحيث عين جائزة لمن عثر فيه على عشرة أغلاط فأكثر. فأكبرت صنيعه، واستدللت منه على كِبَرِ نفسه، وعلو همته، وشدة شغفه بخدمة العلم وتقرير الحقيقة، وها أنذا قد أجبت سُؤْله , ووافيت رغبته في الإشراف على ذلك الشرح ثم نقد ما تبين لي أنه رمى في تفسيره إلى غير معناه، وحمله على غير ما أراده قائله منه، قال: (ص٢) : قد كان خطب عاثر فأقاله ... رأي الخليفة كوكب الخلفاء (العاثر: الساقط , والإقالة: الأخذ باليد) . حقيقة العثار أن يعثر الرجل بحجر أو بذيله مثلاً فيسقط , وإذا عثر قيل له: لعًا لك , أي انتعاشًا ونهوضًا. قال في الأساس: ومن المجاز عثر في كلامه وعثر الزمان به وجدّ عثور اهـ , وعثار زمان المرء وعثار جدّه: كناية عن تحول حاله ومفاجأة النوائب له. وحقيقة الإقالة فسخ البيع وإبطاله , قال في الأساس: ومن المجاز أقلته العثرة صفحت عنه. ومجاز الإقالة يستعمل مع مجاز العثار. فقول شاعرنا: خطب عاثر فأقاله.. إلخ هو من المجاز في الكلمتين , وكما يقال: زمان عاثر أي سيء يقال: خطب عاثر أي سيء فظيع منكر. ثم قال: إن رأي الخليفة أقال ذلك الخطب العاثر أي أبطله وفلّ غربه وأزال ضرره عن الناس , فالعاثر في البيت ليس المراد منه حقيقته وهي الساقط كما قال الشارح , وإنما المراد مجازه , كما أن المراد بالإقالة مجازها وتفسير الشارح لها بالأخذ باليد ليس من حقيقتها ولا مجازها، على أن ذلك التفسير يأتي على البيت من قواعده لأن الخطب إذا عثر وأخذ الخليفة بيده فقد أنعشه ونشطه , والشاعر يرمي إلى غير هذا. وقد فسر الشارح الإقالة أيضًا في الصفحة ١٩ برفع العاثر من سقوطه وهو غير وجيه لما سمعت. (ص٣٢) فسيحوا بأطراف البلاد وارتعوا ... فنا خالد من غير درب لكم درب (الفناء: عتبة الدار) الفناء: الفسحة تكون أمام الدار أو حواليها أما العتبة فهي أسكفة الباب السفلى أو العليا. والوصيد: الفناء والعتبة , فإذا قيل: الفناء هو الوصيد؛ أريد من الوصيد أحد معنييه وهو فسحة الدار لا المعنى الآخر وهو عتبة بابها. (ص ٥٩) نسائلها أي المواطن حلت ... وأيّ بلاد أوطنتها وأيَّت (أيَّت: أقامت) أيَّت: تأنيث أي الاستفهامية كأنه يقول: وأية بقعة تبوَّأتها وتكرارها هنا كتكرارها في قول الشاعر * بأي كتاب أم بأية سنة * وورود تأيَّا بمعنى توقف وتمكث , لا يجيز لنا استعمال أي بمعنى أقام كما لا يجوز لنا أن نقول: باء بالمكان بمعنى تبوأه , وإنما رسمت تاء أيت هنا مفتوحة مع أن الأصل كتابتها مربوطة ابتغاء مشاكلة القوافي في مثل (النجات) في قوله: (وآله وصحبه الثقات ... السالكين سبل النجات) (ص٦١) وأحيا سبيل العدل بعدد ثوره ... وأنهج سبل الجود حين تعفت (أنهج: قوَّم) أنهج السبيل: أوضحها وأظهرها بعد عفائها واضمحلالها. وقوَّمها: عدلها بعد اعوجاجها والتوائها. (ص ٦١) به انكشفت عنا الغيابة وانفرت ... جلابيب جور عمَّنا واضمحلت (انفرت: انقطعت) الفري: القطع , يقال: فريت الأديم أي قطعته , وانفرى الأديم: انشق , وإذا أسند إلى مثل الجلابيب فسر بالانكشاف والانحسار مثلاً. ومثله تفرَّى الليل عن بياض النهار أي انكشف , ومن هذا القبيل جاب ومعناه قطع كقوله تعالى: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (الفجر: ٩) فإذا قيل: انجابت الظلمة , أو انجاب الظل فُسّرا بانكشفت وتقلص مثلاً. (ص ٦٤) إن الهموم الطارقات موهنًا ... منعت جفونك أن تذوق حثاثا (موهنًا: ضعيفًا) الوهن له معنيان: (١) الضعف (٢) بعد ساعة من الليل أو نحو نصفه , أما الموهن فمعناه الثاني منهما. فإذا قالوا: الموهن الوهن عنوا بعد ساعة من الليل أو نحو نصفه لا الضعف. والطارقات الملمات ليلاً , فالموهن في البيت بالمعنى الثاني. (ص ٦٦) من كل رعبوبة تردَّى ... بثوب فينانها الأثيث (فينانها: المتفنن في نسجه) يطلق الفينان على الرجل الكثير الشعر , ويطلق أيضًا على نفس الشعر الكثير الكثيف تشبيهًا له بأفنان الشجرة إذا التفت وتكاثفت , فالفينان من الفنن وهو الغصن , والشاعر يقول: إن تلك الرعبوبة لبِست ثوبًا من شعرها الكثيف. (ص٧٢) أشلى الزمان عليها كل حادثة ... وفرقة تظلم الدنيا لنازحها (أشلى: دعا) أشلى إذا عدي إلى مفعول واحد كان بمعنى دعا , وإذا عُدي إلى مفعولين ثانيهما بحرف الجر (على) كان بمعنى أغرى , فإذا قلت: أشليت الناقة والكلب أردت دعوتهما , وإذا قلت: أشليت الكلب على الصيد؛ أردت أغريته عليه. فأشلى في البيت بمعنى أغرى. (ص١٠٠) في كل يوم فتوح منك واردة ... تكاد تفهمها من حسنها البرد (البرد: المتبادر أنه جمع بريد وهو ما بين المنزلين) قال في شفاء الغليل نقلاً عن الفائق: البريد في الأصل البغل , وهي كلمة فارسية وأصلها (بريده دم) أي محذوف الذنب؛ لأنه يقال: إن دابة البريد كانت كذلك اهـ فعرّبوا (بريده دم) وخففوها إلى بريد فالبريد كلمة معربة معناها في الأصل: البغل الذي يحمل الرسائل بين البلاد , وكانوا يقطعون ذنبه ليكون ذلك كالعلامة له , ثم سمي الرسول الذي يركب البريد بريدًا , ومنه قول بعض العرب: الحُمى بريد الموت والحديث: (إذا أبردتم إليَّ بريدًا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم) وسميت أيضًا المسافة التي يقطعها البريد بالبريد ومنه قولهم * إن البريد من الفراسخ أربع *.. الأبيات , وقد أراد الشاعر أن الدواب التي تحمل أخبار انتصار الممدوح في غزواته تكاد تفهم ما حملته وتشعر بحسن وقْعه في النفوس. (ص١٠١) حلفت برب البيض تدمى متونها ... ورب القنا المنآد والمتقصّد (المنآد: المتحرك) أَوِد العود: اعوجَّ , وآوَّده وأوده: حناه وعطفه فتأود , وانآد: انحنى وانعطف , والمنآد المنحني والمعوج , فالشاعر يحلف بالرماح التي بوشر الطعن بها فمنها ما تكسر ومنها ما اعوج وانحنى من شدة الطعن. (ص١٠١) إذا ما دعوناه بأجلح أيمن ... دعاه ولم يظلم بأجلح أنكد (أجلح: شديد مقدام) يقولون: يوم أجلح وأصلع أي شديد , وقالوا: جلّح على الشيء من باب فرّح أي أقدم عليه إقدامًا شديدًا , وهو ليس بالثلاثي فلا يأتي منه التفضيل على أفعل. وعليه فأجلح في البيت وصف من الجلح وهو انحسار الشعر عن مقدم الرأس كالصلع أو أخف منه , يريد الشاعر أن الممدوح الذي فتك ببابك إن كانت جلحته مباركة علينا ودعوناه لأجل ذلك بأجلح أيمن؛ فهي مشئومة على بابك , وهو جدير أن يدعوه بأجلح أنكد. ونسبة اليمن والنكد إلى الصلعة معهود كنسبتهما إلى الوجه والطلعة. (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))