لسائح محب للمنار قال بعد رسوم الخطاب: وقد وصلنا إلى عدن منذ عشرة أيام، ولم نجد سبيلاً للسفر إلى حضرموت لعدم مصادفة ركب متوجه إليها، والأمل أن نصادفه عن قريب. وقد كررنا التوسم في معارفنا بعدن علّنا نهتدي لمن يقوم بنشر المنار فلم نجد كفؤًا لذلك إلا صاحبنا؛ إذ هو خير الموجودين ويجتمع لديه كثير من أهل عدن يوميًّا فعسى أن يستفيد بعضهم. وإن شئتم الاستعلام عن أحوال أهل هذا الطرف فهم أناس عمَّهم الجهل وغمرهم، ولهم اجتماعات على أكل القات؛ وهو نبت يشبه الشاي مشهور لعله مخدر أو مفرح كما قيل؛ لكن من المعلوم أنه متلف للمال مميت للوقت؛ إذ يضيع لأحدهم في الجلوس لأكله نحو ثلاث ساعات وهي قريب من ثلث عمره بعد إخراج الأوقات اللازمة للضروريات ويصرف بعضهم فيه يوميًّا من ثلاث ربيات إلى عشر ربيات بلا فائدة. ثم إنه لا يلذ لهم أكله إلا وهم مجتمعون في مكان مظلم وحولهم أباريق الماء يتلمظون به الجرعة بعد الجرعة وأمامهم المداعات (آلات التدخين) وبجوارهم جذور وأصول القات والعشب الذي يلف به ولا يلذ لهم حينئذٍ إلا الكلام الميت الفارغ إن كانوا من الأخيار، أو الملاعنة والسباب إن كانوا من غيرهم. ومع سخائهم ببذل عصارة أبدانهم - وإن شئت فسمِّها دية أنفسهم - في شراء ذلك النبت النحيس تراهم في معيشتهم مُقترين وبيوتهم وثيابهم وسخة إلا أناس قليلون إلا أن معاملتهم سيّما مع الغرباء حسنة إلا ما ندر ولهم صبر على الضيوف بالنسبة لغيرهم في هذا الزمان. ومعاملة الحكومة الإنكليزية للأهالي منها المشكور ومنها المذموم، ورئيس كل مصلحة له فيها تمام الاستبداد، والقاضي بالمحكمة الإنكليزية رجل فارسي له مدة طويلة؛ وهو في مركزه، والأهالي يحبونه ويذكرون عنه رفقًا وعدلاً ونزاهةً، والأمان فيها مستتب فلا تكاد تسمع بسرقة، والآن عندهم برد غير أنه حر بالنسبة لغيرهم إذ درجة الحرارة غالبا نحو ٨٦ فهرنهيت أي ٣٠ سنتكراد وأزقة عدن أكثرها وسخ قذر عفن سيما مع المطر؛ إذ نزل منذ يومين مطر بلَّ الأرض وغمرها فصار الناس يخوضون في الأزقة بالنجاسات والقاذورات إلى نصف الساق كأنهم في الجمالية بمصر حتى بخرت الشمس تلك الرطوبات ولذلك ترى الحميات العفنة فيها كثيرة، وحركة التجارة فيها مشكورة. والحكومة الإنكليزية مهتمة بتوسيع دائرة نفوذها ولها مركز في جهة اليمن يسمى الضالع يبعد عن عدن ١٤٠ ميلاً؛ أي: مسير ستة أيام بسير القوافل ولها فيه نحو ستة آلاف عسكري ولها في عدن وما والاها أكثر من أربعة آلاف عسكري جُلهم من الهنود، والجمال التي تشتغل بنقل المهمات يوميًّا نحو أربعة آلاف جمل. وقد أرادت أن تستولي على جهات جبل يافع المشهور فأرسلت أحد أبالستها إلى أمير الجبل المسمّى في جهته سلطان الجبل فأطمعه في رشوة كبيرة على دخوله تحت حماية الإنكليز واستدرجه حتى وصل به عدن وبوصوله تنسَّم بعض أهالي الجبل من سكان عدن بعض الأسرار فذهب إلى قومه منذرًا فاجتمعوا وتم رأي كبارهم على عزل الخائن وإهدار دمه هو ومن ساعده وأقاموا لهم أميرًا آخر فلما بلغ هذا الخبر إلى عدن ضاق واليها به ذرعًا وتحيّر الخائن ولم يدرِ أين يذهب؟ ! ثم عمل الإنكليز على الانتقام من أهالي يافع فأرسلوا شرذمة من عساكرهم التي بالضالع إلى جبل شعيب وهو أول حدود جبل يافع وبينه وبين الضالع مسيرة يومين، فصمم عرب تلك الجهة على الهجوم على العسكر ليلاً وأنذر بهم الإنكليز فانسحبوا راجعين إلى الضالع. وربّما كان أهل لندن لم يستحسنوا فتح حرب اليمن قبل انتهاء حرب السومال. والمناوشات بين العرب وعساكر الإنكليز مستمرة لا يخلو منها أسبوع غالبًا حتى فيما قارب عدن؛ إذ منذ أيام قطع الطريق رؤساء قبيلة تبعد عن عدن نحو ٢٤ ميلاً لقطع الإنكليز راتبهم عنهم وهو ٥٠٠ ربية كل شهر وقد تحصن ٤٠ نفسًا من العرب في رأس جبل ومعهم بنادق مارتين، وخرج إليهم من الهنود مئتا جندي ثم لحقتهم فرقة أخرى نحوهم وبعد المحاربة ببضع ساعات انهزم الهنود وقتل منهم نحو أربعين منهم ضابط إنكليزي وجُرح كثيرون؛ منهم كبير تلك الفرقة، وقُتل من العرب تسعة نفر، ويقال: إن الحرب ستجدد عليهم. والحروب مستمرة في سواحل حضرموت وقد أمد الإنكليز أمير المكلا ببنادق مارتين ومدافع قدموها له مع أحد بواخرهم الحربية، أما جيش أمير المكلا بقيادة ابنه الذي قدمه إلى جهة حجر في أوائل رجب فقد عاد منهزمًا؛ لأن البدو كمنوا له في بعض تلك الجبال وصارت بين الفئتين مناوشة طفيفة انسحب بسببها جيش صاحب المكلا؛ غير أن الخسائر من الطرفين لا تذكر. ولم يزل أمير المكلا يحشد الجنود وقد اجتمع له نحو أربعة آلاف رجل للحملة على حجر واجتمع نحو ستة آلاف من البدو للدفاع عن أوطانهم وأتى وفد من السادات للصلح بين الطرفين وستكون الحرب أو الصلح وهو الأقرب في أثناء رمضان. وأما أخبار السومال فهي كثيرة جدًّا لكن لم أثق بصحتها فلا أتعبكم بقراءتها ومن مجموعها يفهم أن الانكسارات تعددت على الإنكليز وأن جنود المنلا أو الرداد كثيرة جدًّا وعنده بعض ذخائر وسلاح لا كما تزعم الجرائد نقلاً عن المصادر الإنكليزية. أما اليمن التركية فحالتها تعيسة جدًّا ولا بد أن يكون بلغكم ما فعل بعض قبائل عسير وأنهم غدروا بسبعة طوابير [*] صغار من الترك فقتلوهم إلا نحو ثلاثين نفرًا تمكنوا من الهرب والسبب في ذلك طغيان الترك وظلمهم المكرر وعدم الإنصاف، وإذا لم تنتبه الحكومة التركية فإنها تتسبب في إهلاك الرعية والعساكر والبلاد والمال.
(المنار) قد ذاكرنا بعض الإنكليز هنا في مسألة تعديهم في جهة عدن على العرب مع شدة بأس العرب وعدم أمن من يدخل بلادهم من الفتن والثورات الدائمة فقال: إننا نعلم هذا حق العلم ولا رغبة لنا في فتح شيء من تلك البلاد؛ وإنما جل قصدنا أن تكون عدن في أمن دائم من العرب، وكل ما يكون هناك من المناوشات فسببه اعتداء العرب، والمدافعة ضرورة لا بد منها وهي لا تقف عند حد معلوم.