للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من جاوه

(س ٣٧ - ٤٢) من صاحب الإمضاء في سمبس (برنيو)
مولاي الأستاذ المصلح العظيم صاحب المنار الإسلامي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإني أرجو أن تتفضلوا بالجواب عن أسئلتي الآتية بأسرع ما أمكن فإنه قد
حمي في جهاتنا - الملاوية الآن - وطيس التنازع والتخاصم فيها بين أهل التقليد
الجامدين، وبين محبي الإصلاح والمصلحين، وإنني أرى أن عاقبة ذلك غير
محمودة فإن ضرره أكبر من نفعه، وهي:
١ - هل يجوز لأحد تلقين الميت بعد الدفن بنحو ما ورد من حديث أبي أمامة
أم يحرم عليه؟ وهل هو بدعة ضلالة أم لا؟ وقد قرأت قولكم في (ج ٦، م ١٧
من المنار) ما نصه:
وجملة القول أن التلقين لم يثبت بكتاب الله ولا بسنة رسوله ولا قال أحد من
المحققين إنه سُنَّة، بل قال بعض الفقهاء باستحبابه للتساهل في العمل بالحديث
الضعيف والاستئناس له بما يناسبه، والبرماوي ليس قدوة، وكم في كتب أمثاله
وكتب مَن هم أعلم منه من البدع، فلا ينبغي لأحد أن يثق إلا بما يصرح المحققون
بثبوت نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور السلف دون ما يذكر غفلاً.
أفلا يجوز لأحد اتباع بعض هؤلاء الفقهاء الذين قالوا باستحبابه للتساهل في
العمل بالحديث الضعيف في ذلك؟ .
٢- هل يجوز التلفظ بنية نحو الصلاة تبعًا لما قال الإمام النووي في المنهاج:
ويندب النطق قبل التكبير. اهـ، أم لا لعدم وجود ذلك لا في الكتاب ولا في
السنة؟ .
٣- هل يجوز لأحد أن يصلي صلاة الحاجة عملاً بحديث عبد الله بن أبي
أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن كانت له إلى الله حاجة أو
إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم ليصلِّ ركعتين وليثن على الله
تعالى) .
الحديث رواه الترمذي وقال: حديث غريب. اهـ الجزء الأول من المغني
للإمام ابن قدامة وميدان هذا التنازع والتخاصم جريدة (سوْدارا) الملاوية التي
تصدر في فلفلان.
٤- هل المدارس العالية بمصر تضاهي المدارس العالية في أوربا كإنكلترة
وفرنسة وألمانية وسويسرة وهولندة في جميع العلوم والفنون واللغات التي تعلم فيها ما
عدا اللغة العربية والعلوم الدينية الإسلامية أم لا؟
٥- هل موظفو حكومة مصر الذين ترقوا إلى مناصب الوزارة تعلموا في
مدارسها فقط أم تعلموا أيضًا في إحدى مدارس أوربا العالية وتخرجوا بها أم لا؟
٦- هل يصح قول قائل: لا عبرة بعلوم مَن تخرج بأعلى مدارس مصر -
أي العلوم الأوربية العصرية ولغاتها - بالنسبة إلى علوم مَن تخرج بإحدى
المدارس الأوربية العالية؛ فإن مدارس مصر العالية تنقصها لغات أوربية وغيرها
من العلوم التي تعلم في المدارس الأوربية.
هذا، وتفضلوا بقبول فائق تحياتي الزاكية وتسليماتي الطيبة.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
مقدمة لجواب المنار
في ضرر التفرق والاختلاف في الدين
اعلموا أيها الإخوان المختلفون في هذه المسائل، وليعلم كل المختلفين في
أمثالها من المسائل الاجتهادية، أي غير المجمع عليها، أن التفرق والاختلاف في
الدين من أكبر المفاسد وأضر المآثم، وأن كلًّا مِنْ فِعل هذه الأشياء وتركها أهون
من التفرق والتعادي لأجلها، فإن من فعلها ثقة بعلم من قال بها حسن النية، ومن
تركها لعدم الثقة بدليلها حسن النية، ولكن من يشاقّ طائفة من إخوانه المسلمين
لمثل هذا لا يكون إلا متبعًا للهوى، وإن أصاب فيما احتج وادعى، فإذا ترك كل
فريق الشقاق والقدح في المخالف له، واكتفى ببيان ما عنده من الدليل ونشره فلا
بد أن ينتهي الأمر بانتصار الدليل الصحيح القوي على ما له شبهة الدليل {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) - {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٥)
- {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) .
اتفق العلماء على أن المراد برد المسائل المُتَنَازَع فيها إلى الله الرد إلى كتابه
والمراد بالرد إلى الرسول بعد وفاته الرد إلى سنته. وشبهة المقلدين الذين تقوم
عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله أن المشايخ الذين يقلدونهم أعلم بالكتاب
والسنة من مورِد الدليل عليهم منهما، وهذه شبهة واهية؛ لأن الله تعالى يحاسب
الناس على العمل بما علموا من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا بما قال
هؤلاء المشايخ، ولأن مورد الدليل معه من العلماء الآخذين به مَن هم أعلم من
أولئك العلماء الذين قلدوهم بدون دليل أو مثلهم، ومعه زيادة الدليل الذي يجب الرد
إليه فيما تنازع فيه العلماء. وإنما يعذر مَن يتبع من يثق بعلمه إذا كان اتباعه في
شيء لم يعلم حكم الله وحكم رسوله فيه.
وهاك أجوبة هذه المسائل، مع الاختصار في الدلائل.
(٣٧) تلقين الميت
بينا الحق في هذه المسألة بما نشرناه في المجلد السابع عشر ونَقَلَ السائل
خلاصته. وقد طبع في هذه السنين الأخيرة تسع مجلدات من كتاب (المجموع
شرح المهذب) للإمام النووي محرر فقه الشافعية وهو أدق كتب الخلاف المطولة
في بسط الأدلة على المسائل الخلافية، فرأيناه يعزو استحباب تلقين الميت إلى
(جماعات) من أصحابهم أي الشافعية ولا يذكر لهم مستندًا إلا حديث أبي أمامة الذي
ذكرناه في المجلد السابع، وينقل عن ابن الصلاح أنه قال: (إسناده ليس بالقائم،
لكن اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام) ثم يقول - أي النووي -: رواه أبو القاسم
الطبراني في معجمه بإسناد ضعيف ثم يقول بعد إيراده: قلت فهذا الحديث وإن كان
ضعيفًا فيُستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث
الفضائل والترغيب والترهيب.
وأقول: إن الحديث الضعيف لا يثبت به حكم شرعي، والمراد بتسامح بعض
العلماء في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب ما فيه تقوية لأمر مشروع دون ما
كان تشريعًا جديدًا لما لم يشرعه الله ورسوله، فمن الأول الحث على صلة الرحم
وكثرة ذكر الله والترهيب من المعاصي، ومن الثاني صلاة الرغائب وليلة نصف
شعبان اللتان قال فيهما النووي في المنهاج: (وصلاة رجب وشعبان بدعتان
قبيحتان مذمومتان) ذلك بأنهما وردتا في عدد معين وصفة معينة فكانتا تشريعًا
جديدًا، وقد شرحنا هذه المسألة مرارًا وذكرنا ما قاله الحافظ ابن حجر عن المحققين
في شروط العمل بالحديث الضعيف عندهم، وكم دخل على الأمة من البدع بهذا
التساهل.
وأما الاعتضاد الذي ذكره ابن الصلاح فقد بيَّن النووي مراده منه وهو حديث:
(واسألوا له التثبيت) أي للميت ولكن هذا دعاء يصلح معضدًا للدعاء للميت
بغير التثبيت مما هو بمعناه ولكنه لا يصلح معضدًا للتلقين، وذكر أيضًا وصية
عمرو بن العاص، ولا حجة في مثلها على هذا ولا غيره.
وإذا كان هذا كل ما عندهم في أوسع كتبهم فلا عذر لمن علمه إذا أصر على
تقليدهم في التلقين بشبهة أنهم أعلم ممن ينكره، والمنكرون له هم جمهور أئمة الأمة
وعلمائها من المجتهدين والمقلدين لسائر المذاهب ومنهم بعض علماء الشافعية كما
علم من عبارة النووي إذ لم ينقل اتفاقهم في المسألة، فالتلقين بدعة، وكل بدعة في
الدين ضلالة.
***
(٣٨) التلفظ بنية العبادة
هذه المسألة بيناها في المنار من قبل غير مرة، ونعود الآن فنقول: إن علماء
المسلمين أجمعوا على أن النية محلها القلب، ولكن قال بعض المؤلفين المقلدين من
الشافعية: إنه يندب أو يستحب التلفظ بها من باب الاحتياط للتذكر، وقولهم ليس
بشرع، ولم يذكروا عليه دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع أو عمل
بعض علماء السلف. وقد غلط بعضهم في فهم عبارة للإمام الشافعي ظن أنها تدل
على ذلك فصرحوا بأنه خطأ.
وعبارة الشيخ أبي إسحاق في المهذب هكذا: والنية من فروض الصلاة لقوله
صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأنها قربة
محضة فلم تصح من غير نية كالصوم. ومحل النية القلب، فإن نوى بقلبه دون
لسانه أجزأه. ومن أصحابنا من قال ينوي بالقلب ويتلفظ باللسان، وليس بشيء؛
لأن النية هي القصد بالقلب اهـ.
وقال النووي في شرحها: فإن نوى بقلبه ولم يتلفظ بلسانه أجزأه على المذهب
وبه قطع الجمهور، وفيه الوجه الذي ذكره المصنف وذكره غيره، وقال صاحب
الحاوي هو قول أبي عبد الله الزبيري إنه لا يجزئه حتى يجمع بين نية القلب وتلفظ
اللسان؛ لأن الشافعي رحمه الله قال في الحج: إذا نوى حجًّا أو عمرة أجزأ وإن لم
يتلفظ وليس كالصلاة لا تصح إلا بالنطق. قال أصحابنا غلط هذا القائل وليس مراد
الشافعي بالنطق في الصلاة هذا بل مراده التكبير. ولو تلفظ بلسانه ولم ينوِ بقلبه لم
تنعقد صلاته بالإجماع فيه، كذا نقل أصحابنا الإجماع فيه. ولو نوى بقلبه صلاة
الظهر وجرى على لسانه صلاة العصر انعقدت صلاة الظهر اهـ كلام النووي
وأنت ترى أنهم لم يسموا النطق باللسان نية ولا جعلوا له حكمًا.
وما ذكره الشافعي من التلفظ في مسألة الحج والعمرة ليس مرادًا به إلا التلبية
بهما أو بأحدهما عند النية، والتلبية مشروعة فيهما بالنص فليس المراد بها التعبير
عن نية القلب.
وجملة القول أن تلقين الناس أن التلفظ بالنية مندوب شرعًا - ابتداع وشرع لم
يأذن به الله، فالمندوب عند علماء الأصول: خطاب الله المقتضي للفعل اقتضاءً
غير جازم.
***
(٣٩) صلاة الحاجة
حديث ابن أبي أوفى في صلاة الحاجة واهٍ جدًّا رواه الترمذي من طريق فائد بن
عبد الرحمن الكوفي أبي الورقاء وقال إنه يضعّف في الحديث، وهذا أهون ما قيل
فيه، ومما قاله الإمام أحمد فيه: لو أن رجلاً حلف أن عامة حديثه كذب لم
يحنث.
وقال الحاكم: روى عن ابن أبي أوفى أحاديث موضوعة. فهذا الحديث
لا يعمل به حتى على قول من قال: إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في الفضائل
المشروع مثلها. فقد اشترط في ذلك أن لا يشتد ضعف الحديث، فكيف إذا كان من
رواية الكذابين والوضّاعين؟
ولكن التوسل بالصلاة لقضاء الحاجة ولغير ذلك مشروع، ويدخل في عموم
قوله تعالى:] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [وإنما الممنوع أن يُسند إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت عنه ويُعمل به على أنه ثابت.
***
(٤٠) مدارس مصر ومدارس أوربة:
لو كانت مدارس مصر العالية تضاهي المدارس العالية في أوربة لاستغنى بها
أهل مصر وحكومة مصر عن إرسال أولادهم إلى أوربة، ولكن بعض الذين تعلموا
في مصر أرقى علمًا من بعض الذين تعلموا في أوربة.
***
(٤١) في أي المدارس تخرَّج وزراء مصر
إن بعض الذين ارتقوا إلى منصب الوزارة في مصر قد تعلموا وتخرجوا في
مدارس مصر وبعضهم قد تخرَّجوا في مدارس أوربة، ويقال فيهم ما قيل في جواب
السؤال السابق. وإن سعد باشا زغلول الذي ارتقى إلى رياسة الوزارة ورياسة
مجلس النواب - وكان أكبر زعماء السياسة في مصر حتى دانت له رقاب المتعلمين
في أوربة وفي مصر جميعًا - لم يتخرج في مدارس مصر ولا مدارس أوربة، وقد
جاور في الأزهر ولكنه لم يأخذ منه شهادة العالِمية، وإنما تخرج بالأستاذ الإمام
تعليمًا وتربية، وأكبر ما استفاده منه استقلال العقل، وعلو الهمة، وقوة الإرادة،
والعناية بمصلحة الأمة، وقد تعلم اللغة الفرنسية ودرس بها علم الحقوق دراسة
مستقلة في الكبر ثم أدى امتحانها في فرنسا فنال الشهادة العالمية (ليسانس) .
***
(٤٢) النسبة بين المتعلمين في مصر والمتعلمين في أوربة:
قد علم من الجواب عن السؤالين السابقين جواب هذا السؤال من حيث العلوم،
وأما اللغات الأجنبية فإن الذين يتعلمونها في بلاد أهلها يكون أكثرهم أحذق لها
وأفصح فيها ممن يتعلمها في مصر، إلا بعض مَن تمرن على مزاولتها مع أهلها في
بلادهم وغير بلادهم، فالأستاذ الإمام كان أفصح نطقًا باللغة الفرنسية وأدق فهمًا من
أكثر من تعلموها في فرنسة وسويسرة الفرنسية، وهو قد تعلمها في الكبر على معلم
مصري، ولكنه كان يحضر دروس آدابها العالية في كلية جنيف عدة سنين، ومن
الغريب أنه ترجم كتاب التربية للفيلسوف سبنسر ترجمة حرفية بقصد التمرن
والتعلم، وقد اطّلع عليه صديقه قاسم بك أمين الذي كان يعد من أرقى مَن أتقن اللغة
الفرنسية في بلادها من المصريين ليصحح له الترجمة، وقد علمنا أخيرًا أن ما
صححه قاسم بك من مسودة الترجمة كان أبعد عن الصواب مما كتبه الأستاذ كتابة
تعلم وتمرن، ولكن سبب هذا ضعف قاسم أمين بك في اللغة العربية لا الفرنسية،
وكان الأستاذ هو الذي صحح له كتاب (تحرير المرأة) ، دون كتاب المرأة
الجديدة، ولا يخفى على مَن قرأ الكتابين أن عبارة الأول أفصح وأبلغ من عبارة
الثاني، وكان القياس العكس.